ثيمة الفشل في الثلاثين في أفلام غريتا غيرويغ
10 د
هناك أسئلة محددة لا نبدأ في طرحها إلاّ عندما نصل لعُمر معين؛ ما الذي أفعله بحياتي؟ هل أنا في الطريق الصحيح؟ وإلى أين سأمضي؟
ولأنَّ المآسي المشتركة تجعلنا نشعر بالانتماء والرضا والقبول؛ فإننّا نبدأ بالبحث ليس فقط عن إجابات للأسئلة التي تشغل بالنا، وإنما البحث عن أناس يشبهوننا مروا بما نمر به نحن الآن. وبالتالي لديهم القدرة على فهم مشاعرنا، طَمئنتِنا والتعاطف معنا، ومِن ثم منحنا دليلاً يساعدنا على تصحيح مسارانا أو يشجعنا على المضي فيه.
ولمّا كانت المشاعر والتجارب الإنسانية تمثل جوهر صناعة الأفلام السينمائية؛ فقد اتخذت الممثلة والمخرجة الأمريكية غريتا غيرويغ من أسئلتنا تلك ثيمة أساسية لأفلامها فمثلت وابتكرت شخصيات تشبهنا -إلى حد بعيد- وتمر -مثلنا- بنفس المراحل والمشاكل والصعوبات وتختبر نفس المشاعر كلما اقتربت من سنِّ الثلاثين.
الأسماء العديدة والحيوات المتعددة لغريتا
إذا ما نظرنا لأبرز الأعمال التي قدمتها (لعبت دور البطولة وساهمت في كتابة الحوار) غريتا غيرويغ حتى الآن: (Frances Ha, Mistress America, Lola Versus, Maggie’s Plan, 20th Century Women)
فإننا سنلاحظ بأنها دائماً تؤدي دور امرأة عمرها بين 27 و35، تعيش في مدينة نيويورك -لكن مظهرها العادي لا يعكس مظهر الفتاة النيويوركية النموذجية، خرقاء غريبة الأطوار تتلعثم في كلامها، لطيفة، مضحكة، مرحة تحب الاحتفال، لديها اهتمام بالثقافة والفن وتعيش حياة فوضوية غير مستقرة مادياً ومهنياً وعاطفياً.
“أنتِ شخصٌ طريف، هناك شيء ما نقي جداً بخصوصك،غبيٌّ قليلاً ولكنه نوع من البراءة ولأجل ذلك لا أستطيع إلا أن أحبك” (Maggie’s Plan)
ففي فيلم (Frances Ha) تؤدي غريتا دور”فرانسيس”؛ وهي راقصة بديلة -في إحدى فرق الرقص العصري- عمرها 27 سنة ولدت ونشأت في ساكرامنتو بكاليفورنيا لكنها درست في مدينة نيويورك واستقرت فيها بعد تخرجها من الجامعة؛ ويصور لنا الفيلم هذه المرحلة بالتحديد -مرحلة ما بعد الجامعة- حيث تجد فرانسيس نفسها عاجزة عن كسر دائرة الرفض والفشل والوحدة رغم محاولاتها المتكررة.
وفي فيلم (Mistress America) تمثل غريتا دور “بروك” والتي بالرغم من بلوغها سن الثلاثين إلا أنها لا تملك شقة خاصة بها ولا شهادة جامعية ولا وظيفة ولا المال الكافي لفتح مشروعها الخاص ولا حتى شريكاً لحياتها؛ كل ما تملكه هو الكثير من الطاقة والأفكار والأحلام التي لا تعرف ماذا تفعل بها.
وتُجسد غريتا في فيلم (Lola Versus) دور “لولا” الكاتبة التي ينهار عالمها عند بلوغها الـ 29 عاماً. فبعد أن كانت مخطوبة، سعيدة، مستقرة في شقتها الجميلة مع خطيبها وتخطط لحفل زفافهما وتُحضِّر لأطروحة الدكتوراه. تجد نفسها قد أصبحت فجأة؛عَازبة، مُشردة، مُفلسة وبَطّالة.
بينما في فيلم (Maggie’s Plan) تلعب غريتا دور “ماغي” الناجحة أكاديمياً ومهنياً؛ فهي متحصلة على شهادة ماجستير في إدارة الأعمال وماجستير في إدارة الفنون، وتشغل منصباً إدارياً في جامعة نيويورك كحلقة وصل بين الفن والتجارة -على حد تعبيرها- ولكنها فاشلة عاطفياً؛ فقد تجاوزت سن الثلاثين وما زالت عازبة ولا تعتقد أبداً بأنّ أيّ أحد سيحبها؛ لذلك تقرر أن تصبح أُماً دون أن تضطر لانتظار الشخص المناسب. إلاّ أنّ وقوعها في حب زميلها المتزوج ودخولها في علاقة معه يغير كل خططها بل وحياتها بطريقة لم تتوقعها أبداً!
