20 عامًا على فيلم Fight Club: ما الذي تعرفه حقًا عن نفسك، إن لم تخض قتالًا قط؟
10 د
لا يُمكن أبدًا وصف فيلم Fight Club أو نادي القتال الذي صدر منذ عشرين عامًا مضت، بالفيلم بالعادي، أو السيئ، أو الرائع حتى، ربما أقرب وصف له من وجهة نظري هو أنّه فيلم صادم ومُخيف، فبالرغم من أنّه لا يحوي رُعبًا بالطريقة المعتادة، إلا إنّه يبعث الذعر في النفوس، فمن ذا الذي لا يرتعب من مواجهة نفسه؟
وهذا هو الشيء الذي يفعله فيلم نادي القتال، فأثناء مشاهدتك له، ستجد نفسك في مواجهة صعبة أمام نفسك، نفسك التي يراها النّاس، والتي تظنّ نفسك عليها، ونفسك التي تتمنى أن تكونها إذا أُتيحت لك الفرصة، بدون قيود، وبدون عواقب.
من أكبر ميزات الفيلم، كونه تجربة حقيقية يخوضها المُشاهد بنفسه، فمن الصعب جدًا ألّا يتفاعل المُشاهد معه، وتتصارع أفكاره مع الأفكار الغريبة التي على أغلب الظنّ، لم ترد على ذهنه من قبل، ويعود هذا الفضل في المقام الأول للقصة التي كتبها الكاتب الأمريكي تشاك بولانيك، والتي تعبث بالعقل فعلًا، ولنهايتها المفاجئة، والتي تُعدّ واحدة من أبرز نهايات الأفلام غير المتوقعة على الإطلاق، أضف إلى ذلك، لمسات المخرج العبقري ديفيد فينشر، الذي غيّر من القصة قليلًا، وأضاف الكثير من وجهة نظره الخاصة بالشخصيات والأحداث، والتي توائمت بشكل مثالي مع اتجاه وفكر الرواية الأصلية.
هذا الفيلم الذي أثّر في الكثيرين حول العالم، وليس في أمريكا وحدها، اعتبره البعض يُروج للفكر الفوضوي أو الأناركي، وهو أثر سطحي وخادع في الحقيقة، ولكن يُمكن القول أنّ الفيلم قد صنع بالفعل فوضى خلّاقة في عقول من شاهدوه، فكل هذا العبث، والعنف، كان له مغزى، وأثر، استقر عند من تفهّموا رسالة الفيلم، التي لم تكن تهدف أبدًا إلى الفوضى.
هذا المقال إهداء لكل مُحبي الفيلم، الذين لا يملّون من مشاهدته، في ذكرى مرور عشرون عامًا على صدوره، وسنقترب فيه من تفاصيل كثيرة تخص الفيلم، لذا لا يجب على ممن لم يُشاهدوه، أن يقرأوا هذا المقال.
تشاك بولانيك.. الصانع..
بعد فترة قصيرة من مشاهدة الفيلم، وخاصةً إذا أمعنت التركيز في الجمل الحوارية به، يُمكنك أن تعرف بسهولة أنّه مأخوذٌ عن عملٍ أدبي، وهو الشيء الذي ميّز الفيلم بشدة، خاصة مع تداول الكثيرون للعشرات من الـ Quotes أو الاقتباسات غير التقليدية للفيلم، والتي تُعبّر عن كاتب مُبدع، وشديد الذكاء. شاهد إعلان الفيلم:
الفيلم مأخوذ بالفعل عن أولى روايات الكاتب الأمريكي تشاك بولانيك (نادي القتال) -والتي قام بترجمتها العظيم د.أحمد خالد توفيق عن دار ميريت في عام 2005- ويمكن القول عن تشاك بولانيك ككاتب، أنّه مرهف الحس فيما يخص تعبيره بالكلمات، رغم أنّ أفكاره نفسها عنيفة ومتوحشة. ذلك الجمع الغريب والمُربك في الحقيقة، بالإضافة إلى سخريته اللاذعة، والمريرة أيضًا، كل هؤلاء ميّزوا بولانيك ككاتب كثيرًا، وأعطوا ثقل لنّصه الروائي الغارق في التفاصيل.
لذا نجحت الرواية، ونجح الفيلم، وكان صانع النجاح الأول هو تشاك بولانيك الذي صنع في نادي القتال ملحمة نفسية، بأسلوبه الأدبي الفريد من نوعه كما ذكرنا، ولتسلسل أحداث الرواية الشيّق، ولتلك الأفكار العبثية السوداء التي ملأ بها بولانيك الرواية، والتي لا تُفارق ذهن من شاهدوا الفيلم بسهولة.
