فيلم I, Tonya … رحلة البحث عن حقيقة “الحقيقة”!!
10 د
تقييم الفيلم:
ينتمي فيلم I, Tonya بشكل رئيسي إلى تصنيف أفلام السيّر الذاتية، وقد تم إنتاجه بميزانية متواضعة تُقدر بنحو أحد عشر مليون دولار أمريكي وهو رقم هزيل مقارنةً بمتوسط الميزانيات الإنتاجية المتعارف عليها بالوقت الحالي، تم عرض الفيلم للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان تورنتو السينمائي في سبتمبر 2017، وتلى ذلك عرضه بالعديد من المهرجانات الدولية، وقد تم ترشيح الفيلم لثلاث جوائز جولدن جلوب من فئات أفضل فيلم كوميدي أو موسيقي، أفضل ممثلة في دور رئيسي، وأفضل ممثلة في دور مُساند.
فيلم I, Tonya من تأليف ستيفن روجرز وإخراج كريج جيليسبي، ومن بطولة مارجو روبي، سيباستيان ستان، أليسون جاني، بول والتر هوسر، وجوليان نيكلسون.
قصة الفيلم
تستند أحداث فيلم I, Tonya إلى القصة الحقيقية لمسيرة إحدى أكثر الشخصيات الرياضية إثارةً للجدل، وهي تونيا هاردينج (مارجو روبي) متزلجة الجليد البارعة التي استطاعت الإقدام على تحقيق إنجازات لم يسبقها أحد إليه في تاريخ أبطال التزلج الأمريكيين، وبينما تمضي بخطوات واثقة نحو تحقيق حلمها الأكبر تتورط بإحدى القضايا، وتخضع للمُحاكمة وتصبح أكثر شخصية مكروهة من الجماهير، ويصبح مستقبلها الرياضي على المحك …
I, Tonya … بعثرة مُنمقة!
يمزج سيناريو فيلم I, Tonya بين النسقين الوثائقي والدرامي، حيث تُستهل أحداثه بمجموعة من المشاهد التي تصور لقاءً مع الشخصيات الرئيسية “تونيا، جيف، ليفونا” كل على حِدة، حيث يقدم كل منهم شهادته حول ما جرى قبل ثلاثة وعشرين عامًا، ومن ثم ينتقل عبر مشاهد فلاش باك درامية يستعرض من خلالها مسيرة تونيا هاردينج من الطفولة، وحتى الشباب.
استمر الفيلم على ذات المنوال طوال مدة العرض مُتنقلًا بين مقابلات المباشرة في الزمن الحاضر، ومشاهد الاسترجاع الراصدة لأحداث الماضية، وبناءً عليه فإنّه قد اختار الطريقة الأصعب على الإطلاق بين مختلف أساليب السرد، حيث أنّه يعرض الأحداث من خلال منظور عِدة شخصيات كل منهم يروي القصة حسب رؤيته، مع الالتزام بافتراضية أنّ الجميع لا يقول الحقيقة أو بالأحرى لا يقولها كاملةً لغرض في نفسه، أو أنّه – في حالة الصدق – يقدمها وفقًا لرؤيته وفي حدود المعلومات التي أُتيحت له، وبناءً على ذلك فقد لجأ الفيلم إلى إعادة تقديم أكثر من موقف بأكثر من منظور، وكان في كل مرة قادرًا على تغيير شعور المشاهد ورد فعله تجاهها.
غرابة أسلوب السرد المتبع في I, Tonya – خاصةً في النصف الأول – لم تقف عند عرض المواقف من وجهات نظر مُتعارضة، وتلقي شهادات متباينة حولها كل منها ينفي الأخرى، وأحيانًا يتهم صاحبها بالكذب والتدليس! … بل إنّ الفيلم لم يلتزم بترتيب محدد لعرض الأحداث، حتى أنّ الأمر اتسم بقدر كبير من العشوائية، وطرح أفكارًا وذكريات مُبعثرة دون الالتزام بتسلسل زمني ثابت، ثم يتم التوقف عند كل موقف والتعمق به والرجوع إلى جذوره … المميز حقًا هو أنّ العشوائية كانت مقصودةً ومتعمدةً ومصممةً باحترافية شديدة تضفي إحساسًا بالفوضوية، وتثير الأسئلة التي تجذب الانتباه، ولا تصل بالارتباك إلى الدرجة التي تُصيب المشاهد بالملل، أو يفقد معها شغفه بالمتابعة.
