أهم مدارس السينما العالمية: الواقعية الجديدة وتأثيرها على السينما المصرية
8 د
تعددت المدارس والسينما واحدة، فقد توافد على السينما العديد والعديد من المدارس السينمائية مثل: المدرسة الروسية في العشرينيات، والواقعيه الشعرية الفرنسية، والسينما الحرة البريطانية، والمدرسة التعبيرية الألمانية، والسينما الجديدة في البرازيل، والواقعية الجديدة الإيطالية، كل واحدة من هؤلاء مرت شبيهتها أو أخرى انحدرت منها على السينما في مصر، أمّا عن أكثرهم رونقًا وظهورًا على شاشتنا المصرية هي المدرسة الواقعية الجديدة التي نشأت في إيطاليا.
الواقعية الجديدة أكثر المدارس السينمائية اتصالًا بالجمهور، تمثلهم وتمثل لهم، تصور جميع الطبقات دون تزييف بل على العكس من ذلك فتزيد من التفاصيل الحقيقية التي قد لا يدركها الكثيرون، ولكن الكاميرا التي تستخدم لتصوير الواقع ترى كل التفاصيل بدقة. قبل أي شيء فقط لابد من توضيح أنّ هناك فرق كبير بين الواقعية في الفن عمومًا وبين الطبيعية، فالواقعية تجسد الواقع دون الحاجة كل الوقت إلى تقديم مشاهد جنسية مثيرة بشدة، وخاصةً عند تناول طبقة تحت خط الفقر (العشوائيات)، فتزيد هذه المشاهد بحجة أنّ هذا هو الواقع، وأنّ هذه المشاهد جزءٌ لا يتجزأ منه، إنّما هذه هي الطبيعية بعينها التي يرفضها كثير من الفنانين ولا تمت للواقعية بصلة، أمّا الواقعية هي كشف حقيقة وواقع الحياة لطبقة ومكان معين في إطار فني إبداعي دون جرح هذه الطبقة أو جرح من يشاهدها.
ظهرت الواقعية الجديدة في إيطاليا نتيجة لحياة الفقر والبطالة التي خيمت عليها بعد انتهاء الحرب، وتميزت هذه المدرسة بالتصوير الخارجي في الشوارع والميادين والأسواق، والابتعاد قدر المستطاع عن التصوير داخل الأستديوهات والتي قد يفقد العمل الفني مصداقيّته، فكانت في البداية أفلام الواقعية الجديدة أشبه بالأفلام التسجيلية إلى جانب استعانة المخرجين في أغلب الأوقات بممثلين غير محترفين لأداء الأدوار الرئيسية، ولابد أنّ هذا كان لإكساب الدور مصداقيّته عند المشاهد، حيث لم يرتبط بطل العمل في ذهن المشاهد بدور آخر من قبل.
ومن أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة، فيلم “روما مدينة مفتوحة” للمخرج روبرت روسيلليني، فيلم “معجزة في ميلانو” للمخرج فيتوريو دى سيكا، “الأرض تهتز” لوشيانو فيسكونتي، وفيلم “الأرز المر” لجتسبي دى سانتيس.
الواقعية تضع قدمها في مصر
انتقلت المدرسة الواقعية إلى السينما في مصر، فبدأت كاميرا السينما تخرج إلى الشارع مثلما حدث في إيطاليا، وأخذت تهتم بالشخصيات المهمشة في المجتمع، وتتناول أحداث حياتهم اليومية، فكان أول من بدأها في مصر المخرج صلاح أبوسيف.
يعد صلاح أبوسيف رائد الواقعية في مصر؛ لأنّه أول من اهتم لأمر الطبقات الدنية في المجتمع، والتي لم يرمقها بنظره أحد قبله، فقدم على سبيل المثال وليس الحصر فيلم شباب امرأة ذو الموضوع الأكثر جرأة وقتها، استوقفني أبوسيف عند عام 1956 ليقدم لنا سيدة ذات شهوة جنسية شارهة، تستغل طالب قادم من الأرياف لتشبع غريزتها الجنسية معه، والتى تفتقد إشباعها مع زوجها العاجز، فمن قبله استطاع أن يتوغل في حكايات المجتمع وقتها ويخرج بموضوع كهذا؟! وفي عام 1959 جمع طبقات المجتمع بما تحمله من أفكار وتوجهات وظروف داخل مصعد، وأغلق الباب علينا وعليهم فخرج فيلم بين السما والأرض. في العام التالى 1960 أخرج فيلم بداية ونهاية الذي رسم صورة بائسة لواقع متهالك في تلك الفترة لأسرة يجتمع فيها أخ بلطجي، وأخت تبيع نفسها لمن يجود أكثر، وإلى جانبهم أخ ضابط يرفض واقعه ويحول نظره إلى أعلى بعيدًا عنه، وقدم القاهرة 30 ببطل لم يكن بطل وقتها (حمدي أحمد) ولكن كان الحدث بطلًا، والواقع السياسي بطل، والخوف وفقأ العين أمام الخطأ بطل.