أمّا في فيلم (20th Century Women) الذي تدور أحداثه حول الحياة في نهاية فترة السبعينات وبداية الثمانينات كما عايشتها مجموعة من النساء؛ تؤدي غريتا دور “آبي” الناشطة النسوية المتحررة التي درست الفنون في جامعة نيويورك. لكن إصابتها بسرطان عنق الرحم يحتّم عليها العودة لموطنها، كاليفورنيا بالتحديد لتستقر هناك وتعمل كمصورة فوتوغرافية في إحدى الصحف المحلية، لتعيش حياةً غير التي كانت تريدها.
ما هي التحديات التي تواجهنا في عمر الثلاتين؟
“أيّاً كان ما تظنه بشأن ما ستكون عليه حياتك؛ فقط إعلم بأنها لن تكون أبداً كما ظننت بأنها ستكون”
آبي – 20th Century Women
عندما نكون في عمر العشرين، نعتقد بأننّا نعرف من نحن وما الذي نريد أن نكون عليه؛ وبناءً على هذا نُحدد مسارنا في الحياة ونمضي فيه بيُسرٍ وثبات. لكن، ومع كل عام نقترب فيه من نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات نكتشف بأنّنا لم نعد نعرف ما الذي نريده بالضبط أو إلى أين سنتجه، فنبدأ بالركض هنا وهناك علنا نلحق في الوقت المناسب مع الآخرين دون أن يلاحظ أيُّ أحدٍ تأخرنا. ربما لهذا السبب تقول فرانسيس: “أنا متعبة، أنا دائماً متعبة” ألسنا كُلنا كذلك؟ ألا نشعر نحن أيضاً بالتعب طوال الوقت من القيام بالعديد من الأشياء غير المهمة فقط لنُثبت لأنفسنا ومن حولنا بأننا نقوم فعلاً بشيء مهم أو على الأقل قد اقتربنا من تحقيق شيء مهم؟!
“أنا مشغولة.. أنا لست فوضوية، أنا مشغولة”
تستمر فرانسيس في ترديد هذه الجملة لكن عندما يسألها أحدهم عن عملها تجيب بأنّه “أمرٌ مُعقد من الصّعب شرحه.. لأنها لا تمارسه فعلياً”. غير أنّ هذا لم يكن خطأها بالكامل. حتى لو بدت -طوال الفيلم- فتاة غير ناضجة تقضي معظم وقتها في الأكل والشرب، النوم، التدخين والسهر، مشاهدة الأفلام والتحدث عمّا تريده من الحياة. إلاّ أنّها لم تبكِ ولم تتذمر ولم تتوقف أبداً عن المحاولة بغض النظر عن عدد المرات التي تعرضت فيها للرفض والفشل؛ كانت فرانسيس دائماً تستمر في المضي قدماً. وربما لهذا السبب فشلت، لا لأنها ليست جيدة بما يكفي بل لأنها كانت بحاجة للفشل حتى تنضج. أفلا يكون هذا هو الحال معنا جميعاً؟ نفشل لننضج!
“أعتقد بأني مريضة ولا أعرف إن كان لمرضي اسم، أنا فقط أجلس وأحدق في الإنترنت أو التلفزيون لفترات زمنية طويلة تتخللها محاولتي بألاّ أفعل ذلك والكذب حول ما أفعله، ثم فجأة أشعر بالإثارة تغمرني تجاه أمرٍ ما وهذه الإثارة تغلبني فلا أستطيع النوم أو فعل أي شيء آخر. وأقع في حب كل شيء، لكن لا يمكنني تحديد ما أفعله في العالم أو كيف أناسبه”.
