فيلم أحلى الأوقات .. الذين لم يحلموا بأكثر من حياة
على الرغم من أن الشخصية الرئيسية في فيلم أحلى الأوقات حسب رؤية السيناريو، ورؤية المخرجة، بل ورؤية جميع المشاهدين هي “سلمى” الشخصية الأرستقراطية التي أدت دورها حنان ترك، إلا إنني أرى رأيًا ربما يخالفني فيه جميع من شاهدوا الفيلم.. وهو رأي غير منطقي على الإطلاق، ولا يستند إلا لدليل واحد ضعيف، لا يعتد به ولا يحمل على عين الاعتبار.
حيث أرى أن الشخصية المحورية في فيلم أحلى الأوقات هي يسرية، ربما هناك عشرات الأدلة ضدي أهمها على الإطلاق أن سلمى هي المحرك الرئيسي للأحداث، هي التي بسبب خطاباتها المجهولة انسابت خيوط الفيلم، ودارت البكرة.
لكن دليلي الوحيد الذي يدعم بشكل هزيل رأيي هو أن اسم الفيلم هو “أحلى الأوقات” وهي الصفة المعبرة عن شعور يسرية وهي برفقة أصدقائها.
سلمى فتاة لديها وقت فراغ كبير، ربما وقتها الفارغ وحياتها المرفهة والتحاقها عن طريق والدتها بالطبقة الغنية، جعل رد فعلها تجاه تلك الخطابات المجهولة التي تصلها، طبيعيًا جدًا.
سلمى التي تحاول البحث عن مغامرة تخفف الملل من حياتها وتخرجها من جو الحزن بعد وفاة أمها.. ربما هي في أعماقها لا تبحث فعليًا عن من يرسل لها الخطابات بقدر ما هي تحاول البحث عن شيء غير مألوف وغير طبيعي يجذبها في دواماته ويجعلها تشعر بالألفة والاطمئنان، بعد أن باتت تشعر بالاغتراب مع زوج أمها الراحلة في شقته.
ضحى.. صديقتهما الثالثة التي تحلم بالتمثيل واقتحام عالم السينما، وتجد في حياتها الظهير العاطفي – طارق – الذي يكافح من أجل زواجهما وتعمل معه في محل الطباعة بالكمبيوتر، ولا يعدم ذلك اقتناص لحظات المتعة سويًا رغم أنف العمل والزبائن.
لكن يسرية، يسرية هنا تعاني من ركود حياتها.. من توقفها عن السريان، من تحولها إلى سيدة تخانق ذباب وجهها بلا سبب معلن.. مع زوج ليس في حياته أي شيء سوى الطعام والأبناء وارتداء النظارة والطاقية.. في حين أنه يلقي كامل الحمل على كاهل يسرية، حتى من الشكل الظاهري ليسرية، هي من ارتدت الحجاب.. وفقد جسدها الكثير من أنوثته بسبب الإنجاب والحمل، لدرجة أن زوجها لم يعد يعتقد في جاذبية جسدها.. فآلت الأمور إلى روتين قاتل وحياة صلبة لا تجد فيها ليست الشاعرية أو الرومانسية فحسب، بل حتى الكلمة الطيبة والشعور بالآخر.
لذلك نجد يسرية الأكثر تحمسًا في البحث مع سلمى عن هذا المجهول الذي يرسل لها الخطابات.. بل والأكثر اندفاعًا وتهورًا.. إنها لا تتردد في شيء.. ليست تتردد فحسب.. بل هي من تشجع صديقتيها المترددتين نحو أفعال غير منطقية على الإطلاق، مثل اقتحام شقة جار سلمى، أو السفر للإسكندرية مباشرة لملاقاة والد سلمى المنسي، أو العراك مع شخص في الشارع “تظن” سلمى أنه يتبعهن.
ومن الواضح أن سلمى مصابة دائمًا بهاجس أن هناك من يتبعها.. في حين أن هذه أوهام ليس لها أي دافع أو مبرر.. ربما هذه هي الأوهام ذاتها التي تصورها رغبتها المُلحة في المغامرة وإضفاء أجواء المؤامرة والتربص على أزمتها البسيطة.. وهي أنها تتلقى خطابات من مجهول، ليست خطابات تهديد أو إرهاب؛ بل خطابات شرائط كاسيت لمطرب تحبه، أو لصورة فوتوغرافية تحمل وجوه من دوامات الماضي، أو باقة ورد في عيد ميلادها.
يسرية هنا إذ تبحث عن شيء فهي تبحث عن الشاعرية بعيدًا عن إبراهيم “النكد” بعيدًا عن لا مبالاته وعدم اكتراثه، بعيدًا عن فشله في احتوائها وتفهمها، ليس فشله.. بل عدم محاولته من الأساس.
