نظرة على فلسفة السلسلة المثيرة للجدل The Matrix
9 د
تعد سلسلة أفلام The Matrix واحدة من أشهر وأنجح السلاسل السينمائية في تاريخ هوليوود، وهي تتألف من ثلاثة أفلام صدر أولهم بعنوان The Matrix في عام 1999، ثم أعقبه الجزئين الثاني والثالث بعنوان The Matrix Reloaded وThe Matrix Revolutions وكلاهما صدر في عام 2003. الثلاثية من ابتكار وإخراج الأخوين لانا واتشوسكي وآندي واتشوسكي ومن بطولة كيانو ريفز، لورانس فيشبورن، كاري آن موس، هوجو ويفينج.
تدور أحداث ثلاثية The Matrix حول حول المُقرصن (توماس أندرسون/ نيو) الذي يستشعر دائماً وجود خطأ ما بالأجواء المحيطة، ليدرك فيما بعد أن حياة البشر بأسرها ما هي إلا واقع افتراضي يُعرف بمُسمى المصفوفة (الماتريكس) تم تطويره بواسطة الذكاء الاصطناعي بهدف إخضاع الجنس البشري للسيطرة وتحويله إلى مصدر للطاقة. تنقلب حياة (نيو) حين يُدرك أنه -بالعالم الحقيقي- يعيش في عام 2199م وأنه يُمثل أهمية بالغة بالنسبة لمجموعة المقاومة الساعية إلى تحرير الجنس البشري.
يمكن القول أيضاً بأن ثلاثية The Matrix إحدى أكثر المشاريع السينمائية إثارة للجدل، ذلك بسبب التباين الشديد في تفسير بعض الرمزيات وفحوى الرسائل التي انطوت عليها الأحداث وتم تمريرها عبر جُمل الحوار، فقد كان رأي البعض أن السلسلة تروج لأفكار إلحادية، بينما كانت هناك آراء أخرى على النقيض تماماً قالت بأنها جاءت مُحملة بالكثير من الأفكار الدينية. الأمر المؤكد هو أن سلسلة The Matrix قد طرحت كماً هائلاً من القضايا الفكرية والفلسفية التي شغلت تفسيراتها محبي السلسلة طويلاً، ولا تزال تشغل بعضهم حتى اليوم!
العقل البشري.. سجين الحدود المادية!
لم تكتف سلسلة أفلام The Matrix وخاصة الفيلم الأول -الصادر عام 1999م- بتقديم الأسئلة أو الأطروحات الفلسفية فحسب، بل أنها اعتمدت في بناء الحبكة ورسم العالم الذي تدور به الأحداث بصورة كاملة على المبادئ العامة للفكر الفلسفي، الداعية إلى تخطي حدود الواقع الملموس والسعي نحو الكشف عن الحقائق المجردة والمُطلقة.
العقل البشري هو أسير الحواس البشرية المحصورة بدورها في النطاق المادي الضيق، يُعبر (مورفيس) عن ذلك بصراحة ووضوح خلال أول لقاء يجمعه بـ(نيو) داخل المصفوفة؛ إذ يخبره بأن كل المثيرات المحيطة به والتي يراها ويسمعها ويشمها ما هي إلا إشارات كهربائية يُفسرها العقل بشكل ما.
يتجاوز الفيلم ذلك الحد مؤكداً على أن العقل هو المُخادع الأكبر والحاجب الأول للحقائق، وأن الواقع المُحيط بأسره ما هو إلا عالم من الأحلام الوهمية التي تعايش الوعي البشري معها لفترات طويلة حتى صارت مُسلمات بالنسبة له ترسخت في داخله وبالتالي صار عاجزاً عن التصديق بحقيقة زيفها، وتمضي أحداث الثلاثية مُقسمة ما بين العالم المادي الزائف وبين العالم الحقيقي المتواري الذي لا يمكن الوصول له إلا بتخطي الإدراك للحدود المادية الملموسة.
