الألوان في السينما؛ الوصف بلا كلمات
8 د
في إحدى دور العرض السينمائية، جلس رجلان في الكراسي الأمامية. مال إحداهما على الآخر وقال: “هل سمعت بالخبر؟ سيُدخِلون الألون على الصور المتحركة!”.
دُهش الرجل لسماع مثل هذا الخبر، هل حقًا سيختفي الأبيض والأسود؟ لماذا يريدون إفساد كل شيء؟ تتحدث جماعة السينما الآن بشكلٍ سخيف، لدينا كل شيء؛ من الصورة إلى الحوار إلى التمثيل المُتقن إلى الدعابات والحركة التي تضيف المتعة، فماذا ستضيف الألون إلى الصورة؟!
البداية؛ ماذا أضافت الألوان للسينما؟
أصعب شيء أن تصف ما لا يمكن وصفه، كيف يمكنك أن تصف لأحد الأشخاص ما هو اللون الازرق أو الأحمر، أمر صعب، لا يمكن وصف الألوان لشخص لم يراها، لكن ما يمكنك فعله في هذا الوقت، هو أن تصف إحساسك باللون عند رؤيته، وهنا تختلف الرؤى، فيمكنك أن ترى الازرق لونًا مبهجًا، ويمكنك أن تراه يبعث الحزن والكآبة على النفس. الأحمر كذلك يمكن رؤيته لونًا للحب، أو لونًا للقتل والدم. الأمر كله نابع من الإحساس الشخصي باللون وما يمثله في النفس لا أكثر.
يقول المصور السينمائي الإيطالي “فيتوريو ستورارو” الذي عمل كمدير تصوير فيلم (Apocalypse Now – 1979)، أن مدرسة السينما لا تعلّم خريجيها الفَنّ بقدر ما تعلمهم تقنيات التصوير والتكنولوجيا الجديدة المستخدمة، وهو أمر جيد من وجهة نظره، لأنه لا يمكن لأحد أن يعلمك معنى أو فلسفة اللون، ومن وجهة نظري هذا صحيح، لا يمكن لأحد أن يعلّمك كيف تشعر باللون، لابد وأن تكتشف ذلك بنفسك.
دائمًا ما كان المخرج “يوسف شاهين” يقول أن السينما فَنّ بصري بالأساس، والمخرج هو الشخص الذي يريد أن يقول شيئًا عبر الصورة. هذا ما فعله المخرج “دي. دبليو. جريفيث” في فيلم (1916 – Intolerance). يتحدث الفيلم عن معاناة الحب عبر الزمن في حقب مختلفة من التاريخ، لكن لم يعبّر جريفيث عن كل حقبة بكتابة تاريخها عليها فحسب، بل أنه استخدم ألونًا مختلفة لكل حقبة ليفرق بينها وبين الحقب الأخرى.
وهذا ايضًا ما فعله “بينجامين كريستينسن” في فيلمه (Haxan) أو (Witches) الذي صدر عام 1922. الفيلم بالأساس يتحدث عن تأثير الخرافات على العقل، والتي يمكن أن تؤدي بالشخص إلى الأصابة بالأمراض العقلية مثل الهيستيريا وغيرها. وعلى الرغم من أن هذا الفيلم من المفترض أن يكون وثائقيًا، إلا أن كريستنسن أضاف بعد المشاهد التمثيلية لتعزيز فكرة الفيلم، الذي تم تقسيمه إلى أربعة أجزاء (فصول)، كل جزء أعطي لونًا مختلفًا عن الأجزاء الأخرى بحسب ما يريد أن يروية المشهد.
يمكن اعتبار هذه الأفلام إرهاصات أولية لاستخدام الألوان في التعبير عن اختلاف الزمان والمكان بين المشاهد. لكن ما فعله “إريك فون سترويام” في فيلمه (Greed – 1924) كان مختلفًا. يحكي الفيلم قصة زوجة طبيب أسنان تفوز باليناصيب، خلال الفيلم تطرأ تغيرات كثيرة على حياة الزوجة والزوج.
وعلى الرغم من أنه فيلمًا صامتًا، إلا أن سترويام أستطاع أن يقول كل شيء من خلال اللون الأصفر فقط، فكانت الأموال والسنة الذهبية التي وضعتها الزوجة بين أسنانها تظهران باللون الأصفر، وعندما أراد سترويام أن يقول أن الطمع سيطر على كل شيء، ملأ الشاشة باللون الأصفر كناية عن تحكم الأموال/ الذهب في حياة البطل، هكذا ببساطة ودون تعقيد، ظهرت الألوان في السرد السينمائي.
