قصر موسى : عندما يصنع الحب المعجزات … والقصور
10 د
مقال بقلم: ديالا غنطوس
قصر موسى ، عزيمة و تصميم حولت الصخر إلى قصر
أن تشعر بقوة غريبة في أصابعك، أن تشعر بأنها تحولت إلى وجوه، إلى أزاميل ناطقة، إلى أفواه ترغب بالبوح، إلى فرشاة ترغب في الرسم على الحجر، أن تكون قادراً على تحويل الرخام إلى لوحة ناطقة بعينيك، وأن تنحت يداك من الجماد روحاً، ومن اللاشيء جمالاً، عندما تشعر أنك تريد أن تحول الطاقة الكامنة في أصابعك إلى سيمفونية من عاج، من زجاج، من لحن لم تطرب له أذن من قبل، من صخر تحول بيد فنان إلى قصر.
كان ذلك حال موسى المعماري، الذي دفعه اليأس في لحظة إلى كتلة من الأمل، القوة، الطاقة التي فاضت بروحه لتعمل في جسده نشاطاً يفوق الوصف، ويبني بيديه اليتيمتين قصراً ولا أجمل، تنظر إليه عيون القاصي والداني بإعجاب منقطع النظير.
هي قصة قصر، في كل حجر من أحجاره روح ومشاعر، ولكل حبة رمل فيه معنىً وحكمة، قصر ارتفع بتصميم وصبر وجلادة وتحدٍ، ليبلغنا أن العمل هو مفتاح النجاح، وأن العبقرية وليدة الألم، فبات رمزاً لقوة الإرادة والإصرار على تحقيق الحلم، اقترن بإسم بانيه موسى بن عبد الكريم شعبان المعماري، حتى صارا توأم لا ينفصل أحدهما عن الآخر، موسى الذي ولد عام 1931م في قرية الفاكهة القريبة من بعلبك، أخذته والدته إلى حارة السرايا ببلدة الحصن في حمص لتقوم بتسجيله في قيود العائلة، استقر هناك والتحق بإحدى المدارس القروية البسيطة، وأمضى طفولته في بيت قديم كان عبارة عن غرفة طينية متواضعة ملاصقة لأسوار قلعة الحصن، يتقاسمها مع عائلته والحيوانات التي يربونها ويكسبون منها قوت يومهم، وكان يهرب من قسوة الحياة وجورها ليسرح في خيالاته وأحلام اليقظة، التي كانت تلازمه طيلة الوقت، وبعد مرور سنوات اضطر موسى ووالدته للانتقال إلى طرطوس حيث كان يعمل والده في مدرسة “المتنبي”، وكانت المدرسة التي تم تسجيله فيها لاحقاً.
كبر موسى وكبرت معه أحلامه حتى وقع ذاك الشاب اليافع ذو الأربعة عشر ربيعاً في قصة حب لا تشبه باقي الحكايات، فصار أسير حب زميلته في المدرسة وكان إسمها “سيدة”، الفتاة الصغيرة الحلوة التي لم تبارح يوماً ناظريه، دون أن يعير أي إهتمام للفوارق الاجتماعية، حيث كانت إبنة عائلة ثرية ومرموقة، ووالدها حاكماً لإحدى نواحي المدينة ويملك قصراً، بينما موسى معجونٌ من الفقر المدقع، دفعه عشقه لأن يصارحها بما يملك من مشاعر تجاهها، ليلاقي منها سيلٌ من السخرية بما باح به، وتبعت ذلك بالاستهزاء منه بقولها “عندما تملك قصراً يمكنك التحدث إلي”، وتركته خائباً غارقاً في أحلامه وتخيلاته، التي صار يترجمها من خلال رسم ذلك القصر على ورق، الذي بات يشكل هاجساً يتملكه طيلة ليله ونهاره حتى وهو في صفه بالمدرسة، إلى أن حدثت تلك المشادّة التي بدلت حياته رأساً على عقب، مع أستاذ مادة الرسم أنور الذي كان معروفاً بقسوته مع تلاميذه.