اقرأ أيضاً: أفلام ستجعلك تشكّك في الحياة والواقع من حولك!
الشك هو السبيل الوحيد لليقين
ارتكز الفيلم في التأسيس لأحداثه بشكل كامل على المنهج الديكارتي الذي يعتمد على التصورات العقلية في تأسيس فلسفته، وخاصة النظرية القائمة على الشك في الذات والوجود التي تعد واحدة من أهم وأشهر وأبرز أطروحات الفلسفة الحديثة؛ إذ أن البداية الفعلية للأحداث تتمثل في وصول (أندرسون نيو) إلى مرحلة الشك في حقيقة ذاته وحقيقة وجوده، يقوده الشك إلى محاولة تجاوز الحاجز المادي إلى الحقيقة المختبئة التي يستشعرها ولا يدركها.
يتجلى ذلك بوضوح في اللقاء الأول بين (ترينيتي) و(نيو)؛ حيث تخبره بأن الأسئلة هي ما يُحركنا وما يدفعنا نحو المعرفة، وأن ما يستشعره في قرارة نفسه وما يقوم به الآن قد سبقته هي إليه وهو ما أوصلها في النهاية إلى مرحلة اليقين والمعرفة الكاملة بحقيقة ذاتها وكذلك حقيقة المصفوفة.
شغلت نظرية الشك حيزاً غير قليل من ثلاثية The Matrix وامتدت لتشمل كل شيء، الشك في الذات، الشك في صدق النبؤة، الشك في الغاية الساعون إليها، وحتى الشك في مدى قدرة الإنسان على التأقلم مع الحقائق نفسها ومدى قدرته على تحمل معرفتها ومواجهتها.
أصنام الوهم وعشق الجهل
اصطحب (مورفيس) المُستجد (نيو) في رحلة عبر عالم الماتريكس، كشف له خلالها الفرق بين العالم الوهمي الذي عرفه وألفه لسنوات طويلة وبين العالم الحقيقي الذي ظل محتجباً عنه لنفس المدة، وحين استرد كل منهما وعيه كان أول سؤال يطرحه (نيو) يتعلق بمدى إمكانية التراجع عن كل ذلك، قاصداً بذلك العودة بوعيه إلى ما قبل لقاء (مورفيس) وقبل معرفة الحقيقة وما آلت إليه الأمور!
يهوى الإنسان التسويف ويأمن لواقعه الملموس ويثق في إدراكه المحدود طالما أنه صاحب الكلمة العليا في ذلك العالم الوهمي والمُتحكم الأوحد في كل شيء متواجد في نطاقه، للدرجة التي قد تدفعه لإنكار الحقائق والكُفر بها إذا خالفت أهوائه أو هددت القدرة الوهمية التي يتصورها.
شهدت أحداث السلسلة خيانة أحد الشخصيات لبني جنسه من البشر، إذ قام بعقد صفقة مع العملاء تقضي بقيامه بمساعدتهم على التخلص من (مورفيس) ومجموعته، وكان طلبه الوحيد في مقابل ذلك أن يسلبوه وعيه، وأن يمحو من ذاكرته كل ما يعرفه عن العالم الحقيقي، ويعيدوه مرة أخرى إلى قلب عالم المصفوفة لينعم مرة أخرى بالجهل ويستمتع من جديد بالحياة الروتينية، الخالية من التعقيد والتي يمتلك بها مقدرة وهمية على التحكم في مصيره ومجريات الأمور من حوله!
جدلية العلم والإيمان
أفردت سلسلة أفلام The Matrix مساحات كبيرة لعرض أطروحة الصراع بين الإيمان القائم على الثقة المطلقة بالأمور الغيبية، وبين التفكير العلمي المعتمد بصورة كاملة على التفكير العقلاني والتحليل المنطقي. مثلت شخصية (مورفيس) الفئة الأولى، هو المحارب المغامر الذي أفنى سنوات عمره بحثاً عن المُنقذ أو المختار الذي وَرد ذكره في النبؤة وقيل أنه القادر على تخليص الجنس البشري وإنهاء الحرب التي دامت طويلاً.