في تلك الفترة قدم عدد آخر من المخرجين أفلام تمس الواقع مثل: المخرج كمال الشيخ فقدم فيلم حياة أو موت عام 1954، والذي صوّر حدثه الرئيسي الممتد طوال الفيلم وسط الشوارع المصرية بأحداثها وازدحامها، وقدم اللص والكلاب عام 1962، وفيلم غروب وشروق عام 1970، فقدم الوضع السياسي وعلاقته بالأوضاع الاجتماعية وقتها.
كان للمخرج يوسف شاهين مساهمة – في بدايته تحديدًا – في ترسيخ قدم المدرسة الواقعية قبل انغماسه في ذاتيته، فقدم واحدًا من أهم أفلام السينما المصرية، وهو فيلم باب الحديد (1958)، والذي عرض في العديد من المهرجانات في الخارج.
موجة الواقعية الجديدة
اندثرت المدرسة الواقعية في السينما خلال فترة نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، والتي من المفترض أنّها كانت معقلًا للأحداث السياسية وقتها بعد حرب 1973، ومعاهدة السلام. إلى جانب ما كان يعانيه أفراد الشعب من قانون الطوارئ وفتح المعتقلات، وظهرت أفلام المقاولات التى لا تمت للواقع بصلة وقدمها عدد كبير من النجوم على رأسهم سعيد صالح وسمير غانم، ثم وطأت قدم الواقعية من جديد على أرض السينما، وأزعم أنّ المخرج محمد خان هو من بدأ الموجة الواقعية الجديد، فتميزت سينما خان الواقعية باهتمامها المطلق بالإنسان ومشاعره وحالاته، فكانت سينماه موضوعها الإنسان لا الحدث.
ومن الصعب أن تجد في أفلامه حدث عظيم يدور حوله الفيلم، أو ينشأ من خلاله صراعًا ما يجعلك تنتظر نهاية الفيلم حتى تعرف إلى أى مدى سيصل، لكن فيلم خان يكون فيلم من الشارع وإلى الشارع، يخاطب المهمشين ويحكي عنهم، يلتقط تفاصيل التفاصيل في يومهم العادي بعين واعية، ويحولها إلى موضوع يصيغه بشكل فني سلس يكمن تميزه في بساطته، وتوهجه في توجيه أبطاله، لا توجد في أفلامه أحداث درامية غير مبررة أو غير مقبولة في الواقع، وإنما يقدم كل ما نراه وما هو موجود لكن بحرفية وإتقان شديدين.
ومن هنا ضمت سينما خان أفلام مثل: (أحلام هند و كاميليا 1988)، فقد صنع خان من أصغر التفاصيل التي تعيشها العاصمة المصرية فيلمًا، وحياةً لا يدركها سوى من يعيش بداخلها دون أن يحيي الفيلم حدث جلل، وكان من أهم وأفضل أفلامه.
كما قدم خان فيلم (زوجة رجل مهم 1988) صرخ الفيلم في وجه سياسة الدولة وقتها، وفي وجوه الضباط الذين يعتقدون أنّهم يأمنون الوطن والشعب بغلظتهم دون وجه حق، بالإضافة إلى فيلم (الحريف 1984) الذي تناول فيه تفاصيل حياة أحد المهمشين الموهوبين، وفيلم (خرج ولم يعد 1984) وقد خرج بهذا الفيلم من العاصمة بكل بهرجتها، واصطناعها المشين، وانتقل إلى الريف ببساطته ونقائه، فقدم فيلمًا مختلفًا على شاكلته من الأفلام.
أبناء جيل الموجة الجديدة
ضمت الواقعية الجديدة أسماء أهم المخرجين في السينما، فعملوا جميعًا من خلال هذه المدرسة لكن كلًا بأسلوبه، كان أقربهم روحًا لخان المخرج عاطف الطيب، دائمًا ما أنظر لأفلامهم على أنّها خلقت بروح واحدة تعيش في جسدي خان و الطيب، قدم الطيب عدة أفلام ذات آراء وخلفية سياسية منها فيلم (سواق الأتوبيس 1982) ذو الإسقاطات السياسية المتعددة، ومن أفضل ما قدمه الممثل الراحل نور الشريف، وفيلم (الحب فوق هضبة الهرم 1986) الذي إذا أرادت إلقاء الضوء على حياة شاب مصري من الطبقة المتوسطة أو أقل من المتوسطة، وحالته المادية والاجتماعية في كل عصر. لن تجد مثالًا لذلك أفضل من علي بطل هذا الفيلم، وقدم (جبر الخواطر 1998) وكان عبارة عن نافذة للظلام والظلم وفقدان الحقوق.