الراوي.. التائه..
يبدأ الفيلم بالراوي (إدوارد نورتون)، الذي لا نعرف اسمه، ولكننا لاحظنا جميعًا أنّه ينسب إلى نفسه اسم “جاك”، رغم أنّنا علمنا في نهاية الفيلم أنّه يحمل اسمًا آخر، وسنجد أنّ الراوي استخدم هذا الاسم للتعبير عن نفسه وعن مشاعره، فذكر مثلًا، “أنا انتقام جاك المُصطنع”، “أنا حياة جاك الضائعة”، “أنا عَرقْ جاك البارد”، “أنا شعور جاك المُمضِ بالرفض” “أنا حاجة جاك للمفاجأة” وغيرها، ولكن لماذا اختار اسم جاك تحديدًا؟
يقول البعض بأنّه ربما لأن اسم جاك هو اسم شائع ومألوف جدًا في أمريكا، فهو يقال أحيانًا للدلالة على أي شخص عادي، مثلما يقولون، أيّ “جاك” يُمكنه أن يفعل ذلك، فالراوي هنا، يرى نفسه شخصًا عاديًا جدًا، لا يُميزه أي شيء عن أي شخصٍ آخر.
نحن نعرف جيدًا ما الذي يدور في عقل الرواي من خلال سرده للأحداث، لذا استطعنا أن نفهم هذا الشعور بعدم الرضا الذي كان يشعر به ناحية حياته، وعمله، وللأشياء بصفة عامة.
“كل شيء نسخة، من نسخة، من نسخة، من نسخة، من نسخة، من……”
كان الشعور الذي يُسيطر على الرواي هو الشعور بعدم جدوى الحياة، مما أفقده شهيته للحياة عامةً، ففقد لذة النوم، حتى فقد النوم نفسه، ولم يُساعده الطبيب الذي لم يشعر بمعاناته سوى بنصيحة، غيّرت مجرى حياة الراوي بالفعل.
كانت نصيحة الطبيب هي أن يذهب ليرى المعاناة على حق، وهي معاناة أصحاب الأمراض. وهي الفكرة التي نجحت كثيرًا مع الراوي، فمجرد مشاهدته لهذا الكمّ من العواطف والانفعالات، رغم كونها عواطف بائسة وحزينة، إلا أنّها أيقظت فيه الشعور بالحياة من جديد، لأن الشعور بالألم، فيه من الحياة، وفيه من التطهير، ما هو كفيل بأن يردّ الروح لمن فقدوا نعمة الإحساس بوجودها.
بدأ كل شيء يسير بصورة رائعة، حتى جاءت مارلا سينجر..
أقرأ أيضًا: ترشيحات “Netflix”: مسلسل Mindhunter..هل الشر صفة موروثة أم مكتسبة؟
مارلا.. اللامبالية..
يقول بعض النّقاد أنّ مارلا سينجر (هيلينا بونهام كارتر) كانت هي السبب الرئيسي في ظهور تايلر دوردن، لأنّها مثّلت للراوي صراعًا شديدًا، رفض أن يُفصح عنه لنفسه حتى، فهو أُعجب بمارلا، ولكنّه وياللغرابة، فعل عكس ما قد يفعله أي رجل في موقفه، وهو أنّه أبعدها عنه بغلظة، وربما يكون ذلك لخوفه من أن تُزيد مارلا سينجر حياته تعقيدًا وكآبة.
ما الذي نعرفه عن مارلا سينجر؟ القليل في الواقع، فمارلا سينجر هي المرأة الزاهدة في الحياة بشكل غريب حقًا، فوضوية الملابس والشعر، قليلة الكلام، ربما رآها الراوي تائهة في هذه الحياة مثله، ولم تعد تبالي بشيء كما يفعل، سحره ذلك الغموض، وتلك اللامبالاة.
تكشّفت مشاعر الراوي الحقيقية تجاه مارلا عندما شعر بالغيرة من علاقتها بتايلر دوردن، حتى هذه الغيرة لم تظهر بشكل صريح، ولم نر من الراوي اهتمامًا صريحًا بمارلا إلا قرب النّهاية، عندما عرف أنّ حياتها مُهددة بالخطر.
طبعا ناهيك عن القول الذي يقول بأنّ مارلا سينجر مجرد شخصية وهمية اختلقها الراوي، وما هي في الحقيقة إلا انعكاسًا لنفسه، كشخصية تايلر دوردن تمامًا. إذا راقت لك هذه الفكرة، فيمكنك أن تجد في هذا الموقع، الذي صنعه شخص أمريكي حرص على إخفاء هويته، العديد من الأفكار المُدهشة بخصوص ذلك، إلى جانب تفاصيل أخرى تخص الفيلم، والتي تحمل الكثير من الجنون.