عام 1939، بدأ ظهور الالوان في السينما بوضوح في الأفلام، عندما استخدم “فيكتور فليمنج” الألوان في جميع مشاهد فيلمه الشهير (The Wizard of Oz). منذ ذلك الوقت، عرف المخرجون قيمة استخدام الألوان في ايصال المشاعر للمشاهدين، والتأثير على حالتهم المزاجية، كما فعل فليمنج نفس الشيء في فيلمه الشهير أيضًا (Gone with wind) والذي صدر في نفس العام.
أضلاع مثلث الألوان والتأثير على الحالة المزاجية
تقريبًا، كل لون له تأثير واضح على الحالة النفسية والمزاجية لنا جميعًا، وهذا ما لعب عليه المخرجين ببراعة من خلال أفلامهم، سواء عن طريق استخدامهم لبعض الألوان الباهتة لتوضيح أن هذا المشهد هو عبارة عن حلم، أو استخدام نفس الألوان الباهتة للتعبير عن الضيق والحنق، أو الإحساس بالملل، أو غيرها من المشاعر التي يتحكم بها المخرجون من خلال الألوان ودرجاتها المختلفة.
يمكن لكل مخرج أن يستخدم اللون كما يشاء، فكل الألوان لها معانٍ مختلفة لدى البشر، كلٌ بحسب وجهة نظره وشعوره باللون وحالته المزاجية عند رؤيته، فلا يوجد هناك فهرس أو قوائم تقول بأن عليك أن تستخدم اللون المُعين عندك التعبير عن الشعور المُعين.
اللون الأحمر مثلًا، يمكن أن يستخدم للتعبير عن الكراهية والغضب، وفي نفس الوقت يستخدم للتعبير عن الحب والشغف. كذلك الأخضر، يمكن استخدامه للتعبير عن الأمل والبهجة، ويمكن استخدام درجاته الباهتة للتعبير عن مكانٍ بلا حياة، وعند استخدامه على البشر للإشارة إلى الوَحش/ الشرير في هذا الفيلم.
مفتاح استخدام الألون، يقع بين مثلث مكوّن من ثلاثة أضلاع أساسية: (درجة اللون (Hue) – صفاء اللون (Saturation) – قيمة اللون (Value)). كل ضلع من هذه الأضلاع له استخدام في ايصال الشعور المناسب للمشاهدين، فتغيير أي عنصر من تلك العناصر، يغيّر تلقائيًا من مزاج الفيلم وأسلوبه. اللون الابيض كمثال، يمكن استخدامه بدرجة وضوح وصفاء قوية تعبّر عن الهدوء والسكينة، لكن عند تغيير درجته وصفاءه وقيمته، وجعله أقرب للأصفر، فسيعبّر في تلك الحالة عن الإرهاق أو الضيق.
لكن هذا المثلث لا يعمل بمفرده أبدًا، لا بدّ من وجود شيء آخر لإيصال المشاعر والحالة المزاجية بشكلٍ صحيح، هنا يأتي دور التوازن والإختلال. ولكل مخرج رؤيته الخاصة في التوازن والإختلال، من حيث تناغم وتناسق وانسجام الألوان المختارة مع بعضها البعض. هذا ما جعل بعض المخرجين يهتمون بالبحث في نظريات الألون، لمعرفة نظام الألوان التي يمكن أن تنسجم مع بعضها البعض والألوان التي لا تنسجم.
يعتبر المخرج “ويس أندرسون” من أفضل المخرجين الذي يستخدمون الألوان بتوازن وانسجام شديد. فيلم (Moonrise kingdom – 2012) كمثال استخدم فيه ويس ألوان الاصفر والبُنّي والأخضر بتناغم، حتى لا يحدث أي تباين واختلاف بينهم، لتصبح الصورة ممتعة ومريحة للنظر، ليس هذا فحسب، بل إن استخدام هذه الألوان معًا بهذا الشكل يستخدم طابع الفيلم النوستالجي أيضًا.
مثال آخر على استخدام التناغم والانسجام بين الألون هو فيلم (Amelie – 2001) من إخراج “جون بيير جونية”، والذي استخدم نظام ألوان لا يتعارض مع بعضه البعض، بل كل لون كان يخدم وجود اللون الآخر في المشهد، لذلك سترى الكثير من الأخضر والأحمر، الأزرق والبرتقالي، أو الأصفر والأرجواني. فإضافة توازن الألوان إلى الصورة، يعني إيصال المشاعر بشكل جيد إلى المشاهد ووضعه في الحالة المزاجية المناسبة.
يمكن استخدام التوازن أيضًا في وضع المشاهد في حالة مزاجية تتقبل سوداوية الفيلم، كما فعل “فرانسيس فورد كوبولا” في فيلمه (Apocalypse Now – 1979)، الذي استخدم فيه ألوان الأسود والأصفر لإضافة جو خانق للفيلم، واستخدم أيضًا اللون البرتقالي للغبار، للتعبير عن كثرة السموم المنتشرة في الجو.
