مراجعة فيلم «Contact»: عندما تُبدع الرواية ويُذهَل المشاهدون
5 د
عندما يتم اقتباس أفلام عن روايات أدبية، دائمًا ما نقع في معضلة هل هذا العمل سيكون على قدر جودة الرواية، أو سيكون لها نِدًا من الأساس؟ فعلى مدار تاريخ صناعة السينما تفاوتت تلك النسبة لصالح الروايات تارة، ولصالح الأعمال السينمائية تارة، واليوم لدينا حالة غريبة، الفيلم والرواية كلاهما هذه المرة على قدر متساوٍ من الإبداع والتألّق، ففيلم اليوم هو «اتصال – Contact» والمُقتبس عن رواية عالم الفلك والفيزياء الأشهر كارل ساجان، والتي تحمل نفس الاسم. فما هي تلك القصة وكيف وصلت لتصبح من أعلام أفلام الخيال العلمي المعاصرة؟ هذا ما سنتحدث عنه اليوم.
القصة
لطالما كانت شعلة الإنسان الداخلية تنبض بالفضول، وتقصي الحقائق والغوص بداخل الغرائب. كلمة “مجهول” تحمل سحرًا لكل شخص يطمح بأن ينزع الستار عن الذي يجهله، ويرفض كل الرفض بأن يكون جاهلًا أو موضع احتقار من ذاته.
القصة تحكي عن الفتاة «Ellie Arroway» التي فقدت أمها أثناء الولادة، وفقدت والدها في سن التاسعة، لكن ذلك لم يمنعها من السعي نحو حلمها في الفلك والرياضيات، لتصبح بعدها عالمةً شهيرةً في هذا المجال ومسؤولةً عن أطباق مهولة ترصد النبضات التي تأتي من الفضاء البعيد، في محاولة لاقتناص أي صورة من صور الحياة الذكية بالخارج.
وفي يوم تكتشف بأنّ هناك بالفعل حضارة أخرى تريد التواصل معهم، لكن ذلك الاكتشاف تتم محاولات عديدة للسيطرة عليه من قبل جهات أخرى تجد في ذلك خطرًا تارةً، وشرًا أخرى. فماذا ستفعل تلك الفتاة الشابة الطموحة ضد كل هذه العقبات؟ هذا ما يكشفه لنا كارل ساجان عبر الأحداث!
انطباع عن القصة
دائمًا ما تجذب انتباهي الحبكات التي تتناول قصص الخيال العلمي، وكيف للعلم أن يكون هو المسيطر والمتحكم في زمام الأمور بشكلٍ يقمع ذوي الآراء التعسفية، والتي ليس لها أساس من الصحة إلّا أهواء شخصية لا أكثر. لكن المميز أكثر في هذه الحبكة أنّها ليست تدور بالكامل حول العلم، فالعلم هنا يُعتبر الركيزة الأساسية في الأحداث، لكن ليس الجانب الوحيد منها. فقد جمع الكاتب بين الجانب العلمي، الدرامي، والفلسفي في العديد من الأوجه. خلق ذلك المزيج الذي جعل تلك الرواية وذلك الفيلم من روائع الأدب والسينما التي تستحق المُطالعة بين الحين والآخر.
والمميز أيضًا هو اقتران الغاية بالتميمة، فقد جعل الكاتب تميمة بالأحداث وهي (بوصلة) أعطاها زميل البطلة لها كهدية. ذلك، الزميل الذي مُعتقد تمام الاعتقاد بوجود الإله، وتلك البطلة التي تنكر وجود الإله تمام الإنكار.
ذلك المشهد ينم عن فلسفة التسامح وأننا جميعًا بشر، وكونك مختلفًا معي في رأي ما، ذلك لا يمنع أنّني أحبك وأقدر وجودك بجانبي كإنسان.