في الطريق الآن إلى روح واقعية مختلفة تمامًا إنّه المخرج داوود عبدالسيد، بدأ داوود عبدالسيد حياته العملية بالعمل كمساعد مخرج في بعض الأفلام، أهمها “الأرض” ليوسف شاهين، “الرجل الذي فقد ظله” لكمال الشيخ، أي إنّ بداياته السينمائية كانت مع مخرجين يقدمون سينما واقعية. لذلك، فهو بالفعل شرب منهم تقديم السينما الواقعية ولكن بطريقته الخاصة، فاختلفت سينما السيد عن سينما أساتذته، وكذلك زملائه – خان و الطيب – في أنّ أفلامه دائمًا كانت تحوي شيئًا من داخله، دائمًا ما تتضمن أسئلة استثنائية عن الإنسان وحياته يريد شخصه إجابة عليها، وإن لم يجد الإجابة كان يكتفي بطرح أسئلته ومشاركتها مع الجمهور، فيحرك ذهنهم للبحث معه، ومن هنا كانت جميع أفلامه ما هي إلّا محطات تُشكل مشروع سينمائي متكامل يطرحه شخص داوود عبدالسيد، وفي الوقت نفسه هو ليس مشروع خيالي، وإنما هو مشروع من قلب الواقع، وحتى بعض شخصياته الاستثنائية هي شخصيات واقعية باحتة يراها السيد، ويستوعب تفاصيلها، ويقدمها على شاشة السينما بكل أسئلتها. سمة أفلام داوود عبدالسيد هي تجسيد فكرة النهايات المتعددة كما الواقع، حيث تحتمل حياة كل إنسان في هذه الدنيا أكثر من نهاية على حسب معطيات حياته في كل فترة يمر بها، فطرح السيد هذا بشكل وبآخر من خلال أفلامه، فقدم “أرض الأحلام” فيلم تمر كل أحداثه خلال ليلة واحدة لكنها ليلة تحمل ما قد يحمله عمر بأكمله من تساؤلات خاصة، وإنّها كانت ليلة رأس السنة، وقدم “الكيت كات” يكمن سحر هذا الفيلم في “أنّه يقول كل شيء دون أن يقول أي شيء” كان هذا أفضل تعبير سمعته عن الفيلم من أحد الأساتذة الكبار في المجال.
ونحن نتحدث عن الواقعية الجديدة لا يمكن إغفال اسم خيري بشارة صانع فيلم (يوم مر ويوم حلو)، وفيلم (كابوريا)، وفيلم (أمريكا شيكا بيكا) الذى قدم موضوع هجرة الشباب، وكذلك كبار السن إلى أمريكا بحثًا عن فرصة رزق أفضل، ورأفت الميهي صاحب التكنيك الفانتازي في تقديم الواقعية وأبرز أعماله فيلم (سيداتي آنساتي)، وفيلم (سمك لبن تمر هندي)، وفيلم (ميت فل).
والآن هناك بعض المخرجين الذين يحاولون تقديم سينما واقعية تمس النظام والمجتمع. لكنها أنصاف تجارب؛ لأنّها لا تستطيع أن تحاكي التفاصيل الحقيقية الواقعة في المجتمع، حقيقةً الأمر أنّ كل ما يقدموه هي أفلام عن حياة الفقراء والطبقة التي تعيش تحت خط الفقر، لكن دائمًا ما ينقصها شيئًا ما، فهي تنظر إلى الموضوع من الخارج فقط، لا تتعمق في أدق تفاصيله، فليس هناك الآن من يمتلك عين خان الثاقبة، ولا شخصية داوود عبد السيد الكامنة في أفلامه، ولا جرأة عاطف الطيب المبررة والمطلوبة لصنع الفيلم، لا نريد نسخ مصطنعة من هؤلاء المخرجين، وإنما نريد أن يعود مخرج مثل: محمد أمين إلى السينما الذي قدم أفلامًا أهم ما تكون في تاريخ السينما الحديثة رغم قلتها، وأهمها فيلم “فيلم ثقافي”، وفيلم “بنتين من مصر”، كذلك نرغب في عودة الثنائي وحيد حامد و شريف عرفة معًا لتعود أفلام “اضحك الصورة تطلع حلوة”، و “الإرهاب والكباب”، فما تحتاجه السينما الآن حتى تنتعش سيناريوهات أفلام كهذه، وليس تقنيات حديثة لإبراز سيناريوهات ضعيفة لا تمت للواقع ولا الحياة بصلة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.