بروك – Mistress America
بروك أيضاً بدت ضائعة مثل فرانسيس. فعلت كل شيء ولا شيء؛ أرادت أن تصبح مشهورة وغنية مع أنها لم تكن تملك المهارات المناسبة أو المال الكافي لتحقيق ذلك، شغلت العديد من الوظائف المؤقتة لا وظيفة واحدة دائمة، قضت كل وقتها تركض بحثاً عمّن يموّل مشروعها الذي هو في الأساس مطعم ومتجر ومحل حلاقة ومركز لخدمة المجتمع كلهم مجتمعين في مكان واحد! وبمجرد عثورها عليه، تخلت عن حلمها، غيرت رأيها وانتقلت لفعل شيء آخر. كل هذا يعكس مدى الفوضى التي تعيشها بروك في داخلها وعن الأزمة الحقيقية التي تواجهها: من أنا وما الذي أريده؟
أقرأ أيضًا: “جريتا جيروج” و”نواه باومباخ” يحضران لفيلم “باربي”، والبطولة لـ “مارجوت روبي”
هذه الأسئلة بالتحديد اعتقدت لولا (Lola Versus) بأنها تعرف إجابتها فقط لمجرد أنها مخطوبة وستتزوج من نفس الرجل الذي عرفته طوال فترة عشريناتها، وكأنه بطريقة ما أصبح هذا يعرفها أو يحدد غايتها من الحياة وهو أمر صحيح نوعاً ما، لأنها كانت تعتمد على خطيبها في كل شيء -تسكن في شقته، يعيلها مادياً وهو من شجعها على مواصلة دراستها- بنت حياتها حوله. لذلك عندما تركها، انهار عالمها وتلاشى كل ما كانت تعرفه عن نفسها، وتحتم عليها أن تبدأ من جديد وتبحث عن نفسها، لا من خلال القيام بأشياء المفروض أنّها انتهت من فعلها قبل سنوات -كدخولها في علاقات فوضوية غير جادة مع رجال غرباء وعملها كنادلة- بل من خلال وقوفها لوحدها دون أن تستند على والديها، أصدقائها أو أي أحد آخر..
“أود الحصول على بعض الهدوء، عقلي لا يتوقف، أنا مهووسة باستمرار في التفكير حول كل شيء؛ الرجال والطعام ..أنا بحاجة للتركيز أن أكون قادرة على التواجد في هذه اللحظة الراهنة فقط“.
وإذا كنّا قد رأينا من خلال فرانسيس، بروك، آبي ولولا، الطريق الطويل الذي علينا أن نسلكه إذا لم نعرف ما الذي نريده من الحياة، فإننّا نرى من خلال ماغي (Maggie’s Plan) الطريق المختصر الذي سيقودنا مباشرة للحصول على ما نريده. فكيف هي الحياة عندما نحقق مبتغانا؟ هل سنكون سعداء أم أنه سينتهي بنا المطاف إلى الشعور بالفراغ وإلى التشكيك في اختياراتنا؟ وهل يجبرنا الخوف من مواجهة المطبات والالتواءات على اختيار الطريق الأسهل؟
فماغي أرادت أن تصبح أُماً، ولكنها لم ترد أن تنتظر حتى تتعرف على رجل ما وتقع في حبه ثم تنتظره -مجدداً- ليطلب الزواج منها ثم تناقشه وتأخذ موافقته في مسألة الحصول على طفل، لذلك لجأت إلى التلقيح الصناعي. وبمجرد بدئها في تنفيذ خطتها تعرفت على رجل متزوج يعاني من مشاكل في زواجه، وقبلت الزواج منه لتنقذه من بؤسه أولاً ولِتكوِّن معه الأسرة لتي طالما حلمت بها ثانياً. هكذا أرادت ماغي للأمر أن يبدو بينما هي في الواقع كانت خائفة من أنّها لن تحصل أبداً على فرصة كهذه، لذلك اختارت ما بدا لها أفضل وأسهل حل. نعم هي وصلت لخط النهاية؛ لكنها اختارت الطريق الخطأ وسنشاهدها طوال الفيلم وهي تحاول الرجوع عنه.
فالخوف يدفعنا إلى اتخاذ قرارات توحي لنا بأنه يمكننا السيطرة على حياتنا أو مباغتة القدر قبل أن يباغتنا دون أن يخطر لنا أبداً بأنّ ما نركض نحوه سيحدث على أي حال. لكن ممّا نخاف بالتحديد؟
تجيبنا “بروك” بشكل صريح ومؤلم:
“- سأصبح أسوأ حالاً الآن مما كنت عليه حتى قبل أن أبدأ في تحقيق شيء ما
– نعم، أعرف شعورك
– لا، أنت لا تعرفين! ولن تعرفي حقاً ذلك الشعور في رغبة شيء ما حتى تبلغي الثلاثين من عمرك؛ وبعد ذلك مع مرور كل سنة يصبح الشعور أقوى لأنك ترغبين بالمزيد ولكن قدرتك على تحقيق ما ترغبين به ضئيلة جداً، فكل عام من عمرك يمر أسرع من العام الذي قبله لأنه جزء صغير من حياتك الإجمالية ولكنه يمر بالاتجاه المعاكس”.
