القراءة الموسيقية .. أليس من ذلك بُد؟ بين بيتهوفن وكونديرا
مقال بواسطة دينا عبد الهادي محمد
استمع لهذه
القراءة الموسيقية
كنت دوما أتمنى أن أكتب بِمُصاحبة الموسيقى، فأقترح على القارئ مقطوعة يسمعها أثناء القراءة، أشعر أن المعنى و القصد لن يكتملا بدون ضربات الموسيقى المُبطنة لشعوري، ليس فقط لأني كنت أسمعها في مُخيلتي أثناء كتابتي، لكن لأن هناك ثمة مستوى من الشعور لا تدركه الكلمات؛ التي تحدها أسوار اللغة ومحدودية تعابيري مهما كثرت، ويحكمها مدى توافقها مع إدراك القارئ .. أما الموسيقى فإنها تتكلم في بُعد آخر .. تُخاطب الإحساس مباشرة، لا تحدها ثقافة الكاتب أو القارئ، تعبر حدود الخرائط السياسية واللغوية والثقافية. تنفذ إليك رغماً عنك!
وجدت أن كونديرا قد تبنى فكرتي حتى قبل أن أولد في روايته The unbearable lightness of being وربما في أخريات، فلن تتفاجأ إذا عرفت أنه درس الموسيقى، كما أن أباه مؤلف موسيقي.
حيث يصحبنا موضوع “أليس من ذلك بد؟“ لبيتهوفن طوال الرواية .. وسواء كان لديك سابق معرفة بالمقطوعة أم لا فحالما تسمعها .. أستطيع أن أقول أن بُعداً آخر يُضاف لتلك الرواية، فقد جعلتني أتفهّم مستوى آخر من شعور لا يوصف إلا بموسيقى بيتهوفن نفسه. من وجهة نظري ذلك أجمل شيء في تلك الرواية العبثية إجمالا.
إلفيس بريسلي .. المغني الذي جعلته الموسيقى مَلِكاً!
هذه الرباعية الوترية لها مكانة متميزة جداً فهي الأخيرة بين أعمال لودفيج فان بيتهوفن. سُميّت القرار الصعب أيضاً، فمن يدري ما كان يدور بمُخيلة المؤلف الموسيقي العظيم في نهاية حياته الفنيّة، هل كان يُسطّر بلحنه الأخير ذلك التساؤل الذي قضى حياته باحثا عن إجابة له؟! هل كان عليه أن يرحل من بلده ألمانيا إلى فيينا ليصقل مواهبه؟ هل كان عليه الوقوف و التصدي للنُبلاء مُعتبرا نفسه نبيل بعمله و أحق منهم بمكانة النُبلاء؟ هل كان عليه إذا أن يحب واحدة منهم مع معرفته بعجرفتهم، فقط ليواجه حقيقة أنه “ليس نبيلا” مُجددا؟ هل كان عليه أن يقسو بهذا القدر اليائس على إبن أخيه؟
“ليس من ذلك بُد”
لا أعتقد أنه يوجد تشابه بين توماس (بطل رواية كونديرا) و بيتهوفن سوى في ذلك التساؤل الحتمي ، توماس رجل خائن ظاهريا لكنه مخلص بشكل أكثر عمقا لتريسا فهو الطرف الأضعف لأنه يشعر دوما نحوها بالذنب، فهو – المتهرّب من كل ثقل في حياته بما في ذلك ابنه و مهنته – لم يتخلص من ثقل انتمائه لتريسا التي أُلقيت في سلة على شاطئه، لكن من أجبره على التقاطه؟ لم يكن هناك من بد فخفة كيانه لم يعد بوسعه أن يتحملها. بهذه البساطة يمكن تفسير ذلك العنوان الجذاب للكتاب، و هو من أفضل العناصر فيه، غير أن البساطة ما لا تشعر به حال قراءتك له.
فتلك الرواية؛ كما ترجمها الناشر العربي: كائن لا تحتمل خفته لميلان كونديرا أو (L’insoutenable légèreté de l’être)، كتاب يثير اضطرابك ويصدمك أحياناً حد الإستهجان وأحياناً أخرى يثير إعجابك .. لكنه في كل الأحوال يدفعك للتفكير .. بحيث تتردد في الكتابة و التعليق عليه، كما أنني لم أقيّمه على موقع Goodreader كما اعتاد الكثير من القرّاء مؤخرا، فلا تقييم يصلح لمثل هذه الرواية، إن كان يمكن تصنيفها كرواية اصلاً.