أما المخرج الفرنسي العبقري “جون لو جودار” فقد استخدم نظريات إختلال الألوان في فيلمه (Pierrot le fou – 1965)، حيث استخدم جودار مجموعة متنوعة من الألوان في المشهد الواحد، لكنه لم يستخدم الألوان بعشوائية بس صاغها بشكل مناسب ليقول بأن الشخصيات تقف على مسافة محايدة بين كل الألوان والأنماط المختلفة، وهذا ما أعطى المخرج حرية التعبير عن أي مشهد كما يريد.
يمكن للمخرج ايضًا، أن يلقي بلون مختلف في أحد المشاهد بين الألوان المتناسقة، ليلفت نظر المشاهد، ويجبره على التركيز مع الشيء ذو اللون المختلف. جون بيير فعل هذا في فيلم (Amelie)، عندما وضع “أباجورة” زرقائة اللون في مشهد مكوّن من لوني الأصفر والأحمر، وفعلها أيضًا في مشهد صعود والد إيميلي من حمام السباحة، حيث جعل لون ملابس السباحة الخاصة به باللون الأحمر في مشهد مكوّن من الازرق الفاتح والاخضر.
الالوان في السينما كعلامة للتنبؤ بشيء ما
ولأنه لا يوجد قائمة مُعتمدة أو فهرس لربط الألوان بإحساس معين، فإن للمخرج مُطلق الحرية في ربط اللون بشيء محدد طوال الفيلم، كما فعل ويس أندرسون في فيلم (The Royal Tenenbaums – 2001)، ربط شخصية رويال تينمبام الذي قام بها الممثل جين هاكمان باللون الوردي الباهت، وعلى الرغم من أن الشخصية تقوم بفعل الكثير من الأشياء الشريرة، إلا أنك لا تستطيع أن تأخذها على محمل الجد بسبب لون الملابس التي ترتديها الشخصية.
في فيلم (Vertigo – 1958) ربط “ألفريد هيتشكوك” كل شخصية من الشخصيتان الرئيسيتان في الفيلم بلون مُحدد، حيث ربط شخصية سكوتي التي قام بأدائها الممثل جيمس ستيوارت باللون الأحمر، وربط شخصية مادلين التي قامت بأدائها الممثلة جيم نوفاك باللون الأخضر، وكلما ظهرت إحدى الشخصيات ظهر معها لونها المميز، فباب بيت سكوتي لونه أحمر، وسيارة وفساتين مادلين لونها أخضر، ونشهد لاحقاً في الفيلم تبادل الشخصيتين للونين في دليل على وقوعهما في حُبّ بعضهما.
أما في فيلم (Blue is the Warmest Color – 2013) استخدم المخرج عبد اللطيف كشيش اللون الأزرق في التعبير عن حالة أديل طوال الفيلم، فظهورها في كل مشهد يصبح مرتبطًا بهذا اللون. في الفيلم هناك خط درامي لقصة حب بين أديل وإيما، خلال هذا الخط، تتغير مشاعر إيما وأديل كلما تقدّم الفيلم، وكلما تغيرت فترة المشاعر، أصبح اللون الأزرق المحيط بأديل باهتًا، إلى أن وصلت في النهاية إلى قناعة ما، أظهرها عبد اللطيف كشيش من خلال أرتداء أديل لفستان أزرق خلال سيرها في الشارع الذي يكسوه اللون الرمادي (وهو اللون المعبر عن التردد وعدم حسم الأمور).
هناك الكثير من الأمثلة تخص ربط الألوان بالأشياء، فمثلًا ربط فرانسيس فورد كوبولا في فيلم (The Godfather) الموت باللون البرتقالي. وربط وونج كار-وي في فيلم (In the Mood of Love) ألوان فساتين الشخصية المختلفة – والتي وصل عددها إلى 21 فستان – بالحالة المزاجية للشخصية. أما زانج يمو في فيلم (Hero) فربط الألوان المختلفة (الأرزق والأخضر والأبيض والأحمر) بوجهات النظر المختلفة التي تحكي نفس القصة.
الألوان بطبيعتها شيء ساحر في حد ذاتها، فلكل شيء في الدنيا لون مخصص له يميزه عن باقي الأشياء الاخرى. وعلى الرغم من أن السينما فَنّ بصري، إلا أنها تبقى فنًا مؤثرًا في المشاعر بالأساس، لذلك أصبحت الالوان في السينما جزءً أساسيًا، يمكنه أن يصف ويقول الكثير بلا كلمات.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
مادة جميلة للغاية
مقال رائع ومُتقن إلى أبعد حد، أحسنت.