كما أنّ فيلم I, Tonya لم ينتصر في النهاية لأي وجهة نظر على حساب الأخرى، فهو قائم من البداية للنهاية على حوار تفاعلي بين الشخصيات الثلاث الرئيسية – وبعض الشخصيات المساندة – من جهة، وبين “المشاهد” من جهة أخرى، والذي عليه تحليل أقوالهم وجمع تلك القطع المبعثرة في سياق واحد للوصول إلى الحقيقة، أو بالأدق – أقرب تصور للحقيقة – والإبداع الحقيقي أنّه لن يجد صعوبةً في تحقيق ذلك!
أولويات الفيلم وولائِه الأول
يجمع فيلم I, Tonya بين مجموعة تصنيفات يُمكن إدراجه ضمن أي منهم، فهو فيلم سيرة ذاتية في المقام الأول وفيلم رياضي بالمقام الثاني، وكل هذا يدور في أجواء درامية ومُغلق بالكوميديا السوداء، لكن الحقيقة أنّ الفيلم لم يكن مُخلصًا بنسبة كبيرة لأي من هذه التصنيفات بما في ذلك السيرة الذاتية للشخصية المحورية تونيا هاردينج، إنما اتخذ من قصته خلفية لخلق قصة درامية يقدم من خلالها أطروحة فلسفية، وهي “الحقيقة النسبية”، وقد برع السيناريو والإخراج في طرح تلك الأفكار دون الإخلال بالنسيج الدرامي للفيلم، أو التأثير على متعة المشاهدة.
أولويات سيناريو فيلم I, Tonya كانت مُحددةً بدقة منذ المشهد الأول، ولم يكن استعراض أحداث الواقعة الأشهر في مسيرة تونيا الرياضية – والمتمثلة في التورط بقضية الاعتداء على إحدى منافساتها – من بينها على خلاف المتوقع، تلك الحادثة الشهيرة لم تشغل من مساحته الزمنية سوى القليل، وقد حالف صُنّاع الفيلم التوفيق في هذا الخيار فلا فائدة من إفساح المجال لحدث يعرفه المشاهد مُسبقًا، ولذلك انشغل بإجابة السؤال الأهم: ما الدوافع التي أدت إلى هذا الحدث؟ وما الملابسات التي أحاطت به؟
كذلك تعامل الفيلم مع تونيا باعتبارها حالة إنسانية وليست بطلة رياضية وشخصية عامة، وقد عَمد إلى التوغل في أعماق شخصيتها واستعراض أبرز التجارب والشخصيات المؤثرة في حياتها، والتي ساهمت في تكوينها النفسي، واتضح ذلك بصورة جلية في النصف الثاني، والذي ظل تركيز الفيلم الأكبر خلاله على الجانب الخفي من حياة البطلة بعيدًا عن الأضواء ووميض الكاميرات.
الأداء التمثيلي
كان تركيز فيلم I,Tonya الأكبر بطبيعة الحال على الشخصية المحورية كما هو معتاد في أفلام السيرة الذاتية، إلّا أنّه قام بذلك بأسلوب مختلف، فالشخصية هنا ما هي إلّا نتاج سلسلة من الصراعات النفسية المعقدة الناجمة عن علاقتها المضطربة بأقرب الشخصيات إليها، وبالتالي فُرض على سيناريو الفيلم إتاحة مساحة أكبر لتلك الشخصيات، والتركيز على أبعادهم النفسية وإيجاد ما يبرر من ماضيهم وتصرفاتهم في الحاضر، وكانت نتيجة كل ذلك حصول الشخصيتين المساندتين على نسبة ظهور تكاد تعادل نسبة ظهور البطلة.
مارجو روبي تونيا هاردينج
انطلاقة الأسترالية مارجو روبي في عالم السينما جاءت على يد مارتن سكورسيزي حين قدمها بفيلم The Wolf of Wall Street عام 2013، ومنذ ذلك الحين انحصرت مسيرتها ما بين أداءٍ باهتٍ في أفلام متوسطة مثل: Focus أو The Legend of Tarzan، أو اجتهادٍ مقبولٍ في أفلام سيئة مثل: تجسيد هارلي كوين في Suicide Squad.