إبراهيم الذي تسأله يسرية إن أرسل له مجهول خطابًا ماذا سيفعل؟ ليقول إبراهيم بمنتهى الأريحية “أقراه”.. هنا تنظر يسرية باستنكار ولكن تحاول نكأ هذا الجانب مرة أخرى، تحاول إحياء الدهشة داخل إبراهيم الميت المشاعر حد التحلل، فتسأله إن كان مكتوبًا بشكل غير مفهوم أو به كلمات مبهمة، ليجيب إبراهيم بمنتهى الأريحية السابقة: “أقطّعه وارميه”.. هنا تصاب يسرية بخيبة الأمل.. ويتأكد لديها أنه ليس هناك أي تفهم على الإطلاق!
يسرية التي تضع المزيد من الشطة في الكشري، يسرية التي تعنف إحدى الفتيات لأنها ترتدي حذاءً لا يليق – من وجهة نظرها – بمدرسة، يسرية التي لا تتحرج أن تلعب الكرة في الشارع.. قد تبدو شخصية عملية قوية الشخصية صلبة.
لكنها هي ذاتها التي في أسوأ موقف ممكن أن يتعرض له الإنسان، وهو أن يُحتجز من قبل الشرطة.. تقول:
“انتو عارفين ايه أهم من البوس بكتير؟ الحضن.. الست لما بتتحضن حضن بجد، بتحس إنها ست فعلاً.. حاجة صغيرة كدا وضعيفة بس مالكة كل حاجة، عشان كدا الستات بعد الجواز بيقلبوا رجالة، عارفين ليه؟ عشان الرجالة المتجوزين مبيعرفوش يحضنوا.”
في الحجز.. في قسم البوليس، تتلفظ يسرية بكلماتٍ كتلك، مع ضحكات تعكس التحجر الذي اعترى مشاعر يسرية!
وأخيرًا تذهب يسرية إلى منزلها وتتعارك مع زوجها التي يصرخ فيها:
“عاوزة أيه؟“
فتجيب:
“عاوزة ورد يا ابراهيم، ومتقوليش إن نص كيلو كباب أكتر رومانسية من الورد.. أنا عايزة ورد.. نفسي في ورد.“
تجيب أخيرًا يسري لتفضي برغباتها وخواطرها لشريك حياتها الذي لا يفهمها على الإطلاق.. لم يحدث انهيار لجسور التواصل، بل لم تنشأ الجسور منذ البداية، إنه يجيبها بكل عصبية:
“ودي نغمة جديدة علموهالك اصحابك؟ ولا البت بتاعت المعادي قالتلك: انتو ازاي عايشين من غير ورد!؟“
للأسف يترك إبراهيم أساس المشكلة وهي رغبة يسرية بالورد، ليتساءل ممن أتت بهذا الكلام؟ يترك الرغبة المزمنة لدى زوجته ليتساءل حول هذه الطلبات الجديدة الغريبة والمُقحَمة على منزلهما الرتيب!
تقول يسرية:
“الموضوع ملوش دعوة باصحابي، أنا اللي طول عمري نفسي في ورد، مفكرتش مرة تجيبهولي؟ لا في عيد جواز ولا في عيد حب ولا في عيد ميلاد ولا حتى في 6 أكتوبر؟ ليه؟ أنا مش ست زي بقية الستات؟ ولا أنت مش راجل زي بقية الرجالة؟“
يثور إبراهيم وهو يبتعد عن أصل المشكلة.. ربما لا يستوعب هذا الكلام الذي تقوله زوجته وينحو الموضوع نحو صديقتيها الذي يعتقد في أنهما أُس (المشكلة)، الأمر الذي يفهمه جيدًا أو لا يريد أن يفهم غيره:
“وهما أصحابك الرجالة اللي يعرفوهم بيجيبولهم ورد يا يسرية!؟”
وهو هنا لا يقصد أن يبعد عن جذر الأزمة.. بل يبدي انزعاجه من أي شيء جديد، من أي شيء يقض استقرار المنزل القائم على العملية وتحجر المشاعر وعدم الاكتراث بالعواطف والأشياء السعيدة المبهجة، وهذه هي البيوت التي تقوم حياتها على العمل، الدراسة، الأبناء، واجبات المنزل.. فحسب.
تتبلد الأحاسيس وتتحجر القلوب وتذبل المشاعر وتتيبس العواطف، حتى يصير البشر فيها أجساد بلا أرواح، موتى ولا زالت أنفاس الحياة تدب فيهم والدماء تجري في عروقهم.
