فيلم “Manchester by the Sea” سيُحدِث ثُقباً في قلبك لا يلتئم
8 د
هناك أفلام حين نُشاهدها تُصيبنا بالحزن فتنخر في قلوبنا، لننكسر دون أن يُمكن لأي شيء في الدنيا بعدها أن يُجبّرنا، بالرغم من أننا لم نكن يوماً أبطال حكاية مُشابهة، لكن براعة صنع الفيلم بجانب فرط عذوبة وإنسانية الحكاية كل ذلك يضعنا في مأزق، يجعلنا ليس بيدنا شيئاً نفعله سوى مشاركة الأبطال مآسيهم الخاصة، كما لو كانت مآسينا وإلاّ أصبحنا مَحض خائنين.
“Manchester by the Sea“ فيلم على هذه الشاكلة، فلا يُمكن أن تشاهده دون أن يرتجف قلبك، شاعراً بثِقَل الحياة حَد كَتم الأنفاس، وعلى ذلك تظل مُمتناً لأنّ حياتك تقاطعت بشكل أو بآخر مع تلك التجربة التي لا تتمنى أن تعيشها يوماً لكن إنسانيتك تُحَتِّم عليك أن تُعايشها بضمير، وإسهاب.
Manchester by the Sea
فيلم درامي أمريكي إنتاج 2016، تأليف وإخراج “كينيث لونيرغان”، أمّا البطولة فلــ “كايسي أفليك”، “ميشيل ويليامز”، “كايل تشاندلر”، “غريتشن مول”، و”لوكاس هيدجز”.
عُرض الفيلم لأول مرة بمهرجان صندانس السينمائي في 23 يناير 2016، بعدها عُرض على شاشات العرض بشكل محدود في نوفمبر، قبل أن يتم عرضه بشكل أوسع في ديسمبر من نفس العام، ليُحقق الفيلم نجاحاً فنياً كبيراً، وجماهيرياً رغم طبيعة موضوعه الكئيب.
حظى الفيلم أيضاً على استحسان النُقاد حاصداً العديد من الترشيحات والجوائز، منها:
- فاز الفيلم بجائزتي بافتا: أفضل ممثل، وأفضل نص أصلي، من أصل 5 ترشيحات.
- فاز كذلك بجائزة غولدن غلوب لأفضل ممثل بعمل درامي، من أصل 5 ترشيحات أيضاً.
- فاز “كايسي أفليك” بجائزة أفضل ممثل من جمعية شيكاغو لنقاد السينما.
- أمّا فيما يخُص الأوسكار فرُشِّح الفيلم لستة جوائز أوسكار لم تُحسَم بعد وهي: أفضل فيلم، أفضل مخرج، أفضل ممثل، أفضل ممثل مساعد، وأفضل ممثلة مساعدة، وأفضل سيناريو أصلي.
- كذلك تصدر ترشيحات نقابة ممثلي الشاشة بأربعة ترشيحات هي: أفضل ممثل، أفضل ممثلة مساعدة، أفضل ممثل مساعد، وأفضل أداء استثنائي لطاقم التمثيل.
بالإضافة لكل ذلك فإنّ الفيلم تم اختياره من قِبل معهد الفيلم الأمريكي كواحد من أفضل عشرة أفلام بعام 2016، كذلك احتل المرتبة الـ 242 بقائمة الـ IMDb التي تضم أفضل 250 فيلماً بتاريخ السينما، وقد حقق الفيلم أرباحاً وصلت 56 مليون دولار من أصل ميزانية 8.5 مليون دولار.
قصة الفيلم
يبدأ الفيلم برجل يبدو مُبتهجاً وسعيداً يسأل ابن أخيه الطفل إذا ما اضطر للتواجد في مكان ما لفترة طويلة مع شخص واحد فقط من سيختار الأب أم العم؟ يختار الطفل والده فيُحاول عمه –بمرح- إقناعه بأنّه لا يفهم أبعاد اختياره جيداً، وأنّه كعَم هو الأنسب لهذه المهمة.
بعدها نشهد نفس الشخص والذي يُدعى”لي” بينما يعمل كعامل إصلاحات في بوسطن، يغلُب عليه الصمت، وتسكنه الكآبة، بل والأدعى أنّه سرعان ما ينفعل غاضباً حين يُخبره أحد أي شيء لا يتفق مع رأيه الشخصي، أو فلسفته في العمل.
ثم تأتي مُكالمة لـ”لي” تُغيِّر كل حياته، يُخبرونه فيها أنّ أخاه المُصاب بمرض مُزمن في قلبه محجوزاً بالمستشفى، ما يجعله يُسافر إلى بلدته الأصلية ليكتشف أنّ أخاه قد توفى، ليس هذا فحسب بل أنّ وفقاً لوصيته قد جعله وصياً على ابنه الذي صار مُراهقاً.
