كيف لخصّت أغنية Viva La Vida دورة حياة الملوك؟.. “راغنار” نموذجا

يَتّبع التاريخ حسب “ابن خلدون”؛ مسارًا دوريًا ثابتًا، ويمر بمراحل متصلة ومتعاقبة. ومن خلال؛ دراسته التاريخية للمجتمع، استطاع أن يحدد هذه المراحل، ويصوغ  قانون “الدورة التاريخية”.واعتبره بمثابة الطريق الطبيعي الذي لابد أن تسير فيه؛ كل الأمم والدول والمجتمعات، السابقة  واللاحقة.

حيث تبدأ هذه الدورة؛ بالنشأة والميلاد، ثم النضج والاكتمال، وتنتهي بالشيخوخة والفناء لتحل محلها كيانات أخرى. وهكذا، تتوالى السيرورة التاريخية في حلقة لاتنتهي تشبه مايمر به الكائن الحي في دورة الحياة والموت.

ولمّا كانت الأمم والدول والمجتمعات.لا تقوم إلا بالاجتماع البشري، ووجود حاكم يتفوق على البقية وينفرد بالحُكم ؛ فإن “ابن خلدون” يؤكد على أن “المَلك” هو السبب الرئيسي في انطلاق هذه الدورة التاريخية وعنده تبدأ وتنتهي  بمراحلها.

فهل تغيرت دورة حياة الملوك ومملكاتهم منذ ذلك الحين وحتى الآن؟ سنحاول في هذا المقال، الإجابة عن هذا التساؤل وتقديم فهم أفضل لنظرية “ابن خلدون” بعيدا عن سياقها التاريخي النظري، وبطريقة فنية شيقة سنقارن بين عملين فنيين مختلفين -أحدهما موسيقي والآخر تلفزيوني- يحكي كل منهما قِصة مَلِكين مُختلفين من عصرين مختلفين.

 مرت عشرة أعوام على صدور الألبوم الرابع لفرقة Coldplay  البريطانية، الذي يحمل عنوان  “Viva La Vida Or Death and All His Friends” ويشار إليه اختصارا ب Viva La Vida  أو ” تحيا الحياة“.  وقد اختار  كريس مارتن – المغني الرئيسي للفرقة-  هذا الاسم بعد رؤيته لآخر لوحة رسمتها الفنانة المكسيكية “فريدا كاهلو” قبل أن تموت.  فوجد بأن اسم اللوحة ومضمونها؛ تعكسان احتفاء فريدا بالحياة ومواجهتها لتقلباتها وصعوباتها بشجاعة. وهذا بالضبط مايدورحوله ألبوم الفرقة المكوّن من تسع أغنيات تتحدث عن؛ الخسارة والكفاح، النجاح والإخفاق، التغيير والقوة، الحرب، الثورة، الحرية، الدين، الحب والموت .. أي عن تقلبات الحياة الحلوة والمرة.

 الكلمات والألحان، وحتى غلاف الألبوم المستوحى من لوحة ديلاكروا الشهيرة “الحرية تقود الشعب” (1830) التي ُتمثل الشعار الرسمي للثورة الفرنسية ورمزًا للثورة والحرية في العالم؛ أضفت على الألبوم طابعا سياسيًا ودينيًا وثوريًا. جعل الكثير من المعجبين والمحللين يشيرون إلى أن أغنية “فيفا لافيدا” بالتحديد تتحدث بشكل علني عن بطولات الملوك و انتكاساتهم، وعن الامبراطوريات التي تعلو وتسقط؛ وتشير بشكل ضمني” لِلويس السادس عشر” أوهو بنفسه يحكي قصته كيف كان وكيف أصبح.

في مسلسل Vikings، نجد أنفسنا في بلدة اسكندنافية في أوروبا العصور الوسطى. نشاهد “راغنار لوثبروك” الزوج والأب، المحارب والمغامر والمزارع الذي أصبح ملكا على قبائل الفايكينغ. هذا الانتقال من مزارع إلى ملك، تم وفقا لقانون “الدورة التاريخية لابن خلدون”  وكل موسم من المواسم الأربعة الأولى للمسلسل يصوّر مرحلة مختلفة منه.

 فالموسم الأول يصوّر مرحلة “النشأة والتكوين”. ومن خصائصها؛ القوة والشجاعة والاشتراك في المجد. فنرى “راغنار”  محاربًا قويًا ومغامرًا شجاعًا يركب البحارو يخوض الغزوات خدمةً لحاكمه.

ويصوّر الموسمين الثاني والثالث مرحلة “النضج والاكتمال”. ومن خصائصها؛ استكمال القوة وسِعة النفوذ، الاستيلاء على السلطة والانفراد بالحكم. إذ خلال هذين الموسمين تزداد قوة “راغنار لوثبروك”، يَكبر مَجده وتعظُم طموحاته. فينجح في الوصول إلى كرسي الحكم كما ينجح في احتلال أراضٍ أبعدَ وأفضَل؛ ليتحول إلى بطلٍ أسطوري يثير إعجاب أحبائه ورعب أعدائه.

