فيلم خريف سوناتا 1978… البحثُ عن الأمومة في وقتٍ متأخر جدًا!
مساهمة: طاهر زمزمي – تونس
تنويه: قد يتضمن المقال تفاصيل يعتبرها البعض حرقًا جزئيًا لأحداث الفيلم.
مشاهدة فيلم لانغمار بيرغمان هي في حد ذاتها تجربة نفسية شديدة القتامة والتأثير، وتعامله سينمائيًا مع التشريح النفسي أقل ما يُقال عنه أنَّه عظيمٌ.
يقول أحد المفكرين: “سأحب العالم كله فقط عندما تحبني أمي”.
كعادة أفلامه “بيرغمان” يغوص في عوالم الإنسان، ويبدأ في تشريح العلاقات بين الشخصيات ويطرح العديد من الأسئلة. في هذا الفيلم يسلط الضوء على علاقة حساسة للغاية… علاقة متوترة بين أم وابنتها… علاقة هشة لا تبنى على حب لتكون شخصيات محطمه وتائهة.
“أكبر العقبات التي تصادفني هي عدم معرفتي من أنا، أتلمس طريقي كالعمياء”.
تبدأ أحداث الفيلم عندما يموت أحد اصدقاء الأم “شارلوت”، والتي تجسد دورها أيقونة هوليوود السويدية “أنجريد برغمان” لتقوم ابنتها الكبرى “إيفا” بدعوتها للإقامة عندها لمساعدتها على تخطي محنتها. “شارلوت” الأم التي أهملت أطفالها وتركتهم في سبيل تحقيق أمجاد شخصية، ومسيرة مهنية خالدة تزور ابنتها للمرة الأولى منذ سبع سنوات.
في واحد من أكثر المشاهد رمزيةً في الفيلم يصور المخرج وصول “شارلوت” إلى منزل ابنتها الريفي والكاميرا تتبع سيارتها، وهي تصعد ببطء كأنَّ المخرج يخبرنا أنَّ الشخصيتين بينهما بحور وجبال ومسافات طويلة من الاختلاف والبعد، والحب والحنين.
تستيقظ “شارلوت” فزعةً من نومها تغادر غرفتها… تتبعها ابنتها “إيفا” لتبدأ بينهما مواجهة وعتاب يستمر طويلًا في أحد أقوى مشاهد الفيلم.
هناك إحساس بالاغتراب وسوء الفهم الذي أبقى هذه الأم وابنتها منغلقتين على بعضهما البعض على مرِّ السنين، وخلال هذه الجلسة الاستثنائية في منتصف الليل، وباحتساء كأس من النبيذ هي فرصة لفتح الملفات القديمة. بسؤال طفولي النبرة يصدر من الابنة ذات الثلاثين ربيعًا: هل تحبينني؟ تبدأ المواجهة… مواجهة تحمل الكثير من المشاعر المشوشة والقسوة والكره والحب والعتاب.
“إيفا” تلوم أمها على كلِّ ما تعرضت له في الحياة… تلومها على حالة أختها الصغرى “هيلينا” التي وضعتها الأم من قبل في دار للمعاقين ذهنيا… تلومها على تسببها في عدم قدرتها على إقامة علاقة حب حقيقية… تلومها على تركها وحيدةً وانشغالها بالجولات والحفلات الموسيقية.
تعلمت “إيفا” وهي طفلة إخفاء مشاعرها، فهي إلى الآن لا تزال خائفةً من إظهار هذه المشاعر حتى مع زوجها. كانت “إيفا” في حاجة ماسة للأمومة التي لم تحصل عليها.
من الأم إلى الابنة… إلى الابنة مرةً أُخرى… تستمر هذه المواجهة التي أرادها “بيرغمان” أن تكون مواجهةً مدمرةً نفسيًا للأم والابنة… أظنه أرادها أن تكون مدمرةً للمشاهد أيضًا… أرادها أن تكون ليلة مليئة بالعتاب والاعترافات.
في علاقة الطفلة بالأم هناك مشاعر لا تقال، هناك شعور بالحب أو الكراهية الحادة التي لا يمكن أن تقال إلَّا في ساعات أشبه ما تكون بالمثالية أو غير الطبيعية. الكل منهم يحتفظ بحقيقة مشاعره خشية التصريح بها ربما خشية تفجر المشاعر إلى عدم السيطرة عليها.
لدى الأم “شارلوت” شعور غامر بأنَّها نجحت كفنانة وفشلت كأم… لا نستطيع أن نقول أنَّنا أمام أم تكره ابنتها أو تحقد عليها نحن أمام أم يسيطر عليها الخوف… خوف “شارلوت” لم يكن من متاعب الأمومة وحدها، أو من طلبات “إيفا” ابنتها كما بررت لها في البداية، بل كان خوفًا من إظهار الحب المتفجر داخل قلبها تجاه ابنتها، ومن احتمال أن يدفعها هذا الحب لإفناء نفسها تحت وطأته. لذلك، خيرت “شارلوت” أن تكون عازفة بيانو ناجحة على أن تكون أم مثالية؛ لأنَّ الأمومة في رأيها شعور طاغ بشكلٍ يصعب تحمله، يأكل في طريق نموه كلّ شيء فيها بشكلٍ قد يكون مؤذيًا لها كأم بقدر ما هو مؤذي للأبناء.
كلّ ما يمكن الإشادة به في هذا الفيلم هو مختزل بطريقة رائعة في مشاهد الصراع والمشادات الكلامية العنيفة بين الأم وابنتها، “بيرغمان” مخرج بارع جدًا في استخدام اللقطات القريبة، وبراعته تكمن في التقاط ردود الفعل من وجوه الشخصيات، عدسة كاميرته تعتصر أحاسيس شخصياته بطريقة لا تصدق، وقدرته على تصدير الشعور الذي يريد إيصاله إلى المشاهد بطريقة مؤلمة وعظيمة.
لقطات الفلاش باك التي استعملها تزيد من حدّة المشاهد بطريقة رائعة، الموسيقى الخافتة تعطيك إحساس أنَّه يواسى شخصياته أو حتى يعاتبها بلطف، اللحظات التي يختار فيها أن يضيء الكادر أو يُظلمه مدروسة بدقة متناهية.
“إنغمار بيرجمان” هو أستاذ في تنظيم هذا النوع من الدراما النفسية العميقة.
أعطت “إنجريد بيرغمان” للشخصية كلّ ما هو ممكن، وجهها، نظراتها، حركتها في الكادر تنتقل من الفرح إلى الدموع إلى العذاب بشكلٍ سلس في شخصية أقل ما يقال عنها أنَّها معقدةٌ، ومركبة يفصلها خيط رفيع بين كونها أم وبين كونها فنانة، و”ليف أولمان” يكفي تأمل نظراتها في مشهد العزف العظيم.
على الرغم من أنَّ اختتام فيلم “سويناتا الخريف” مثير للقلق بشكلٍ رهيب، إلَّا أنَّه واقعي لأبعد الحدود، فالندوب التي تسببت فيها سنين طويلة من البعد والفراق لا تشفى في مواجهة واحدة، أمَّا “إيفا” فيعطينا الفيلم انطباع وأنَّها قد حققت ذاتها من خلال هذه المواجهة الحادة مع والدتها.
هذا فيلم مثير للتفكير حول المشاعر المتناقضة في علاقة متوترة للغاية بين الأم وابنتها.
تقييم فيلم Autumn Sonata 1978 على IMDB: أربعة نجوم في 19 ألف تصويت.
تشويقة الفيلم:
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.