على الجانب الآخر ظهرت بعض الشخصيات المعارضة لأفكار (مورفيس) والرافضة للامتثال للغيبيات، في مقدمتهم القائد (لوك) الذي رغم جسارته لا يخوض إلا المغامرات المحسوبة، ولا يدخل معركة إلا بعد احتساب احتمالات الفوز والخسارة اعتمادً على الدلائل المادية والحسابات العقلية، تبين ذلك بصورة أكبر بالجزئين الثاني The Matrix Reloaded والثالث The Matrix Revolutions.
اتخذت بعض الشخصيات الأخرى مكاناً وسطاً بين نمطي التفكير؛ إذ آمنوا بالنبؤة وفي ذات الوقت رفضوا الانسياق الأعمى ورائها، لم تحسم الأحداث الجدلية بشكل قاطع ولم تنتصر بصورة كاملة لأي من الجانبين، حتى أن (نيو) نفسه -محور النبؤة- قد خالجه الشك بشأنها.
بين الإرادة الإنسانية وحتمية الأقدار
كانت رحلة (نيو) من البداية للنهاية قائمة على اختيار وضعه (مورفيس) أمامه، حين قدم له حبتين الزرقاء فيهما سوف تجعله يستيقظ في فراشه ليواصل حياته في عالم الماتريكس الوهمي كموظف بالصباح ومخترق بالمساء كأن شيئاً لم يكن، أما الحمراء سوف تحمله إلى العالم الواقعي وتكشف له الحقائق الكاملة والمُجردة.
دفع الفضول والغريزة الإنسانية في اختراق المجهول (نيو) إلى اختيار الحبة الثانية، لتتحقق بذلك النبؤة القديمة التي سعى (مورفيس) خلفها ردحاً من الزمان. في نفس المشهد سأله (مورفيس) عن مدى إيمانه بالقضاء والقدر وأجابه بأنه لا يُحبذ فكرة أنه غير مُتحكم في حياته ومصيره، ليكون (نيو) بإرادته المُطلقة واختياره الحر قد قاد نفسه إلى قدره المحتوم المحدد منذ زمن قديم يسبق ميلاده.
تناولت أفلام The Matrix في الكثير من فصولها تلك القضية التي تعد واحدة من أقدم وأعقد المعضلات الجدلية والمتمحورة حول حدود إرادة الإنسان وهل هو مُخير أم مُسير، فقد كانت نقاط التحول والأحداث الفاصلة ناتجة عن قرارات الشخصيات وخياراتهم الحرة، كما كانت شخصية العرافة أحد المحاور الرئيسية لأحداث الثلاثية، لكن كان دورها يقتصر دائماً على تقديم التوضيحات والتلميحات وأحياناً النبؤات، لكنها لم تقم بإخبار أيهم بما يتوجب عليه فعله.
كانت الخيارات الحرة والقرارات -الفردية أحياناً- للشخصيات الثلاثة الرئيسية (نيو) و(ترينيتي) و(مورفيس) دائماً ما تحركهم باتجاه مصائرهم وتدفع الأحداث على المسار المُعد لها وإن بدت مُنحرفة عنه.
الفلسفة السببية وسر توازن الوجود
تعتبر السببية أو العلية من أقدم الموضوعات الفلسفية والتي تناولها عدد كبير من كبار الفلاسفة اليونانيين وفي مقدمتهم الفيلسوف أرسطو، الذي أسس نظريته على أربعة محاور هم العلة الصورية، العلة المادية، العلة الفاعلية، العلة الغائية. قد كانت العلاقات السببية من الأمور التي أثيرت ضمن أحداث ثلاثية The Matrix وبالأخص الفيلم الثاني The Matrix Reloaded.
