فيلم إبراهيم الأبيض، هل صنع أسطورة إبراهيم الأبيض أم أسطورة عبد الملك زرزور؟
نصف وحش غاضب، نصف بشري عاشق
كنت أعيد مشاهدة فيلم “إبراهيم الأبيض” مستحضرًا عظمة وجلال الفنان القدير محمود عبد العزيز في هذا الفيلم وأداؤه المربك لشخصية “عبد الملك زرزور” والتي أخرجها من نطاق شاشة العرض كي تعلق في أذهان المتفرجين ويرتبط الفيلم دومًا بهذه الشخصية القديرة والتي تخرج من نمطها البشري إلى نمط مقارب للإلوهية نوعًا ما…
حيث يشبه عبد الملك زرزور إله لا يرحم “أنا حييتك تاني…”، ينظر في وجه محدثه فيعرف إن كان كاذبًا أم صادقًا، خائنًا أم أمينًا “روح هات الكيس يا شيبة” ومع ذلك فهو لا يرحم الخائن ولا يتهاون معه حتى وإن كان ابنه “تعك من ورا ضهري، تبقى عدوي”، حكيم رغم ذلك وفيلسوف، وشخصية قوية وكاريزما تصيب أي شخص أمامه بالوجل، ولا بد أن المشاهدين أنفسهم قد أحسوا بالتوتر في بعض مشاهد الفيلم التي تظهر فيها هذه الشخصية!
الجانب البشري الوحيد فيه… إلى جوانب القسوة والتوحش والحكمة والشخصية القوية وحسن الإدارة، يأتي من خلال عشقه وولهه بحورية “يكفيك شر الراجل لما يحب مَرَة” الفتاة التي تكوّن عشقها في قلبه شيئًا فشيئًا “أنا اللي مربيكي، بحكم الجيرة مربيكي…” نفس الفتاة يتصارع معه على حبها الذي وجده في قلبه منذ طفولتهما، إبراهيم الأبيض الذي قتل والده أمام عينيه من والد هذه الفتاة، وسبب الحسرة لوالدته، ثم قام هذا الطفل بقتل والد حورية أيضًا.
إذن نحن أمام غابة… غابة متشابكة من العلاقات المعقدة ملتبسة المشاعر مختلفة الأغراض، غابة لها شرائعها وقوانينها ونواميسها والتي لا تقبل التبديل أو التعديل عليها، أعراف يفطر عليها من يولد في هذه الغابة ويجد في نفسه ألفة معها… غابة تمتزج فيها القسوة بالعشق، العنف بالعاطفة، الرغبة في الجسد بالرغبة في الثأر…
لأول مرة، تمصير العنف والحركة، شاعرية الفوضى
هذا الفيلم تحديدًا يقف في منطقة جديدة في السينما المصرية، ولأول مرة يدخلها فيلم بهذا العمق، حيث يدخل بنا الفيلم في قلب الأماكن الشعبية، وليس بشكلها النمطي الذي تم الاصطلاح عليه من صناع الأعمال الدرامية والسينمائية وهو عربة الفول والمقهى الذي أشبه بمنتدى لأهل الحارة، مع وجود محل جزار ومحل ميكانيكي وقيام أحداث غير مألوفة لسكان هذه الأماكن وغيرها…
بل غاص الفيلم في الأماكن الشعبية بشكلها الجديد المثير للأعصاب، بتداعياتها المؤلمة بعد أن أصبحت مرتعًا للإجرام والعنف والتوتر، ولكن ليس بالصورة الفجة كما شاهدنا في سينما خالد يوسف من قبل، بل بصورة لا تخلو من أسطورية وبمسحة من شاعرية مع الاحتفاظ بخصوصية المكان.
وبالحديث عن الخصوصية والمنطقة الجديدة التي توغل فيها الفيلم ننتقل إلى خصوصية المعارك، تقريبًا جميع المعارك التي دارت في الأفلام السابقة قبل إبراهيم الأبيض كانت عبارة عن مسخ مشوه لمعارك في أفلام أجنبية، غريبة عن واقعنا وعن معيشتنا حتى أن من لم يشاهدوا معارك في الشارع من قبل قد ظنوا أن كل المعارك تدور بهذا الشكل الأنيق والمنظم واللطيف، ولكن هنا، وفي إبراهيم الأبيض… لاحظنا أن المعارك خارجة من قلب البيئة المصرية، معارك لابد وقد شاهدت مثيلها من قبل إن كنت تسكن أو تتردد على الأحياء الفقيرة هذه.
وكنا من قبل نشاهد شخص في مواجهة الكاميرا يطعن شخص يعطي ظهره للكاميرا، ثم تأتي الكاميرا في مواجهته فنجد بقعة من الدماء على ملابسه، بينما في ابراهيم الأبيض… مشاهد طويلة للمعارك نرى فيها الشفرات الحادة وهي تقطع وتشرّح والدماء تسيل مباشرة وتلطخ الوجوه والرؤوس مما أكسب الفيلم واقعية، امتدت تأثيرها لكل مشاهدي الفيلم… قد تكون هذه المشاهد مزعجة بالفعل، ولكن الملامح الرئيسية لتصور المخرج، أو للقالب الذي خرج به الفيلم لا تكتمل إلا من خلال هذا الأسلوب.