انقلبت الأوضاع رأسًا على عقب في فيلم I, Tonya، حيث أظهرت مارجو روبي براعةً فائقةً في تجسيد الشخصية رغم ما تتسم به من تعقيد شديد على المستوى النفسي، وعلى مستوى التطور، فحياة تونيا هاردينج ما هي إلّا سلسلة طويلة من المآسي والحظ العثر والعلاقات الشخصية المضطربة، تعرضت لأنواع متباينة من القهر على يد أشخاص مختلفين في كل مرحلة من حياتها، وبرعت مارجو في التعبير عن ذلك بعفوية شديدة بما يتناسب مع كل مرحلة من المراحل العمرية التي جسدت الشخصية خلالها، هي المراهقة المقهورة واليافعة المتمردة والشابة المحبطة، والمرأة التي تحاول ادعاء البلادة واللا مبالاة. هل باتت مارجو روبي تتمتع بدرجة أكبر من النضج الفني؟ أم أنّ سوء اختياراتها هو السبب في المستوى الذي ظهرت به بالسابق؟، لا أحد يعلم لكن المؤكد أنّ I, Tonya بمثابة إعادة اكتشاف لها.
مراجعة فيلم Suicide Squad … حينما تصنع الدعاية ضجةً لا تُستحق
أليسون جاني / لافونا جولدن
جسدت أليسون جاني – المرشحة خمس مرات للجولدن جلوب قبل هذا الفيلم – شخصية لافونا جولدن. تلك، الأم غريبة الأطوار التي تثير التعجب والتساؤل والاشمئزاز معًا منذ اللحظة الأولى، هي كتلة من التناقضات، كل تصرف تقوم به يحمل تفسيرين كلاهما يبدو صحيحًا، هي التي تفني حياتها لرعاية ابنتها وتأمين مستقبلها، وهي أيضًا التي تقسو عليها وتمعن في إذلالها وقهرها طيلة الوقت.
برعت أليسون جاني في تجسيد تلك التركيبة العجيبة، وجعلت المشاهد يتقبلها ويُصدقها رغم غرابتها ورغم رفضه لسلوكها، خاصةً أنّ السيناريو قد تأخر جدًا في الكشف عن ماضي تلك السيدة، والسبب الحقيقي وراء اضطرابها وعُزلتها واتباعها ذلك الأسلوب القاسي في تربية طفلتها الوحيدة. تلك، المعلومات التي قُدمت متأخرًا لم تكن سوى استيفاءً للمنطق – إن صح التعبير – لكن المشاهد لم يكن في حاجة حققية إليه، فمجرد أداء أليسون وتعبيراتها قد أخبرته بحجم المآسي التي تعرضت لها، وإن لم تحددها بدقة.
سيباستيان ستان / جيف جيلولي
قدم سيباستيان ستان شخصية جيف جيلولي أحد أقرب الأشخاص إلى تونيا، وأحد الأسباب المباشرة في صعودها وسقوطها على السواء، ولم تكن شخصيته أقل تعقيدًا من الشخصيتين السابقتين على الصعيد النفسي، لكنها كانت أقل حظًا في التقديم، فنحن لم نعرف الكثير عن حياته قبل أن يلتقي بتونيا وتم عرض الأمر في عجالة خلال المشهد الذي صور اجتماعهما الأول، لكن ما ورد خلاله لم يكن سوى لمحةً بسيطةً عن ماضية غير كافية لدعم موقفه، وتبرير توجهاته وخاصةً تعلقه المرضي بتونيا رغم كل ما شهدته علاقتهما من تقلبات.
مرت شخصية جيف جيلولي بالعديد من التحولات التي لم تكن سوى رد فعل لأسلوب تعامل تونيا معه في كل مرحلة من المراحل التي مرت بها علاقتهما العاطفية، وقدم سيباستيان أداءً جيدًا خاصة في المشاهد الانفعالية التي جمعته بمارجو روبي، لكن في النهاية عدم تقديم الشخصية بالشكل الملائم أضعف موقفها بعض الشيء، وهذا يقع على عاتق السيناريو وليس التجسيد.