تايلر دوردن.. المُلهِم
ومن منّا من لا يعرف تايلر دوردن (براد بيت)؟ تايلر الجذّاب، الساخر، صاحب الآراء الغريبة والصادمة، العبثي، الخبير بالحياة، العنيف، واللامبالي. تايلر الذي استطاع أن يُلهم الكثير من الرجال، حتى يؤمنوا بما يؤمن من أفكار جنونية. تايلر دوردن الذي ابتكر فكرة نادي القتال، الذي يقوم فيه الرجال بالقتال بالأيدي، لا لشيء، سوي أن يشعروا بأنّهم أحياء، غير مبالين بالألم أو الدم.
ومن منّا من لم تُلهمه كلمات تايلر عندما يقول:
“نحن لا نُصبح أحرارًا، إلّا بعد أن نفقد كل شيء”
أو..
“الأشياء التي تملكها، في النّهاية باتت تملكك”
أو..
“أنت لست وظيفتك، أنت لست حسابك في البنك، أنت لست العربة التي تقودها، أنت لست المال الذي تملكه في محفظتك”
أو..
“نحن نعمل في وظائف لا نُحبها، من أجل أن نشتري أشيائًا لا نحتاجها، كي نُثير إعجاب من لا يُعجبوننا”
وغيرها الكثير، فهل يُمكن لأحدٍ منّا أن يختلف مع أفكار تايلر هذه؟ لا أعتقد..
لفت نظري أحد المشاهد، والذي يقول تايلر دوردن فيه لأعضاء ناديه ذات يوم، أنّ عليهم أن يفتعلوا شجارًا ما مع شخصٍ في الشارع، أيّ شخص يختارونه، وأنّ عليهم أن يجعلوا ذلك الشخص يتغلّب عليهم في النّهاية، فما معنى ذلك؟ معناه ببساطة أنّ تايلر دوردن لا يُريد أن يدخل معارك لينتصر، بل إنّ كل ما يُريده، هو خوض المعركة نفسها، ولا يهتم أبدًا بمن سيفوز فيها.
في المشهد الذي لا يُنسى، عندما هدّد تايلر ريموند، وهو الرجل البسيط الذي يعمل في سوبر ماركت، بدا مشهد الرجل الذي كان يتوقع الموت في أي لحظة مؤلمًا فعلًا، ولكن الذي فعله تايلر دوردن بذلك الرجل، كان أمرًا رائعًا. فتايلر جعل ريموند يُواجه الموت على حين غفلة، جعله يعتقد أنّه سيموت في أي لحظة، أوشك على أن يسلب منه حياته، ولكنّه تراجع في اللحظة الأخيرة، بعدما أخذ عهدًا على ريموند أن يترك عمله التافه هذا، ويبدأ من الغد في تحقيق أحلامه، لاحظ أنّنا نتحدث عن أحلام ريموند وليس أحلام تايلر دوردن. هل تخيلت ما هي غاية دوردن النبيلة -برغم كل ما سيأتي لاحقًا- من الحياة التي يريد للبشرية أن تعيشها؟
“هذه هي حياتك، وسوف تنتهي في أي لحظة”
هذا هو أحد أهم المبادئ التي يؤمن بها تايلر، فهو الشخص الذي يعلم أنّه سيموت في أي لحظة، وذلك الخاطر هو ما يجعله يريد أن يعيش أيّامه في هذه الدنيا بحق، وكأنّها أيامه الأخيرة.
كما أن تايلر كان يؤمن بأنّ الحياة العصرية التي يعيشها في أمريكا بلد الحريّة والرفاهية، لا تجعل الإنسان يشعر بأنّه يحيا حقًا، وهو يرى أنّه كلما صارت الأشياء سهلة ومتاحة للجميع، كلما يتخلى الإنسان عن جزء من شعوره بالحياة، وهذا هو ما حدث بالفعل للعشرات الذين انضموا إلى نادي القتال، وكان على رأسهم راوي القصة.
إنّ الحديث عن تايلر دوردن وفلسفته في الحياة ليطول كثيرًا، ولكن في النهاية من المهم أنّ نوَضّح أنّ تايلر لا يريد أن يتذوق الألم أو يُذيقه للآخرين، قدر ما يُريد أن ينغمس في الحياة، بكل ما فيها من متعة وألم، أمّا المتعة فهو يسعى إليها بشكل غريزي، وأمّا الألم فهو يستدعيه بنفسه، أو يخلقه إن لزم الأمر. لذا، بالنسبة للراوي، فتايلر هو الشخصية التي كان يتمنى أن يكون عليها، بحبه للحياة، واندفاعه، وشجاعته، وفكره، ولزعامته التي جعلته مصدرًا للإلهام للرجال من حوله.