حدثت المشكلة حين طلب منهم رسم عصفور على شجرة، فامتثلوا لطلب الأستاذ إلا موسى خالفهم وأخذته أفكاره لرسم صورة القصر الجميل الذي يتمناه لحبيبته، فانتبه الأستاذ إلى شرود موسى وفقدانه لتركيزه وعصيانه لما طلبه منه، فاتّجه إليه وهو يصرخ في وجهه مستفهماً عما يفعل، وسأله باستهزاء قائلا “ماذا تفبرك؟ هل هذا قصر أجدادك؟”، ثم سحب بيده الورقة من أمام موسى وقام بتمزيقها وتمزيق الدفتر على مرأى منه ومن باقي الطلاب، ثم رمى بالورقة على الأرض وداسها وكأنه يدوس الحلم الوحيد الذي يستحوذ على عقل الصبي، ثم أمره بالوقوف وقام بضربه بقوة على رأسه بعصا الرمان الثخينة، وقال له “أنت مطرود من المدرسة، إذهب إلى والدك وإبنِ له قصراً مشابهاً لهذا القصر”، لم يستطع موسى إخفاء شعوره بالمهانة والخيبة، إلا أن الدمعة لم تجتز جفنه وأبى الاعتذار من معلمه ذو القلب الغليظ، بل أجابه بلهجة كلها تحدي قائلاً “سوف ترى قصري أنا، ولو بعد حين.. لا قصر والدي”، ومال نحو الأرض وجمع فتات الورقة الممزقة ووضعها في جيبه، ولشدّة غيظ الأستاذ من جواب موسى قام بضربه ضرباً مبرحاً بعصا الرمان دون أي رحمة، وليكتمل المشهد ترافق كل ذلك مع ضحكات وشماتة الطلاب المتواجدين في الصف، حتى حبيبته التي كانت معه بالصف وكان قصرها هو السبب في ما آلت إليه الأمور، قامت بالسخرية منه أثناء الضرب الموجع الذي كان يتلقاه، فشكّل هذا الموقف حافزاً كبيراً زاده إصراراً على تحقيق حلمه، والنقطة الفاصلة التي حولت كل مجرى حياته، غادر موسى المدرسة وعاد إلى منزله المتواضع، وبدأ بتجميع الورقة التي فتتها المعلم وهو يذرف فوقها دموع الحسرة على حلمه الممزق، استخدم الصمغ ليقوم بلصق أشلائها، ومن ثم وضعها في علبة بقيت بحوزته لعشراتٍ من السنين، وكانت له خير أنيس طيلة مشوار حياته الشاقة.
حاملاً تلك الورقة، وخصلة من شعر حبيبته، هجر موسى مدرسته وبلدته عام 1945 دون أن يخبر أحداً، وتوجّه سيراً على الأقدام من طرطوس إلى مدينة صيدا في لبنان، وباشر حياته المهنية في العمل مع عمه عيسى المعماري بترميم قلعة صيدا البحرية، وقد اشتهرت عائلته بتوارثها لفن العمارة حتى باتت المهنة إسماً لها، فاكتسب منه مهاراتٍ عدة كان منها البناء والنحت في الحجر، وهذا ما ساعده في إنجاز حلمه في بناء القصر لاحقاً، وفي عام 1947 أسند إليه الأمير موريس شهاب مهمة ترميم القلاع، وحفظ الآثار التي جرى اكتشافها في لبنان في المتحف الوطني في بيروت، كما في عام 1949 كُلف بتنصيب الأعمدة التي تم اكتشافها بعد التنقيب في أرض مبنى بلدية بيروت أمام المتحف الوطني، ليواصل بعد ذلك عمله في ذات المجال نتيجة لاكتسابه الخبرة الكبيرة من تعامله مع الآثار وترميم القلاع، وبسبب مهارته المشهود لها، جرى انتقائه لترميم متحف الأمير بشير الشهابي الثاني الكبير في قصر بيت الدين، كما تولى الإشراف على نقل أسلحة الأمير ثيابه ومصوغات زوجاته وباقي الأشياء الثمينة في متحف القصر، ليتم تدشينه بعد انتهاء العمل به عام 1951، وكان كل ذلك إلى جانب وظيفته في شركة الكهرباء.