الإضاءة كانت بالغة التأثير
قال هيتشكوك: “الفيلم الجيد هو الذي إذا أزيل منه شريط الصوت يبقى المشاهد مستمتعًا” … هذا القول ينطبق نسبيًا على مشاهد فيلم I, Tonya التي كان يتم التعبير عنها بالصورة قبل الحوار؛ حيث أنّ توزيعات الإضاءة في مختلف المشاهد كانت مُتسقةً تمامًا مع طبيعة أحداثه، والصورة التي يريد نقلها عن العالم البائس الظالم الذي نحيا به، عالم الحقيقة الوحيدة بها أنّه لا توجد حقائق مُطلقة …
اعتمد الفيلم في أغلب فصوله على إضاءة متفاوتة ما بين الإظلام والبهوت، حتى أجواء المشاهد الخارجية كانت خريفيةً مائلةً للاصفرار على الدوام بشكل يثير في النفس شعورًا بالتوجس، وعدم الارتياح لا يزول حتى في مشاهد الفوز والانتصار، خاصةً مع خلو الصورة على الدوام من أي بريق أو ألوان شديدة التوهج، كأنّ هناك ما يخبرك على الدوام بأنّ الأسوأ لم يأتِ بعد، أو أنّ اللحظة الراهنة رغم روعتها غير كافية لنسيان كل ما مضى!! …
الإخراج وتعمد خرق الواقعية
أفلام السيرة الذاتية والأفلام التاريخية تمتلك نقطة قوة تتمثل في علم المشاهد المُسبق بأنّ كل ما يراه على الشاشة قد حدث ذات يوم بالحياة الواقعية، ومن ثم مهما بلغت درجة غرابته أو خروجه عن المألوف يكون على استعداد لتقبله والاقتناع به بسهولة، لكن مخرج الفيلم كريج جيليسبي قد تعمد تجريد الفيلم من واقعيته، وتعمد تذكير المشاهد باستمرار أنّه يشاهد فيلمًا افتراضيًا يُعيد تجسيد قصة حقيقية حتى أنّه جعل الشخصيات داخل المشاهد الدرامية الجادة تتحدث إلى المشاهد بشكل مباشر، وتكرر هذا الأمر عدة مرات لدرجة تعيد للأذهان مشاهد فيلم Deadpool رغم الاختلاف الجذري بين الفيلمين شكلًا وموضوعًا.
الغريب أنّ خرق الحد الفاصل بين الواقعية والخيال لم يؤثر على جودة الفيلم، بل إنّه – على العكس – أضاف إليه وجعله أكثر إمتاعًا، ولم يؤثر على شغف المشاهد بالمتابعة أو درجة تأثره بالأحداث، بل نتج عن ذلك بعض الكوميديا الموفقة والذكية، والتي جاءت متمثلةً في تعليقات تهكمية مريرة صادرة من الشخصيات على بعض المواقف، والتي ساعدت على كسر سوداوية الأحداث.
اختار مخرج الفيلم – وكذلك السيناريو – الأسلوب الأصعب وجعل الواقع يتمثل في الشق التوثيقي المتمثل في مشاهد التسجيل المباشر مع الشخصيات التي يسترجعون خلالها ذكرياتهم، بينما المشاهد الدرامية لم تكن سوى تجسيد افتراضي لتلك لذكريات يتم من خلالها استكمال الرواية التي بدأت على ألسنتهم … كذلك يُحسب للفيلم استحضار روح الثمانينات والتسعينات بأدق تفاصيلهم ابتداءً من المظاهر الشكلية العامة، وحتى المفردات المستخدمة في الحوار “بما في ذلك السُباب”، وصولًا إلى حجم ونوع الفونت المستخدم في كتابة العناوين الفرعية، والذي جاء أشبه بأسلوب تقديم أفلام تلك الفترة، وكان هذا واضح حتى من الإعلان الدعائي، وكذلك يدان للمخرج بالفضل بمستوى التجسيد الذي قدمه الممثلين والشكل العام الذي خرج به الفيلم في النهاية.
فيلم I, Tonya هو إحدى مفاجآت 2017 بكل المقاييس، أسماء فريق العمل لم تكن تعد بالكثير لكنها جاءت بأكثر مما متوقع، هو تجربة سينمائية تحمل قدرًا كبيرًا من الغرابة كانت هي سر تميزه، استطاع التمرد على النسق السائد والمألوف في هذه النوعية من الأفلام السينمائية دون أن يؤثر على متعة المشاهدة، أو يقلل من القيمة الفنية للفيلم … I, Tonya فيلمًا مميزًا في أغلب جوانبه سوف يرسم ابتسامةً طفيفةً على شفتك، ويترك أثرًا في نفسك يدوم لفترة بعد إنهاء المشاهدة، وقد يدفعك للتوقف حينًا عن متابعة الأخبار أو على الأقل التوقف عن تصديق كل ما يرد بها، فالحقيقة نسبية ودائمًا منقوصة وهناك جانبًا خفيًا منها … مثلما كانت حقيقة تونيا هاردينج …
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.