ويتكرر الحديث عن السِّن على لسان فرانسيس “هل أبدو كبيرة في السن؟” ولولا “أشعر بأني كبيرة في السن.. هل أبدو كبيرة في السن؟” فالتقدم في العمر هو أكثر ما نخشاه؛ نحن نخشى أن نكبر في السنّ دون أن نُمنح الوقت الكافي لنكتشف أو نحقق ما نريد، نخشى من الفشل والرفض والوحدة، من تقلص الفرص وتَبدُدِ الآمال والأحلام، نخشى من المستقبل ومن البقاء في نفس المكان نراقب سنوات عمرنا تضيع ولا نستطيع إرجاعها للوراء، إيقافها أو حتى مجاراتها.
كانت هذه لمحة عمّا يعانيه الإنسان المعاصر عموماً والنساء المعاصرات خصوصاً في عمر الثلاثين. قدمتها لنا غريتا غيرويغ في أفلامها، فجاءت كأنها أجزاء مكملة لبعضها البعض. تتابع حياة امرأة واحدة عبر مراحل مختلفة وتركز في كل فيلم على جانب مغاير من حياتها فنرى كل واحدة من الشخصيات تبحث عن الشيء الوحيد الذي ينقص حياتها في تلك الفترة بالتحديد، فواحدة تبحث عن الحب، وأخرى عن النجاح، الزواج، الأمومة أو تبحث عن ذاتها فقط -في تصوير واقعي لأطوار الحياة العادية التي قد نمر بها كلنا- لذلك يكاد يكون مشهد النهاية موحداً؛ تبدو فيه البطلات وقد زال عنهن تعب الركض المتواصل نحو المجهول؛ قويات متماسكات، تعلو وجوههن ابتسامة رضا، ينظرن حولهن في بهجة ودهشة غير مصدقات كيف استطعن النجاة من كل تلك الفوضى التي كانت تحيط بهن.
هل ستكون الأمور بخير عندما نبلغ الثلاثين؟
“أُحب الأشياء التي تبدو كأخطاء”
فرانسيس
في عوالم “واقعية افتراضية وسينمائية” مليئة بالأشخاص المثاليين؛ تحتفي “غريتا غيرويغ” في أفلامها بالأشخاص العاديين فتجعلنا نتوقف عن رغبتنا الدائمة وسعينا المستمر في أن نكون أشخاصاً مميزين، استثنائيين أو مثاليين. ونتقبل بحب ورضا أن نكون مجرد أشخاص عاديين يعيشون حياتهم دون قلق أو خوف مما قد يحدث أو لا يحدث. فالحياة الواقعية متقلبة؛ يصعب التحكم بها، ولن نعرف في كثير من الأحيان ما هي القرارات أو الخطوات التي اتخذناها وأوصلتنا إلى هذه اللحظة بالتحديد.
هذا ما حاولت غريتا إخبارنا به من خلال (فرانسيس، بروك، لولا، ماغي وآبي) الشخصيات التي شعرت وجربت واختبرت نفس الصراعات -النفسية والاجتماعية- مثلنا، فتشابهت بذلك مساراتنا وأقدارنا وستتشابه بالتأكيد مصائرنا. فإن استطاعت تلك الشخصيات الثلاثينية، الفوضوية، الفاشلة، الضائعة الوحيدة أن تنجح وتكون بخير، فسنكون نحن أيضاً بخير.
وهكذا تقدم غريتا غيرويغ في أفلامها؛ التعاطف، المواساة، الأمل والحب وذلك الشعور بأنك لست بمفردك وبأنّ حياتك حتى لو كانت تبدو متوقفة في مكانها لا تتحرك، إلاّ أنّها في واقع الأمر ليست كذلك. فكل ما تختبره وتمر به الآن من فشل وفراغ وخيبة وعجز… هذه السلسلة من اللاشيء هي التي ستصنع الفارق في حياتك؛ فأنت إن لم تخطئ وتتعثر كيف تعرف بأنك على الطريق الصحيح؟ الطريق الذي قد يكون سهلاً يسيراً للبعض وشاقاً طويلاً للبعض الآخر. وهذا بالضبط ما يجعل حياة كل منّا مميزةً وفريدةً ويجعل كل واحد منّا بطلاً رئيسياً في القصة، حتى لو بدا علينا بأننا مجرد شخصيات جانبية تلعب أدواراً ثانويةَ غير مُهمة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.