فيلم Phoenix ورمزية البعث والخلود
6 د
يتم في هذا المقال سرد الكثير من تفاصيل فيلم Phoenix لتسليط الضوء على الجوانب التقنيّة والفنيّة وأيضاً القصصية، فلذلك يُرحى الانتباه لمن لم يشاهد الفيلم!
يتعاون المخرج الالماني كريستيان بيتزولد مرة أخرى مع ممثلته المفضلة في معظم أفلامه نينا هوس والممثل رونالد زيرفيلد في فيلم Phoenix أي “طائر الفينيق” أو “العنقاء” الذي شهد عام 2014 عرضه الأول، ويعد هذا التعاون الثاني الذي يجمع ثلاثتهم بعد فيلمه السابق Barbara عام 2012. وإن كان في فيلم Barbara قد عاد إلى المانيا الشرقية في الثمانينات في ظل القبضة الحديدية لها، فيرجع هنا مرة أخرى لتاريخ المانيا الحديث في فترة سابقة عنها.
يتناول بيتزولد في فيلم Phoenix حالة المانيا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، برلين على وجه الخصوص، والدمار الذي حل بها أثناء سنوات الحرب. ليس فقط دمار المدن والمباني ولكن دمار هوية الأفراد أنفسهم، وتحطم قيمة الانسان، حتى أصبح ضائعًا بين الماضي والحاضر بكل ما يحمله من ألم، هائمًا على وجهه للبحث عن وطن آخر، وطن يستطيع أن يضم ما تبقى منه.
رمزية المعنى
كان لاختيار اسم الفيلم دلالة رمزية قوية، فطائر الفينيق أو كما يسميه العرب “العنقاء” هو طائر خيالي في الحكايات والأساطير. طائر قوي ذو جمال براق وأهم ما يعرف عنه أنه يحب التغيير، فيعمل كل فترة على إحراق نفسه ليخرج من رماده فينيق جديد يكمل مسيرة تلك الحياة التي لا تنتهي. وكذلك نيللي (نينا هوس) في الفيلم تخرج من تجربتها الأليمة ويعاد احيائها مرة أخرى، فهل تستطيع الرجوع بكامل صفاتها وهيئتها؟
تتمكن نيللي من الهروب من معسكر الاعتقال النازي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية اثر اعتقالها أثناء الحرب لكونها يهودية الأصل، فتعود بعد أن تدمر وجهها من التعذيب كما دُمرت مدينتها. تخضع لعملية تجميل لإعادة احياء وجهها مرة أخرى، ولكنها لا تقدر على إعادة الماضي معه.
بداية الرحلة
تأخذها صديقتها لينا (نينا كونزندورف) إلى بقايا منزلها القديم، فتظهر أنقاض برلين بصورة جمالية حيث تحتل الجزء الأكبر من الكادر بألوانها الجذابة، بزاوية جانبية منخفضة وكاميرا ثابتة تظهر فيها ضآلة نيللي في الجزء الأيسر من الكادر، وبأفق يغلقه الجدران فتشبه لوحة مرسومة تتباكى على أحوال المدينة. تصادفها مرآة محطمة ترى فيها هيئتها الجديدة، فلم تعد تتعرف على نفسها ولا على الوضع الجديد للبلاد، فتقول للينا: “لم يعد لي وجود”.
تصر نيللي على البحث عن زوجها جوني، رغم اخبار لينا لها بأنه قد قام بخيانتها وتسليمها للنازيين مقابل سلامته. لا تصدقها وتبحث في شوارع وطرقات برلين المدمرة، ترى شحاذ يعزف على أطلال المدينة، فتسأله عن زوجها عازف البيانو، ولكن لم يعد أحدًا يعرف الآخر. تواصل بحثها حتى تلتقي بجوني (رونالد زيرفيلد) أو يوهانس كما أصبح يطلق على نفسه، ولكن تكمن صدمتها في عدم تعرفه عليها.
الحب مقابل الخيانة
يرى يوهانس في نيللي صورة زوجته لكنه لا يقدم على الاعتراف بأنها مازالت حية، فهي قد قتلت بالمعتقل كما يعتقد الجميع. يدفعه الطمع إلى أن يطلب منها تمثيل دور نيللي من أجل أخذ الميراث الذي تركته لها عائلتها. من هنا تتبلور صورة جوني او يوهانس الذي لا يريد سوى المال، ولكن نيللي بتركيبتها المعقدة تصمم على حبه لها وتوافق على الدخول بتلك التمثيلية، فهو الأمل في مساعدتها للرجوع إلى طبيعتها ما قبل الحرب، هو الوحيد القادر على إعادة احيائها من جديد، فهو من يعرفها جيدا.
يستمر يوهانس في إنكار أن تلك المرأة التي يعلمها تشبه زوجته، فهو غير قادر على ادراك عدم موتها. يطلب منها الرحيل حيث أنه لا فائدة منها؛ فيسخر من هيئتها وطريقة مشيها والتظاهر بأنها لا تشبه امرأته، ولكنها تتشبث بتلك الفرصة حيث أنها الفرصة الوحيدة للرجوع إلى نيللي مرة أخرى. يظهر هنا تناقض الشخصيتين: شخصية يوهانس الخائنة الضعيفة والذي يبرر ضعفها بالإنكار في مقابل شخصية نيللي القوية وإصرارها على البحث عن ذاتها.