كان هذا المشهد يتم ويسرية تقوم برفع الأطباق من على السفرة حيث تؤدي واجبها بأوتوماتيكية لا واعية مستوعبة وظيفتها تمامًا كربة منزل مسئولة، وفي الخلفية موسيقى حزينة استخدمت فيها الكمنجة لإضفاء جو الشجن على المشهد، وإبراهيم لا زال يصرخ:
“قالولك ايه كمان يا يسرية اصحابك؟ قالولك ايه كمان الرجالة بيعملوهلهم وأنا مبعرفش أعمله؟“
هنا توجعه كرامته الذكورية وتؤلمه رجولته فيلمح نحو اتهام يسرية له بالتقصير كرجل!
وأخيرًا يتعامل مع الأزمة ليس بالعطف والاحتواء بل بتعامل رأسي متصلب مع أساس المشكلة كما يفهم، بأن يطالبها بأن تقطع علاقتها بأصدقائها بدلاً من أن “يخربولهم” البيت!
هكذا ظن إبراهيم أن البيت الذي تموت فيه الرغبات البسيطة ويصبح إحضار ورد من زوج لزوجته أحد أبعد الأحلام وأقلها عرضة للتحقق، وتستلزم نقاشًا يتحول إلى عراكًا يتحول فيه الاحتواء والسكن الزوجي إلى ضغط عصبي وتناحر.. هو بيت عامر ولا يريد من أحد أن يخربه!!
لا يتوقف إبراهيم عند هذا الحد، بل يسحق علاقاتها سحقًا.. يتحدث إلى صديقتها ويطالبها بمنتهى قلة الذوق الابتعاد عن يسرية من أجل الحفاظ على زواجهما.
ورغم ذلك لا تستجيب يسرية لضغط إبراهيم وترفض الانصياع لتحكمه وتتواصل أيضًا مع سلمى وضحى ولو دون علمه.
أحب فيلم أحلى الأوقات .. أحبه من أجل يسرية.. يسرية التي تحلم بزوج يحضر الورد من أجلها، يسرية التي لا تريد أن تتحول لآلة إنجاب وتربية أطفال.. يسرية التي تريد أن تشعر أنها موجودة، ألا تجعل دوامة الركود تبتلعها.. يسرية التي تبحث عن الشاعرية، وعن حنان الحضن، وعن عذوبة العاطفة.
يسرية التي لم تحلم بأكثر من حياة كالحياة – كما قال محمود درويش –
هل أصبحت تصدق الآن أن فيلم أحلى الأوقات تم تسميته بهذا الاسم بسبب استوديو والد سلمى للتصوير الذي يحمل نفس الاسم أو للتعبير عن الأوقات التي تجمع الأصدقاء وتجعلهم سعداء طالما هم سويًا.
ربما يكن هذا قريبًا جدًا للمنطق والعقل.. ولكني لازلت أقول أن يسرية هي البطلة، هي التي كانت الأوقات التي تجمعها بصديقتيها تعد بحق “أحلى الأوقات”.
يسرية التي أراها يوميًا حولي، في كل مكان وفي كل بيت.. وتحت كل سقف، التي تحملق في شاشات التلفاز يوميًا باحثة عن رومانسية حالمة بعيدة كل البعد عن واقعها الممل الرتيب حد الألم، يسرية التي تخشى أن تصرح بخواطرها فتُقابل بالسخرية أو الاستنكار أو عدم الاستيعاب أصلاً، هل أنتِ يا ربة المنزل، يا أم الأولاد لديكِ مشاعر وترغبين في حياة رومانسية!؟
ربما لا أعتني كثيرًا بباقي شخصيات فيلم أحلى الأوقات وربما أضيق بهم أحيانًا..
لكن لا أستطيع سوى أن أقع في غرام يسرية، في محاولاتها المستمرة لفك القيود، وكسر القضبان.. في بحثها الدؤوب عن الحلم بحياة ليست بأكثر من حياة.
التجربة السينمائية الأولى للمؤلفة وسام سليمان قبل أن يحتكرها زوجها المخرج الكبير محمد خان ويخرج لها أفلامها التالية:
- بنات وسط البلد
- في شقة مصر الجديدة
- فتاة المصنع
والأولى أيضًا للمخرجة هالة خليل سينمائيًا بعد عدة تجارب في السيت كوم والمونتاج لم تبرز موهبتها كمخرجة عبقرية وذات رؤية ومشروع سينمائي.
وأداء تمثيلي رائع لحنان ترك ومنة شلبي، أكثر روعة عند سامي العدل وعمرو واكد، واستثنائي أسطوري لهند صبري في دور “يسرية”.
فيلم أحلى الأوقات بأكمله، إهداء إلى المطرب “محمد منير” وإلى أغنياته التي شكلت الموسيقى التصويرية لحياة شباب الثمانينات والتسعينات، بل والألفية الثالثة أيضًا.
فيلم أحلى الأوقات
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
كنت قد شاهدت الفليم من قبل ولكن لم انتبه لهذه التفاصيل وهذه الافكار , لولا قراءتي للمقال