هنا يصبح”لي”في أزمة فهو يرفض البقاء في بلدته، في الوقت نفسه يشعر بصعوبة أن يكون وصياً على هذا الولد، نفس الولد الذي كان يرغب أن يُفضِّله عن أبيه قبل سنوات قليلة! مع توالي الأحداث وبعض مشاهد الفلاش باك تبدأ الأمور تنكشف، فنعرف سر تصرفات البطل، وسبب تغير قناعاته.
التقييم الفني
القصة، والسيناريو، والحوار
قصة الفيلم رغم كآبتها إلاّ أنّها تبدو عذبة جداً، حيث تم تقديمها بشكل ساحر وإنساني، رُبما كان ذي وطأة ثقيلة على القلب إلاّ أنه غير مُنفِّر، حتى أنّ أحد الأشياء التي ميزت القصة كان أنها ورغم المليودراما الموجودة بها إلاّ أنّها بَعُدت عن جو النحيب.
فجاء السرد الدرامي ذكياً ومُهتماً بالتفاصيل الدقيقة، ساعد ذلك إقحام الفلاش باك داخل القصة ما جعل الأمر مُشوقاً ومُثيراً، خاصةً مع اكتشافنا لسر العُقدة التي يُعاني منها البطل، لنصبح مُتشوقين مع كل مشهد أن نعرف ما سيؤول إليه الأمر بالنهاية.
أمّا عن الحوار فرغم اعتماد الفيلم في الكثير من الوقت على إظهار الانفعالات أكثر من التعبير اللفظي، فإنّ الجُمل الحوارية على قلتها كانت قوية ومُعبرة، لعل أقواها كان في المشهد الرئيسي الذي جمع بين “كايسي أفليك”، و”ميشيل ويليامز” (جاءت صورته على أفيش الفيلم) يكشفان فيه الأوراق الأخيرة بالحكاية.
جدير بالذكر أنّ الفيلم دخل -بسبب تعثر إنتاجه- قائمة الأفلام المُفضلة ولكن غير المُنجَزة لعام 2014، ليتوَّج النَص في النهاية بجائزة أفضل نص أصلي في البافتا، مع تَرشيح مُستَحَق لنفس الفئة بالأوسكار.
وقد صرح”كينيث لونيرغان” كاتب النَص، أنّ فكرة الفيلم بالأساس لم تكن فكرته بل تعود إلى”Matt Damon” و “John Krasinski”، هو فقط كان سيقوم بكتابة السيناريو والحوار للفيلم، بينما يقوم “مات ديمون” بإخراجه وبطولته.
لكن تأجيل الإنتاج عدة مرات، ثم انشغال “مات ديمون” بفيلم “The Martian” عند الشروع في تنفيذ هذا الفيلم جعل العمل يصبح مشروع “كينيث” وحده، يختار لإخراجه وبطولته من يشاء، هنا تحمس “كينيث” لإخراجه بنفسه، مانحاً دور البطولة ل”كيسي” الذي أثبت جدارته فيه.
الإخراج
مانشستر باي ذا سي هو الفيلم الثالث ل”كينيث لونيرغان” في مجال الإخراج سبقه فيلمي “Margaret” إنتاج 2011، و “You Can Count on Me” إنتاج 2000.
وبالرغم من أنّ “كينيث” لم يكن الترشيح الأول لإخراج الفيلم إلاّ أنّ هذا لا يمنع كونه نجح في تقديمه بطريقة لائقة ضمنت له الترشح للأوسكار كأفضل إخراج، بجانب حُسن قيادته لفريق العمل الذي حصد العديد من الترشيحات هو الآخر.
وبشكل عام طغى على الفيلم الطابع الهادئ الذي يحمل أبعاداً جمالية وكلاسيكية، ظهر ذلك واضحاً من خلال التركيز على المناظر الطبيعية خاصةً مع المكان الساحلي الذي تدور فيه الأحداث، ليغلب على الصورة درجات الأزرق المختلفة حيث لون البحر والسماء بجانب اللون الأبيض لون الثلج إذ جرت الأحداث بالشتاء، وهو ما أوحى بالصفاء والمُباشَرة.
كذلك حرص”كينيث” على التركيز على تعبيرات الوجه التي عكست الأهوال التي شهدها الأبطال، واللجوء للصمت والهدوء الشديدين بمعظم المشاهد، بالإضافة لتباطؤ ردود الأفعال كدليل على موت الروح بطريقة أو بأخرى.
ولعل أحد التفصيلات الذكية التي لجأ لها كينيث سواء باعتباره مؤلفاً للعمل، أو مخرجاً هي فكرة استخدام البطل للعنف من وقتٍ لآخر للتخلص من مشاعر غضب مكتومة مازالت حبيسة بداخله، رغم مرور سنوات طويلة على الفاجعة التي شهدها، سواء غضب البطل من قَدَره بشكل عام، أو من نفسه بشكل خاص ليس فقط لكونه كان السبب فيما حدث، بل لأنّه مازال ورغم كل ما جرى يحمل قلباً قد ينبُض.