البعث مرة أخرى
يحاول يوهانس إعادة احياء نيللي من خلال تلك الفتاة المدمرة، ويصمم أن يحدث ذلك في القبو الذي يعيش به بعيدًا عن أنظار العامة تمهيدًا لمفاجأتهم. لا يريد أن يراها أحد أو يتشكك بها، فيحبسها في ذلك المكان الوضيع ويمنعها من التعامل مع الآخرين. في حين أنها تذهب إلى صديقتها لينا في الخفاء وتظهر معها في معظم المشاهد بهيئة سلوليت تخفي ملامحها، على عكس ظهورها مع يوهانس، فنيللي الحقيقية لا تعود سوى به ومعه.
على النقيض من نيللي، ترى لينا أنه ليس هناك أمان بألمانيا الجديدة، ويجب عليهم الرحيل إلى فلسطين حيث لم شمل اليهود مرة أخرى. فلم تعد لينا تتحمل بلدها التي خانتها أو سماع أناشيدها الوطنية، وترى أن الهروب إلى فلسطين/اسرائيل هو مصدر الأمان الوحيد لها. ولذلك تستنكر موقف نيللي من التصالح مع الدولة، ومع جوني حتى بعد اكتشاف خيانته لها. فالحرب قد أفقدتها الثقة بالجميع، حتى تفقد الثقة بنفسها في النهاية وتقرر انهاء ذلك المصير بطريقتها.
تداخل الوهم والحقيقة
تصر نيللي على إكمال اللعبة/الرحلة مع جوني، فحبها له هو مصدر الأمان الوحيد لها، فتحاول أن تتعرف على نيللي من خلال نظرة جوني إليها. تحاول الرجوع إلى مظهر الزوجة قبل الاعتقال؛ تصبغ شعرها، ترتدي ملابسها، تضع احمر الشفاه الخاص بها، وتسأله اذا كان تعرف عليها كنيللي الحقيقية، لكنه لا يستطيع أن يراها بعد. تقنعه بأن الناس سيسألونها عن المعتقل وما مرت به، فتحكي قصتها الحقيقية التي مرت بها وما حدث لها كأنه قصة مؤلفة قامت بقراءتها في بعض الصحف، يتحول الواقع الملموس إلى خيال، فيتداخل الوهم بالحقيقة أثناء التمثيل.
يحكي لها جوني عن تاريخ نيللي، تستمع إلى قصة حياتها من شخص آخر، فرغم معرفتها بكل تلك التفاصيل، إلا أنها تستمتع بسماعها مرة أخرى. تحاول إعادة الماضي بعمل نفس ما كانا يفعلانه سويًا، السير معا في لقطة متوسطة في كادر يزينه على الجانبين لون الأشجار الخضراء، الجلوس في مكانهم المفضل في الحديقة، فيشك أنها قد شاهدت صور نيللي التي يخفيها عنها، ويعنفها بأنها ليست هي، فهو لا يريد الاعتراف بوجودها، حيث يقنع نفسه بأنها ماتت من أجل نسيان الماضي.
أثناء حديثهما في الحديقة تنسى نيللي قبعتها، يمر الناس بالشارع فلا تقدر على اخفاء وجهها عنهم، يقوم يوهانس بتقبيلها حتى لا يتعرف أحد عليها، فتصبح تلك قبلة الحياة التي تعود معها من جديد، حيث تنفخ افروديت في روحها وتعيدها للحياة من خلال تلك القبلة العابرة. حتى تكتشف خيانته لها عندما تعرف أنه قد طلقها أثناء الاعتقال، ولكنها تكمل اللعبة للنهاية.
نهاية وحيرة
رغم براعة تمثيل نينا هوس في دور نيللي طوال الفيلم، إلا أنها تتألق بنهاية الأحداث، فبعد أن تكمل التمثيلية وترجع كنيللي الحقيقية ويتعرف عليها الجميع، فتطلب منهم السماح لها بالغناء مرة أخرى كما اعتادت في الماضي، وتريد من جوني بعزف أغنية كورت فيل الشهيرة Speak Low والتي تكشف بها عن شخصيتها الحقيقية من خلال أدائها المميز. يتوقف جوني عن العزف، ويتأكد من خلال وشم رقمها في المعتقل الذي يلمحه على ذراعها، تحل الصدمة على جميع المتورطين في تلك التمثيلية. نيللي عادت وتتغنى بالكلمات التي طالما تغنت بها في الماضي مع جوني، الزوج وعازف البيانو.
تتركهم وتبتعد إلى مالا نهاية وتتلاشى معها الصورة، فنيللي قد رجعت، ولكن رجعت بأي طريقة؟ وماذا ستفعل؟ هل ستترك جوني للأبد؟ أم ستسامحه وترجع إليه من جديد؟ أم أن نيللي التي عادت هي شخص آخر له اختيارات أخرى؟ يضعنا فيلم Phoenix في حيرة اختيار مصير نيللي بعد عودتها، فإذا كان طائر الفينيق يعرف مصيره بعد رجوعه واعادة احيائه من الموت، فنيللي هي ذلك الطائر الحائر الذي يشركنا في حيرته.
تريلر فيلم Phoenix
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.