فيلم Persona والهروب من زيف الحياة إلى براح الصمت
يقول دوستويفيسكي في روايته رسائل من تحت الأرض:
“إن لكل إنسان ذكريات لا يريد أن يُصرّح بها للجميع وإنما لأصدقائه فقط، ولديه أيضاً أشياء أخرى يخشى أن يخبر بها حتى نفسه. وكل إنسان خلوق يملك مثل هذه الأشياء، يُخزنها في مكان عميق من ذهنه، وكلما ازداد الإنسان خلقاً زاد عدد الأشياء المخزنة في ذهنه.”
من نحن؟ قد يبدو سؤالاً بسيطاً لكن الإجابة عليه تستوجب أن نُفتّش في هذا المكان العميق من الذهن الذي أشار إليه دوستويفيسكي ونبدأ رحلة بحث في عالمنا الخاص الذي لا يطلع عليه أحد، لكننا سنجد حواجز أمامنا علينا أن نتخطاها كي نستطيع النفوذ لداخل النفس البشرية.
تلك الأقنعة الزائفة التي نرتديها يوماً بعد آخر بدءً من الابتسامات الباهتة والمجاملات الخالية من أي مشاعر حقيقية مروراً بالعلاقات التي تستنزف الروح، وحتى الأدوار التي نلعبها في الحياة دون أن تُمثّل حقيقةَ ما نُريده فتصير ثِقلاً لا نتحمّله.
لذلك في لحظة ما قررت “إليسابت” ، التي تلعب دور إلكترا في أحد المسرحيات، أن تصمت إلى الأبد، لم يجد الأطباء أي سبب بدني أو عقلي لحالة الصمت التي تعيش فيه “إليسابت” لأكثر من ثلاثة شهور.
في عالم “إنجمار برجمان” المخرج السويدي وأحد أعظم صنّاع السينما في التاريخ كل تفصيل له معنى وكل مشهد لوحة فنية لا تُنسى، برجمان، الذي بدأ حياته كمساعد مشغل جهاز تسليط الضوء، بدأ فيلم Persona بمشاهد متتالية لصور ضوئية صادرة من جهاز تسليط ضوء سينمائي ليفتح بابا بين الواقع والخيال، ننتقل من خلاله ذهاباً وإياباً بين مزيجاً لمشاهد واعية وأخرى في لا وَعي شخصيتي الفيلم، هي سمة أخرى مميزة في عالم برجمان حيث تُمثل السريالية طابعاً مشتركاً في أفلامه.
“حلم الوجود اليائس.. أن لا تتظاهر ولكن أن تكون”
استطاعت الممثلة “ليف أولمان” أن تُقدّم أداءً مميز دون أن تشارك “إليسابت” في الحوار طوال الفيلم، ولكنها قدّمت باستخدام تعابير الوجه كل الرسائل التي أراد برجمان أن ينقلها من خلالها، قررت أن تدخل في حالة من عدم التواصل مع البشر من خلال صمت اختياري – أو هكذا أرجّح – لتعلن بذلك الاكتفاء من هذا الزيف في معاملات البشر والحاجة الدائمة في أن تكون حذراً في أفعالك..
تلك الهوّة الواسعة بين ما تبدو عليه للآخرين وما أنتَ عليه في الحقيقة التي لا يعلمها إلاّ أنت. تُقرر بألاّ تضع مزيداً من الأقنعة اللازمة للتواصل مع العالم وتُوجِد بديلاً آخر للانتحار بالصمت.
“بيبي أندرسون” الجانب المتكلم في تلك الدراما النفسية، “ألما” الممرضة المعنية بمرافقة “إليسابت” حين تُقرر الطبيبة أنها تحتاج مغادرة المستشفى لتقضي وقتًا في بيت تملكه على جزيرة منعزلة يعطيها فرصة للاسترخاء والبعد عن ضغوط الحياة.
روعة الدراما هنا في قلب الأدوار حين تبدأ “ألما” في الانجذاب لـ “إليسابت” بعدما وجدت فيها مستمعاً جيداً لها، كلنا يبحث عن تلك الفرصة التي نجلس فيها مع شخص ما لنتحدث عن كل ما بداخلنا دون أي حدود تضطرنا لإخفاء جانب ما في شخصيتنا أو اقتطاع جزء من الحكاية.
وكأن “ألما” هي المريضة و”اليسابت” هي الممرضة، فتُفضي “ألما” بحكايات لم تشاركها مع أي شخص من قبل لتبدأ شخصيتها تذوب في شخصية “إليسابت” وتفقد هويتها فيها حين تنزع كل الأقنعة التي تحجب الجوانب الخاصة من عالمها وينفتح عالم كل منهما على الآخر.
“القليل هو الأكثر، فقط الحقيقة هي ما يهم”
“البساطة” أو “Minimalism” أحد الاتجاهات الفلسفية التي تأثر بها “برجمان” في أعماله تبدو واضحة في فيلم Persona .. بساطة مكونات الصورة التي يقدمها باللونين الأبيض والأسود، فمثلاً ترقد “إليسابت” في غرفة لا تحتوي على أي شيء سوى سرير و تلفاز صغير، ستجد هذا الطابع مسيطراً على كل الأماكن في الفيلم، التركيز على الوجه حيث يتمكّن من جمع كل العناصر السينمائية فيجعل من الوجه البشري مركزاً لأغلب الكادرات مع حركات الكاميرا القليلة جدا ليرى المشاهد الصورة وكأنها انعكاس لما بداخله من خلال مرآة سحرية هي في الحقيقة معجزة من معجزات سينما برجمان.
على الرغم من بساطة القصة كما يبدو إلا أن فيلم Persona دراما نفسية معقدة مليئة بالتساؤلات، أستطيع أن أؤكد لك أنه من الصعب أن نتفق جميعاً على تأويل رسائل برجمان التي تناولها الفيلم أو أن نجد إجابة شافية ومحددة لكل التساؤلات التي سيطرحها أي شخص يشاهده.
تصل تركيبة الدراما إلى قمتها في مشهد تكوين وجه من نصفين أحدهما لألما والآخر لإليسابت حين يشتبك الواقع والحلم ويصعب التفريق بينهما والحسم في مدى حقيقة الأحداث سواء بالنسبة لألما أو لنا كمشاهدين.
برجمان لا يُقدّم المساعدة أبداً لمشاهديه، ولا يترك أمامهم العديد من الأسئلة دون إجابة بل ينسج عدة خيوط تجعل كل شخص يجد منطقاً لتأويله، أكثر التساؤلات التي تشغل الذهن بعد مشاهدة فيلم Persona وأعتقد أنها ستواجهكم دون حسم، هل الفيلم يدور بين شخصيتين حقا أم أنهما جانبين لشخصية واحدة، صراع داخلي بين الصورة التي نعيش عليها بين الناس والعالم الذي نعيش فيه وحدنا.
أم أنه أراد أن يقول أننا حين ننزع تلك الأقنعة سنجد أننا جميعا متشابهين، كلنا بعيدين عن الكمال وبنا نفس العيوب ولكن البعض يستطيع أن يخفيها تحت قناع زائف أكثر من الآخرين!
إذا كنت لم تدخل عالم برجمان من قبل أو تقتصر معرفتك به على فيلمه الأشهر The Seventh Seal أنصحك بشدة أن تخوض تلك التجربة السينمائية الفريدة التي تجمع متعة السينما مع نشوة التفكير الفلسفي.
تريلر فيلم Persona
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.