ديفيد فينشر.. العبقري
كان لا بد للفيلم من مُخرج قوي، كي يجيد التعامل مع كل هذا الجنون الذي تحويه رواية تشاك بولانيك، ولم يكن هناك أفضل من ديفيد فنشر كي يصنع هذا الفيلم بهذه الصورة الأقرب للكمال. ديفيد فنشر الذي أضاف الكثير من لمساته الإخراجية التي تدل على مخرج له رؤية خاصة، دقيق الملاحظة، وواسع الخيال.
يُمكننا أن نرى أول إضافات فينشر المُبدعة مثلًا في هذا التحذير الذي ظهر كوميض فلاش الكاميرا للحظات في بداية الفيلم ثم اختفى، وهي الرسالة المُذيّلة بتوقيع تايلر والتي يُوبّخ فيها قارئ هذا التحذير، الذي يقوم بتضييع لحظات ثمينة من عمره، كي يقرأ هذه الكلمات، ويسأله، هل عليه بأن يقرأ كل ما هو مكتوب أمامه؟ وهل عليه أن يُفكر بالطريقة التي يُفكر بها الجميع؟ ثم يطلب منه أن يترك شقته، وعمله، ويتوقف عن شراء الأشياء، ويبدأ في افتعال عراك، كي يُثبت أنّه على قيد الحياة.
أيضًا من الأشياء التي لفتت نظر المشاهدين دقيقي الملاحظة، وجود الكثير جدًا من المشاهد التي تحتوي على كوب قهوة (ستاربكس) المميز الشكل، والذي اعترف فينشر بأنّه وضع عمدًا كوبًا واحدًا على الأقل في كل مشهد من مشاهد الفيلم، تأكيدًا على رسالة الفيلم فيما يخص كثرة المستهلكون، ونمط الحياة المتكرر للبشر.
هذا غير الكثير من التفاصيل الأخرى التي اهتم بها فينشر، كي يظهر الفيلم في أصدق صورة ممكنة، فمثلًا حينما أراد فينشر بأن يجعل المشهد الذي يضرب فيه الراوي، تايلر دوردن بناءً على طلب الأخير، طبيعيًا قدر الإمكان، طلب فينشر من إدوارد نورتون أن يضرب براد بيت ضربة حقيقية، يُمكنها أن تؤلمه في الواقع، كما هو من المفترض أن يظهر لنا على الشاشة، وهو ما حدث بالفعل.
في الصورة السابقة نجد واحدًا من تلميحات عديدة، مرّرها فينشر إلى المُشاهد بصورة عفوية، وهي جملة، “أنا أحب نفسي” المكتوبة على الحائط، والتي تكررت أكثر من مرة، مُمهّدًا لنهاية الفيلم المدهشة.
أما مشهد النهاية فكان رائعًا، والذي جعل فيه فينشر، كل من الراوي ومارلا يظهران من الخلف، مُرتديان ملابس مُتشابهة، ومُمسكان بأيدي بعضهما البعض، بينما تنهار بنايات بطاقات الائتمان العملاقة أمامهما، ممّا يوحي بعصر جديد كليّا، تمامًا كما حَلمُ به تايلر.
استطاع ديفيد فينشر أن يتشرّب بذكاء فكر الكاتب تشاك بولانيك كما عبّر عنه بوضوح في الرواية، وأضاف عليه فينشر من التفاصيل، ما جعله يبدو مثاليًا كالرواية، وربما أكثر.
لا يُمكنك في نهاية الفيلم الصادمة والتي ستجعل الكثير جدًا من الأسئلة تقفز إلى ذهنك، سوى أن تُصيح كأغنية النهاية لفريق Pixies صارخًا “أين عقلي؟”، وتستعيد في ذهنك كل التفاصيل التي نسجها تشاك بولانيك بالأساس، ليصنع مفاجأة للمُشاهد، ولا يمكنك في أن تلتقط كل التفاصيل في مشاهدة واحدة.
في النهاية، لا يمكننا القول عن فيلم نادي القتال الذي يحتلّ المركز العاشر في قائمة أعلى الأفلام تقييمًا على موقع الأفلام الشهير IMDB، أنّه فيلم للرجال فقط كما انتشر عنه، فالفيلم عن البشر المحبطون بشكلٍ عام، الذين يعيشون في أزهى عصور التكنولوجيا، ولكن بلا حياة حقيقية، وما أكثرهم في واقعنا الحالي.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.