كاتب الرعب الأكثر تميزًا لوف كرافت كان يرى أنّ الرعب يكمن في المجهول، لكن كارل ساجان رأى أنّ المتعة تكمن في المجهول، وهذا ما حاول إيصاله على مدار الأحداث مع كل عقدة جديدة تظهر، وتُعتبر نقطةً تتراص بجانب أخرى لتكوّن سطرًا من النقاط غير المتناهية، والتي تقود نحو نهاية بعيدة تدفعنا بالتدريج إلى إضافة المزيد من النقاط بالمنتصف، وهذا هو مفهوم العلم الحديث. نقاط متراصة مستطردة في الزيادة للوصول نحو نهاية لم يتم تبينها بعد.
الشخصيات
الشخصيات من وجهة نظري حقًا مميزة، فلكي يصنع الكاتب تلك الحبكة المتناقضة الأحداث من أوجه عديدة، وجب عليه نسج شخصيات تتوافق معها، فكانت هناك شخصيات مستفزة، شخصيات مستنكرة، وشخصيات مُتخطية لكل الحواجز بشكلٍ يدفعك للجنون، وهنا يجب أن أركز على صياغة الكاتب لشخصية إيلي البطلة، وشخصية بالمر صديقها. شخصيتان نستطيع أن نقول عليهما أنّهما التضاد بعينه، شخص يؤمن بالإله بشدة، وشخص ينكر وجوده تمامًا. وذلك خلق بينهما نزاعات طفيفة على مدار الأحداث، مما وطد التصاعد الدرامي بشكلٍ جيد. بجانب أنّ ماضي إيلي ذاته منسوج ببراعة، والدوافع الكامنة فيه بالفعل كانت رصينةً وكافيةً لجعلها ما هي عليه الآن أثناء أحداث الفيلم، وما ستكون عليه بعد أن ينتهي. أمّا سائر الشخصيات فكانت منسوجةً لخدمة الحبكة، وخدمة البطلة.
التمثيل
في هذه النقطة سأهمّش جميع الشخصيات عدا اثنتين، إيلي، وهادن. Jodie Foster البطلة التي استطاعت خلال الأحداث أن تجسد عشرات الحالات النفسية المختلفة وبدقة متناهية تكاد تجعلك تجزم أنّ هذا ليس تمثيلًا، وعلى الأخص مشهد وجودها بداخل السفينة الفضائية الكروية وتنظر إلى الكون الفسيح بالخارج. تلك، حقًا كانت تعابير وجه غير طبيعية على الإطلاق، و John Hurt الذي أدى شخصية الملياردير هادن ببراعة منقطعة النظير، فكانت لخبرته التمثيلية عامل قوي جدًا في إخراج تلك الشخصية بالرزانة، والحنكة الفكرية والاقتصادية الكافية لجعلها أحد أرصن الشخصيات من حيث الأداء التمثيلي من وجهة نظري في الفيلم برمته.
الإخراج
مُخرج الفيلم هو Robert Zemeckis، بعضكم من الممكن أن يكون قد لا يعرفه، لكن يكفي أن نقول أنّه من أخرج الفيلم الشهير والذي يعتبر من روئع السينما، فيلم Forrest Gump. المخرج في هذا الفيلم عمد إلى المشاهد المفتوحة وأظهر فيها براعةً شديدةً، وأيضًا في المشاهد المغلقة استخدم زوايا الكاميرا والتقريب والتبعيد على أوجه الممثلين بشكلٍ أعطى للمشاهد الدرامية رونقًا مختلفًا تمامًا.
الموسيقى
لا أستطيع قول الكثير عن هذه النقطة، لكن سأكتفي بقول أنّها كانت مناسبةً للأحداث. فالفضل الكبير يعود للممثلين والحبكة في جعل هذا الفيلم ناجحًا، ولترشيحه للأوسكار، وللفوز بـ14 جائزة من ضمن 26 جائزة أخرى.
رأي شخصي
فيلم رائع بكل المقاييس ومشاهدته أكثر من مرة تفتح في عقلك آفاقًا جديدةً من المعرفة والشغف الذي لا يخبو تجاهها. ماذا تنتظر، هيا شاهده الآن، فهناك الكثير بالتأكيد في انتظارك.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.