تفصيلة أخرى أكثر ذكاءً كأن أن يأتي بطلا الحكاية نقيض بعضهما البعض في تقبّل الأحداث، وتعاملهما معها، ما زاد أبعاد القصة وضوحاً ومصداقيةً.
التمثيل
حسناً يُمكننا القول أن “كايسي أفليك” هو الأحق بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل هذا العام، بناءً على دوره الرائع الذي أداه في هذا الفيلم، حيث نجح في تجسيد دور البطل المهزوم حتى الثمالة، الحزين حَد الانكسار، لعب “كايسي” الدور كما ينبغي له أن يكون فظهر كما يليق بشخص يكاد يكون ميت إكلينيكياً، يعيش يومه غصباً، تماماً كرجل لا ينتظر من الحياة سوى الموت لعله يرتاح قليلاً من الشعور الأبدي بالذنب.
لم يكن ما ميز أداء “كايسي” فقط قُدرته على التعبير عن انفعالات شخصيته، بل والأهم قُدرته على تجسيد مشاعره المتضاربة التي تنوعت بين الهدوء، الحزن، الغضب، الحيرة، ومشاعر أخرى كثيرة.
أما عن باقي طاقم التمثيل، فنذكر منهم:
“كايل تشاندلر” رغم كون مشاهده كلها فلاش باك، وهي مشاهد قصيرة بالنهاية إلاّ أنّه نجح في إثبات حضوره لاعباً دوره بحرفية جعلته أحد أبطال هذا العمل.
“لوكاس هيدجز” المُرشح عن دوره لجائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد، استطاع تقديم دروه بشكل جيد جداً، خاصةً وأنّه كان بمثابة النقيض الأكبر لدور “كايسي أفليك”، حيث جسد “لوكاس” عنفوان الشباب والقدرة على تخطي الأحزان بسرعة وسهولة، على عكس العَم الذي لم يتجاوز مأساته أبداً.
“ميشيل ويليامز” والمرشحة عن دورها لجائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة، بالرغم من قصر دورها لدرجة أنه قد لا يتعدى 10 دقائق على الشاشة من إجمالي الفيلم، إلاّ أنّها لعبته جيداً خاصةً في المشهد الختامي الذي جمعها مع “كايسي أفليك”، وإن كان ذلك لا يبدو كافياً للفوز بالجائزة التي تستحقها أخريات جِئْنَ ضمن ترشيحات نفس الفئة على رأسهم “فايولا ديفيس” و”نيكول كيدمان”.
الموسيقى التصويرية
موسيقى الفيلم التصويرية جاءت من تأليف “ليزلي باربر”، والتي نجحت في أن تخدم العمل وتُضيف إليه مُعبرةً عن العذاب الأبدي الذي يعيش فيه البطل، خاصةً حين تم تطعيمها ببعض المقاطع من الموسيقى العالمية الشهيرة جاء على رأسها مقطوعة “المسيح” ل”جورج فريدريك هاندل”، و “Adagio Per Archi E Organo In Sol Minore”، التي عزفتها London Philharmonic” “Orchestrمانحةً الفيلم جواً كلاسيكياً يجمع بين الشاعرية والحُزن.
“Manchester by the Sea” فيلم مُختلف رغم عاديته الشديدة، فهو ليس كسائر أفلام الوقت الحالي التي تتناول على الأغلب إمّا السياسة، أو العنصرية، أو حتى البطولات الخارقة، بل جاء عملاً إنسانياً لا يهمه سوى الإنسان وروحه المُعَذَّبة، حاملاً عبء أن تكون بشراً في عالم يستمر بالدوران غير عابئاً بأزمات حياتك أو حاجتك للتوقف أحياناً من أجل التقاط أنفاسك قبل أن تستكمل دَهس الحياة لك.
فيلم عن آلام الفَقد، وما يُسببه ذلك من ثقوب بقلوبنا، ثقوب لا تلتئم للدرجة التي تُربك كل شيء آخر، فتترك أثرها على علاقاتنا بالآخر، علاقتنا بالحياة والعمل، بل وعلاقتنا بأنفسنا، ما يجعلنا نحظى بحياة مليئة بالصراعات سواء الداخلية أو الخارجية، حياة مشوشة ومشوهة لا تُشبه حقيقة ما نحن عليه، بقَدر ما تعكس ماضينا التَعِس.
فنحن بعد الفَقد أشخاص مُختلفون تماماً عن حالنا قبله، ومهما بلغت قوتنا أو شجاعتنا يظل هناك جانباً من الهشاشة فينا لا نُدركه فعلاً إلاّ عند السقوط المدوّي، البعض قد يُلملم شتات نفسه بعده، في حين أن آخرين قد لا يفيقون من السقطة أبداً، ليس بالضرورة لضعفٍ منهم ولكن فقط لأنهم بشر.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.