فهذا العمل أفضل وصف له أنه رحله فكرية مع ميلان كونديرا نفسه ربما في تلافيف دماغه نفسها و في أعماق تاريخه، فهو يُخاطبنا مباشرةً في بعض الأحيان و يقول لنا صراحةً
“أن ليس في وسع الكاتب إلا أن يبتكر شخصياته من حياته ذاتها مع إعطائها إمكانات الخيال لتحقق ما لم يكن ممكن واقعا.”
يأخذنا هذا الكتاب إذاً منذ البداية الى صلب الموضوع: الخفة و الثقل .. هل تخليك عن ما تؤمن به يجعلك أكثر خفة أم إن ثقله ما يجعلك أنت، يمضي بهذه الفكرة في ترددات لما تمثله في مستويات مختلفة كقطعة حجر صغيرة تلقها في صفحة حياة الأبطال في تلك اللحظة التاريخية الحرجة من تاريخ التشيك، لتتكرر في عوَد أبدي خلال القصة.
كما تأثر الكاتب ببيتهوفن، تأثّر كذلك بسيجموند فرويد وطريقة تفسيره واستخدامه لذات رموزه ومفرداته ، بل وأحلامه الرمزية المعقدة ذاتها. يتنوع السرد في القصة ليشمل مناقشات فلسفية يُجانبها المنطق أحيانا إلا أنه يمكن تفسيرها بمسحة العبثية المميزة لليسار المُضطهد هنا أيضا، ويشمل حكايات تاريخية و لقطات أدبية أثرت القصة الرئيسية بزخم جعلها أكثر إمتاعا وعمقا مثل موضوعنا “ليس من ذلك بُد” الذي أضاف بُعداً موسيقيا تردد صداه طوال قصة توماس وتريسا.
هي هنا تجسّد الصراع القائم بنفس توماس بين اختياره لحُبّ تريسا الأشبه بالقدر المحتوم وبين ميله الدائم للتنصّل من أي “ثقل” لكيانه الخفيف والذي ضحى بمقدرات عمله وزواجه السابق للحفاظ على خفته، أما تريسا “فلم يُكن هناك بُد منها!”
فلعلّك تسمع الآن بعد الحوار الصارخ بين الوتريات في جمل لحنية تكاد تنطق بكلمات must it be؟ تكسَّرت نبراتها في استكانة لقدرها، و الرضا به it must be، وتتجلى موسيقى بيتهوفن كالمعتاد في عرض مشاعر مُضطربة بين الإذعان لذلك القدر والتلذذ به وبين التردد والحزن الدفين لأنه على أية حال لم يكن هناك مفر منه .. هل إذعانه وتقبله له بل وحبه لقدره بحب تريسا يجعل حرمانه من الخيار مقبولا؟ هل يتساوى ذلك مع خفته “حريته” المُهدرة؟
تتصاعد الجمل اللحنية إذا من جديد في ذات البداية الصادمة، فالسؤال لا يزال قائما مع كل شيء … تتكرر النغمات المُضطربة بين السؤال و الجواب …
إنه تمازج عبقري بين الصور التي يرسمها ويهّدمها ميلان كونديرا -مثل بطلته سابينا- ليعبر بها عن ذلك التردد الأبدي، وبين نغمات بيتهوفن التي لم يكتبها لتُعزف على أصابع البيانو فقط، بل لتطرق أسئلة في أعماقنا عن خيارات أو لا خيارات، نتركها كثيرا بلا جواب.
أخيرا يقول كافكا:
إنّ الكتاب الجيّد كمعول يحطّم الجليد بداخلنا”
أُضيف: والموسيقى الجيدة كذلك؛ تجعلك تُبحر لتلك الجزر المهجورة بداخلك.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
قولك فهذا العمل أفضل وصف له أنه رحله فكرية مع ميلان كونديرا نفسه ربما في تلافيف دماغه نفسها و في أعماق تاريخه، فهو يُخاطبنا مباشرةً في بعض الأحيان و يقول لنا صراحةً تذكرت فورها عندما قال كوندرا في أحد مقاطع تلك الرواية :
وها.. إني أراه مرة ثانية كما بدا لي في أول هذه الرواية: أمام النافدة، ينظر عبر الباحة إلى حائط البناية المقابل ( هذا حدث عندما كان توماس حائر أمام القرر الذي سيتخده ) .
أنه هذه الصورة. فكما سبق وقلت لكم، أشخاصي لا يولدن من أجساد أمهاتهم كما تولد الكائنات الحية، ولكنهم يولدون من حالة أو من جملة أو من استعارة تحوي في داخلها برعم احتمال إنساني صميم يخيَّل للكاتب أنه يتسن له اكتشافه بعد أو أنه لم يكتب عنه شيئا يستحق الذكر حتى الآن.
ولكن، ألا يجري التأكيد جائما على أن الكاتب لا يسعه أن يتحدث إلا عن ذاته ؟
…..