تجسدت تلك النظريات الفلسفية في شخصية ميروفينجين “Merovingian”، أحد العناصر القليلة التي تعي حقيقة كونها مجرد برنامجاً حاسوبياً وعنصراً ضمن نظام المصفوفة، قد تضمن حواره المُطوّل بأول لقاء جمعه بفريق (مورفيس) شرحاً شبه مستفيض لنظريات السببية التي تؤكد أن الحياة بكامل تعقيداتها قائمة على معادلة -في ظاهرة- بالغة البساطة تتكون من عنصرين فقط هما الفعل ورَدّ الفعل، وإن كافة الأفعال والأحداث -البسيط منها والجسيم- تحدث بسبب ولأجل سبب.
وفق فلسفة The Matrix أو بالأحرى وفق نظريات العلية فإن الحياة بأسرها تدار بتلك القاعدة ومن خلالها يُحافظ الوجود على توازنه، بالثلث الأخير من ذات الفيلم يتمكن (نيو) من الوصول إلى الشخص المسؤول عن تصميم وبناء المصفوفة من الأساس، يدور بينهما حوار حول خوارزمية الماتريكس بالغة التعقيد وكيفية عملها وأنها بالكامل قائمة على معدلات غاية في التعقيد تتضمن عدد لا محدود من الاحتمالات لمختلف المُسببات المسؤولة عن دفع الحياة داخل المصفوفة للأمام وحمايتها من الوصول إلى الانهيار ومن ثم الفناء.
أحد مظاهر التوازن الكوني -داخل المصفوفة وفي العالم الواقعي- جاء مُتمثلاً في النقيضين (نيو) والعميل (سميث)، حيث كلما اكتسب الأول المزيد من المهارات تعاظمت قوى الطرف الآخر، كأن بذلك يتم حفظ التوازن داخل المصفوفة وحماية المعادلات الحاكمة لها من الخلل، الذي كان سبباً في تدمير نسخ الماتريكس السابقة كما وَرد على لسان المؤسس. يتضح ذلك بصورة أكبر ضمن المواجهة الأخيرة التي جمعت بينهما؛ حيث كان السبيل الوحيد لهزيمة (سميث) هو أن يُضحي (نيو) بذاته ليُحدث خللاً بتوازن الوجود لا يُمكن استعادته إلا بفناء الطرف الآخر أيضاًّ!
اقرأ أيضاً: 10 من أشهر مشاهد قتال فرد ضد جماعة في هوليوود
في الختام لا يسعنا إلا القول بأن سلسلة أفلام The Matrix استحقت عن جدار الشعبية التي اكتسبتها والمكانة التي تحظى بها، لعل أفضل ما يُميزها هو الجانب الفكري بها المتمثل فيما حملته من رسائل وما طرحته من قضايا لم يطغى على الجانب الفني، لتظل بالمقام الأول سلسلة أفلام خيال علمي مُثيرة وممتعة وإن أردت أخذها على هذا المحمل لن تكون مُخطئاً تماماً، لتنضم بذلك لمجموعة الأعمال -القليلة نسبياً- التي برعت في الموازنة ما بين المتعة والعمق وأبرزها سلسلة أفلام Star Wars.
يُذكر هنا أن من المقرر إعادة إحياء سلسلة The Matrix مرة أخرى بالمستقبل القريب، من خلال سلسلة أفلام جديدة تشير الأخبار المتداولة حولها أنها سوف تتمحور حول شخصية (مورفيس) في مرحلة الشباب، وذلك ليس مُفاجئاً إذ دأبت هوليوود خلال السنوات الأخيرة على إعادة استثمار أشهر وأنجح الأعمال التي تم تقديمها بالعقود السابقة، كل ما نأمله هو أن تكون السلسلة الجديدة على نفس مستوى السلسلة الأصلية وأن تُمثل إضافة حقيقية لها وألا تكون مُجرد استثمار تجاري بحت.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
شاهدت السلسلة لمدة 17 سنة من الإعادة دون ملل
واحد من افضل الافلام فى التاريخ فى رأيى الشخصى