الأزمنة المنفصلة والعوالم المنفصلة، مراحل خلق الأسطورة
قد تشعر أن أحداث هذا الفيلم تدور في منطقة خارج هذا الزمن، أو في عالم موازي للعالم الذي نعيش فيه، المعروف أن أحداث الفيلم قد حدثت في مصر، ولكن احتكاك أبطال العمل بخارج المنطقة الشعبية التي يعيشون فيها يبدو مليئًا بالتحفظات، فخروجهم إلى المناطق المعروفة في مصر مثل منطقة الكورنيش يكون فقط بسبب مطاردة من الشرطة أو لقتل شخص ما، فالعالم الخارجي بالنسبة لهم، عالم القانون الخاص بالشرطة والمواطنين المسالمين والدولة، بينما عالمهم هو عالم آخر له شرائعه وقوانينه الخاصة كما أشرنا مسبقًا.
إذن هناك انفصال حادث بين المكان والزمان الحاليين، والاحتكاك بين زمان ومكان أحداث الفيلم والزمان والمكان الطبيعيين له (الألفية الثالثة) عادةً محاطًا بالتوتر، ولو لاحظنا أيضًا فليس هناك استعمال لهاتف محمول داخل أحداث العمل أبدًا، وهذا كله يؤطر لنقطة أسطورية العمل، وهي نقطة بالغة الصعوبة استطاع السيناريو والإخراج تنفيذها بمهارة شديدة وهي خلق زمان ومكان موازي للأحداث وفي نفس الوقت دمجه في الزمان والمكان الحاليين…
حتى المطاردات ومشاهد العنف نجد في خلفيتها تواشيح للشيخ زين محمود، فهل هذه الخلفية المناسبة لمشاهد عنف أو حركة عادية؟ أم أن مشاهد العنف هذه أيضًا إحدى معضدات أسطورية العمل المبنية على ثنائيات الإلوهية والبشرية، والصداقة والخيانة، والحب والثأر الشكسبيري؟
تحية لطاقم عمل فيلم ابراهيم الابيض
المخرج مروان حامد هنا، تفوق على نفسه… منذ ظهوره الأول برعاية والده في الفيلم الأضخم وصاحب الدعاية الأكبر عمارة يعقوبيان، قلت ها هو نصف موهوب آخر يُمنح فرصة لا يحلم بها أكثر أهل الأرض موهبة بسبب أنه ابن المؤلف بالطبع!
ولكن هنا يخرج من عباءة والده ويذهب مع صديقه السيناريست عباس أبو الحسن إلى منطقة مغايرة تمامًا وصنع فيلم جديد، وأقول جديد لأنه جديد بالفعل من حيث التكنيك، ومن حيث التناول لفكرة الأسطورة أو الملحمة الشعبية، والتناول أيضًا لتفاصيل الحياة في المناطق الفقيرة.
الأداء هنا مميز جدًا لأحمد السقا، وهناك للأسف من يشكك في قدرات هذا الفنان ويتهمه بأنه مبالغ في تقديره كما إنه هو نفسه شخص مبالغ فيه، أو “أوفر” كما يسمونه… لكن للأسف أحمد السقا لديه قدرات هو نفسه قد لا يعلمها، وتحتاج إلى مخرج متميز لاستغلالها وإظهارها في أفضل صورة، ومروان حامد هنا استطاع أن ينتزع من السقا ما يحتاجه الدور بالضبط، بطريقة لم يقدر عليها تقريبًا إلا شريف عرفة في فيلمه “الجزيرة”… وقارن بين أحمد السقا في إبراهيم الأبيض والجزيرة، هل هو نفس الممثل مع عمرو عرفة في “من 30 سنة، أفريكانو” أو أحمد صالح في “حرب أطاليا” وخالد مرعي في “تيمور وشفيقة”.
عمرو واكد هنا كان يستحق الأوسكار، يستطيع اختطاف الأنظار في كل مرة يظهر فيها على الشاشة، إلمام بتفاصيل الشخصية وبطريقة كلامها وإجادة فظيعة لشخصية عشري “صاحب صاحبه” لتبقى أيضًا عالقة في أذهان المشاهدين ربما أكثر من شخصية ابراهيم الأبيض ذاتها والتي كان من المفترض أن تكون هي رأس الأسطورة، وكان صوته حتى مميزًا جدًا في روي الفيلم:
“ابراهيم ميخافش إلا من الغشيم، الغشيم يا هيموتك… يا هيزنقك تقتله”
هند صبري فنانة متميزة وأنا بشكل شخصي أحبها جدًا، ولكن أداءها كان عاديًا جدًا أو متوسطًا، بالتالي لم يكن على مستوى الفيلم الإجمالي ولم يستطيع التجاوب مع الأداء الخرافي من محمود عبد العزيز أو أداء عمرو واكد وأحمد السقا، لذلك للأسف كانت مصدر خلل في الفيلم.