تمكن موسى من خلال عمله المضني والمتفاني من جني وجمع مبلغ من المال لا بأس به، بلغت قيمته وقتذاك خمسة عشر ألف ليرة لبنانية، كانت كافية لشراء قطعة من الأرض مساحتها ثمانية دونمات قد حصل عليها بعد طول عناء، وبذلك تم وضعُ القطار على السكة، وبدأ العمل بتنفيذ مخططه واستخراج الرخص القانونية التي تمكنه من بناء قصره الذي لطالما حلم به، إلا أنه استغرق سنوات طويلة في استكمال تلك الإجراءات، اختار موسى لقصره موقعاً مميزاً وساحراً في جبل لبنان، في منطقة دير القمر التي تتبع لقضاء الشوف في بلدة بيت الدين، فوضع حجر الأساس عام 1962 وباشر العمل الدؤوب بمساعدة من زوجته السيدة ماريا عيد ابنة قائم مقام دير القمر، وهي المرأة رفيقة الدرب الحقيقية والواقعية، غير حبيبته التي في خياله التي طمح سنيناً ببناء قصر تكون فيه الملكة، إلا أنها تخلت عن عرشها الإفتراضي وآثرت أن تكون لرجل آخر ذو جاه ومال، وهو بدوره اختار امرأة كانت له خير سند طيلة حياتهما وخلال تنفيذ جميع مراحل إنجاز مشروعه منذ البدء.
استطاع موسى أن يحول التراب إلى ذهب، كما تمنت والدته له يوماً، وبيدين ماهرتين قام بخلط الرمل بالحجر، وحمل حجارة القصر على ظهره والتي يفوق عددها 6500 حجراً ضخماً، مستمداً طاقته من إرادة صلبة لم تَهن يوماً، فارتفع قصره شبراً بعد شبر إلى أن بدا شامخاً كالقلاع، بناه بعشقٍ مستعيناً بصبره وشدة احتماله، وبعون محدود من بعض الفلاحين والعمال عند الحاجة، انتهى من بناء أساسات القصر وارتفعت أسواره بعد مرور ما يقارب الخمس أعوام من العمل المتواصل، ليبدأ بعدها بتجهيزه من الداخل واستمر في عمله المتقن على أدق التفاصيل لما يقارب النصف قرن وحتى يومنا هذا، ليضيف بذلك إلى قلاع لبنان قلعة يسجل التاريخ أن بناها شخص بمفرده، ولم ترتاح سريرته إلا بتحويله إلى ما يشبه المتحف المصغّر.
فعند دخولك قصر موسى يستقبلك عازف الناي الذي تطرب له الأذن، وترى نبع الماء والدبكة اللبنانية، ويسحرك الجمال والفن المعماري والتوزيع المتقن للغرف التي لكل منها لونها وطابعها الخاص، كما هو حال القاعة المتحركة الكبرى التي تقع في الطابق الثاني من القصر، ففي إطار فلكلوري أصيل اختار موسى تجسيد التراث اللبناني وحفظه عبر مجسمات لوسائل النقل القديمة وتماثيل ومنحوتات لحوالي 75 من الشخصيات اللبنانية الشعبية التي عاشت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مصوراً حياتهم الاجتماعية وتقاليدهم وعاداتهم اليومية، فصار القصر عبارة عن مجتمع كامل، هناك تمثال لامرأة تقوم بغزل الصوف، وأخرى تحيك ثياب العروس، ورجل يصنع الخزف، وآخر ينفخ النار في الفرن “الكور”، وامرأة تطحن الحبوب في المجرشة، وأخرى تدق الكبة في الجرن، ورجل يعمل في تحميص القهوة والهال، وامرأة تعجن الخبز، هم تماثيل متحركة وكأنهم أناس أحياء في كل منهم روح قد دبها صانعهم بهم فلا ينقصهم سوى النطق.
ولم ينسَ موسى أن يوثق ما حصل معه في المدرسة، وهي التي كانت المنطلق والمحفز لتحقيق حلمه وانقلاب حياته، فذهب إلى سوريا وجلب مقاعد الصف والسبورة وخصص لها مكان في القصر، وقام بصنع تماثيل لزملاء الدراسة وأستاذه القاسي أنور مصوراً إياه وهو ينهال عليه بالضرب، بينما بجانبه الأولاد يسخرون منه.
وخلال تجوالك في قصر موسى تجد أيضاً غرفة المضافة العربية، فيها رجل قروي يقدم القهوة للزوار وبجانبه المهباج والربابة، كما هناك غرفتان لبيع الهدايا والتذكارات التي تروي قصة القصر، وصولاً إلى القاعة التي تم تدشينها عام 1997 جاعلاً إياها متحفاً حربياً وتراثياً لعرض الأسلحة التي تعود إلى عصور قديمة كالعصر العثماني وحقبة الاحتلال الفرنسي للبنان، وضمت هذه المجموعة في مرحلتها الأولى أكثر من 16 ألف قطعة سلاح عمل موسى على جمعها خلال مدة تزيد عن 10 سنوات من التجهيز، كما قام بجمع الكثير من القطع الأثرية والنادرة، منها تابوت حجري بيزنطي يعود للقرن السادس عشر، وعدد من الجرّات الأثرية التي اختار موسى أماكن عرضها بشكل حرفي ومتقن، وفي عام 2012 قام بتدشين المرحلة الثانية من المتحف حيث بات يحتوي على أكثر من 32 ألف قطعة سلاح من عصور مختلفة، كما يضم حجارة ثمينة وأساور ومعادن وألبسة قديمة، أنفق كل ما ما يملكه من مال في سبيل الحصول عليها.
ذاع صيت موسى بفنِّه وجلادته ولاقى قصره شهرة عالمية كبيرة فأصبح أحد المعالم اللبنانية الهامة ويؤمه السياح من كل حدب وصوب، وقد بدأ قصر موسى باستقبال الزوار رسمياً عام 1967 ، وقام بزيارته رؤساء دول وشخصيات رفيعة المستوى من شتى دول العالم، كان أولهم الرئيس اللبناني كميل شمعون، الذي ساعده في الحصول على قرض طويل الأمد بفائدة رمزية، وذلك بعدما أهداه الجنسية اللبنانية، ونال موسى المعماري دروع عديدة وتهاني من العديد من الرؤساء، والعديد من الأوسمة كان منها وسام الأرز الوطني من رتبة فارس الذي تمنحه الدولة اللبنانية الذي حصل عليه عام 1999 ، ووسام الصليب البطريركي الاورشليمي المذهب وهو ارفع وسام بطريركي في الشرق عام 1994 ، كما حاز على وسام قداسة البابا من رتبة كومندور، وحصل على دبلوم من مكتب الإذاعة والتلفزيون في السفارة السوفياتية في بيروت. كما قام موسى المعماري بتأليف كتاب “حلم حياتي” اختصر في سطوره نصف قرن من مشوار حياته، وقام بنشره عام 1986 باللغة العربية وتمت ترجمته لثلاثة لغات: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. كما لا يخفي موسى أمنيته بأن تلهم قصته أحد الكتاب أو المخرجين والمنتجين في العالم ليقوم بتحويلها إلى فيلم سينمائي أو رواية، أو أن يدخل قصره في موسوعة غينيس للأرقام القياسية باعتباره أول معلم سياحي صنعه رجل بمفرده وكلفه 60 عاماً من العمل المتواصل مجتازاً كل الصعاب والمستحيلات في سبيل بلوغ هدفه المنشود.
لكن الهدف المنشود، غير المعلن، الذي سعى إليه موسى طوال مدة تأسيسه للقصر وبناءه وبعد اكتماله، كان البحث عن حبيبته الأولى سيدة، وهو ما أفصح عنه مؤخراً بعد تمكنه من بلوغه أيضاً بعد طول صبر، فبعد جهد جهيد استطاع أن يجدها وعرف مكان إقامتها في بروكلين بمدينة نيويورك، وقام بالتنسيق مع إحدى أقربائه لدعوتها إلى زيارة لبنان، والقدوم لقصره دون أن تعلمها بأي شيء يخصه، سوى أنه على خريطة جولتها السياحية، وفعلاً أتت عام 2009 ، وصلت سيدة وكان موسى العجوز في استقبالها، وقلبه ينبض حباً في لحظة انتظرها لعقودٍ من الزمن، دون أن ينسيه ذلك سخريتها منه واستهزائها بفقره، نظرت سيدة في عينيه وسألته “أنت موسى المعماري؟”، قبل أن تدمع عيناها بعد فراق دام 67 عاماً.
واليوم، يعيش موسى حلمه المحقق، بعد أن قارب الخمس وثمانون من عمره، مازال يستقبل زوار القصر بنفسه وبرفقة زوجته التي لا تفارقه، يروي قصته لهم ويكررها يوماً بعد يوم، يساعده ذلك على عدم نسيان أي من تفاصيلها، يشعر بالفخر بما حققه من إنجاز عظيم، مع أنه لم يحظ بفرصة أن يري قصره الموعود لأستاذه أنور الذي فارق الحياة، وأن يريه الورقة التي مزقها يوماً وهي معلّقة في مدخل قصر موسى ، تعلّم موسى من الحياة الكثير، وكان أهمها تلك العبارة التي نقشها على لوحة وضعها في إحدى الممرات تقول: “علمتني الحياة أن هذا العالم لن يتوقف عن استمراره بعد موتي، كما أن الارض لن تحجم عن دورانها، والشمس لن تكف عن شروقها وغروبها”.
رابط موقع قصر موسى
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.