السيناريو متميز جدًا، وقلّما تجد سيناريو مكتوب بهذه الحرفية في السينما المصرية، بهذا الحوار غير المعتاد والذي يدعم أيضًا التصور الملحمي في ذهن كلاً من المؤلف والمخرج وقد توصلت لمعلومة أن الكاتب ظل 10 سنوات يكتب في الفيلم، ويعيد كتابته مرة أخرى ويقوم بأعمال الحذف والإضافة، وأجد هذا طبيعيًا فعمل مكتوب بهذا الشكل لابد أنه نتاج جهد واهتمام كبيرين.
ديكور أنسي أبو سيف يستحق الإشادة… بناء كامل للديكور وبشكل يكاد يطابق الواقع، لا تشعر إطلاقًا أنك تشاهد ديكور مبني ولكنك بالفعل تمشي في أحد المناطق الفقيرة في القاهرة.
الملفت للنظر لي فعلاً والذي يستحق تحية خاصة وانتظرت تترات الفيلم في النهاية كي أعرف من هو هذا الفنان الذي اختار ملابس الشخصيات، ووجدت إنها ناهد نصر الله، وهي مصممة ملابس شهيرة للأفلام وعملت مع قامات مثل يوسف شاهين في أفلامه المهاجر واليوم السادس ورضوان الكاشف في ليه يا بنفسج ويسري نصر الله: مرسيدس والمدينة وغيرها، إلا أن هنا كان الإبهار عالي لدرجة أن الأمر قد لفت نظري بشدة وأثار فضولي لمعرفة هذا الفنان الرائع، تحية كبيرة لناهد نصر الله إذن.
أما موسيقى هشام نزيه فكانت رائعة حقًا ومتفهمة للبعد الأسطوري الذي يريد أن يضفيه المخرج على الفيلم.
رثاء خاص للساحر محمود عبد العزيز
منذ الإعلان عن مرض القدير محمود عبد العزيز وأنا أدعو له كل يوم أن يستعيد صحته ويتم شفاءه، ولذلك قررت إعادة مشاهدة الأفلام التي أبدع وأجاد فيها لدرجة أن شخصياته أصبحت شخصيات فولكلورية مثل شخصيات جمال مزاجنجي في “الكيف”، والشيخ حسني في “الكيت كات” وبالطبع الملك زرزور في “إبراهيم الأبيض”.
واليوم الذي توفي فيه محمود عبد العزيز وجدت نفسي يدور في رأسي كتابة مقال عن فيلم إبراهيم الأبيض خصوصًا أن هذا الفيلم قد ظُلم بسبب اتهامه بالدموية أو العنف المبالغ فيه.
لكن الفيلم به تشخيص أسطوري لشخصية أسطورية أيضًا للقدير الرائع محمود عبد العزيز والذي يشبه عصا موسى في الفيلم، يظهر فتتجه الأنظار إليه، لو وسط مائة ممثل آخر، مجرد وجوده فقط يبتلع حضور كل الممثلين من حوله.
لا أدري هل أراد الفيلم تسليط الضوء على إبراهيم الأبيض وجعله سيرة شعبية وأسطورة فعن طريق الخطأ تم تسليط الضوء على عبد الملك زرزور وإكسابه هو النصيب الأكبر من الأسطورة؟ أم أنه من البداية بطل الأسطورة في الفيلم هو عبد الملك زرزور؟
تبدو الخبرة واضحة عند محمود عبد العزيز والتي أضفت على أدائه شياكة وأناقة تجعلك جالسًا مقشعرًا من فرط النشوة التي يبعثها فيك، وقد أجاد في جميع الدرجات الطيفية لشخصية عبد الملك زرزور، ما بين شخص يقتل بدمٍ بارد، أو قاسي بلا حدود أو لا يهاب الموت بحيث هناك سكينة على رقبته بينما هو يشرب قهوته بأريحية، أو حتى عشقه الأبله أحيانًا لحورية والتي جعلته يبدو أمامها كمراهق يحب معلمته.
حتى دموعه في آخر الفيلم جعلتني أتعاطف معه… رغم إنه قاتل شرير بلا قلب تقريبًا.
مات بالأمس محمود عبد العزيز مخلفًا فراغًا لن يملأه غيره وربما لفترة كبيرة، تاركًا مقعدًا شاغرًا في مستويات سماوية من الأداء التمثيلي والإخلاص لهذا الفن كي تزداد المقاعد الشاغرة بعد رحيل أحمد زكي ونور الشريف من قبل، مات كي يبكيه الجميع، بكاءً حقيقيًا لا زيف فيه أو افتعال، فقد كان بأدائه يشعرك إنه صديق عزيز تربيتما معًا وليس ممثل يؤدي دور من وراء شاشة… وقد استيقظت اليوم صباحًا وعندما استعدت وعيي تذكرت أن محمود عبد العزيز قد مات بالأمس فوجدتني أبكيه بمرارة، لدرجة أنني بمجرد ما خرجت من حجرتي ووجدت أمي وأبي يتناولان إفطارهما… كانت أول جملة قلتها لهما قبل صباح الخير:
“محمود عبد العزيز مات”
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.