أما الموسم الرابع فيصوّر مرحلة “الشيخوخة والفناء”.ومن خصائصها؛ تراجع السلطة والانهزام،التدهور والضعف. وهذا بالضبط ماحصل “لراغنار” الذي فقد مكانته واحترامه و ساءت حالته بعد أن فشلت خططه وغزواته الحربية وخابت محاولات احتلاله لأراضٍ جديدةٍ ؛ لينتهي الأمر بعزله عن السلطة من قبل شعبه وقتله من قبل أعدائه.

في مسلسل vikings نشاهد “راغنار لوثبروك” وهو يشق طريقه نحو كرسي الحكم. بينما في أغنية Viva La Vida، نستمع لملٍك متوجٍ يحكي قصة خلعه عن العرش .هذا الاختلاف في نقطة الانطلاق، لايمنع أبدا التلاقي أحيانا والتطابق أحيانا أخرى بين كلمات الأغنية ومشاهد المسلسل. فحين يقول الملك على لسان المغني :“اعتدت أن أحكم العالم ترتفع البحار عندما أعطي الأمر.. بينما الآن أنام وحيدا في الصباح أكنس الشوارع التي كنت أمتلكها ”  نتذكر حال راغنار  عندما كان ملكاً قويًا مهابًا يقود جيوش وأساطيل الفايكينغز، ووحده من يقرر كيف وأين ومتى يغزون.

“أنا ملك ،الملك راغنار هذا هو اسمي. وماذا يفعل الملك ؟ إنه يحكم، وبصفتي الحاكم فالكلمة الأخيرة لي أنا”               (الحلقة 9 الموسم 3)

ونتذكر أيضا حالته السيئة التي بدا عليها في الموسم الرابع؛ رجلًا عجوزًا وضعيفًا ،يمشي وحيدًا في شوارع “كاتيغات”  يبحث عن سفن ومحاربين ليبحروا معه إلى انجلترا، يحاول إقناعهم بالكلام والمال لكنهم يرفضون الذهاب معه في كل الأحوال .. يجلس راغنار وحيدًا ينظر إلى السفن تبحر من دونه.

“لو رغبت في شن غارة سأفعل هذا مع ابنك وليس معك لأني أعتقد أن الآلهة هجرتك .أيها الملك راغنار لوثبروك أنت لوحدك الآن الجميع يكرهك ”   (الحلقة12 الموسم 4)

ثم يعود الملك في الأغنية للحديث عن مجده ولحظة تنصيبه كملك قائلا: “أستشعر الخوف في عيون أعدائي أستمع للحشد بينما يهتفون مات الملك عاش الملك ” وهذه العبارة بالتحديد ترتبط بلويس السادس عشر.لأنها بدأت مع الملك “لويس الرابع عشر”عندما مات صاح قائد الحرس “إنْ مات الملك الرابع عشر، عاش الملك الخامس عشر” وهكذا، نفس الأمر حدث عندما مات “لويس الخامس عشر” ركع وصاح من في القصر” مات الملك عاش الملك”؛ فتحولت إلى تقليد يشير إلى استمرار الحكم والانتقال من الموت إلى التنصيب.

لايختلف هذا عما حصل مع “راغنار” الذي تم تنصيبه كإيرل على بلدة “كاتيغات”، بعد قتله للإيرل “هارلدسون”.حيث صاحت زوجة هذا الأخير- بعد أن تأكدت من موت زوجها- “عاش الإيرل راغنار”؛ وقف راغنار في وسط الساحة بينما ركع الحشد من حوله وهم يرددون”عاش الإيرل راغنار،عاش الإيرل راغنار”…معلنين بذلك انتقال السلطة إليه ومتعهدين  بالطاعة والولاء له ولعائلته.

بعد حصوله على المنصب الجديد وجلوسه على كرسي الحكم، يشعر راغنار بأن آفاقا جديدة قد فُتحت أمامه، وأن بإمكانه فعل أي شيء يريده بسهولة، دون أخذ الإذن من أي أحد. لكنه في الواقع، يجد نفسه مسؤولا عن توفير الأمن والغذاء وتنظيم التجارة والمعاملات بين الناس في كاتيغات. كما يجد نفسه قد أصبح مجرد خادم لملكٍ أكبر وأقوى منه يخضع لقوانينه يطبق أوامره، يحارب لأجله ويشارك غنائمه معه.

في لحظة امتلكت المفتاح

بعدها انغلقت الجدران عليّ

واكتشفت أن قلاعي ارتكزت

على أعمدة من ملح وأعمدة من رمال (Viva La Vida)

تتعرض بلدة “كاتيغات” لهجوم ويوشك راغنار على خسارة منصبه كإيرل. ثم يحاول الملك” هوريك” التخلص منه لأنه يعلم بأنه رجل طموح وشجاع، لن  يتوقف حتى يقتله ويأخذ منصبه. وهذا ماحدث فعلا؛ إذ تمكن راغنار بمساعدة أصدقائه وحلفائه وشعبه من قتل هوريك ليتوج بعدها ملكًا على الفايكينغ.  

راغنار الآن في ذروة مجده مكتمل القوة. يوصف كأخطر وأعظم رجل على وجه الأرض، طموح ومغامر، شجاع و قوي وذكي. غزا أراضٍ أبعد وأكبر وأغنى، وحقق للفايكينغ مالم يستطع أي أحد من قبله تحقيقه، فاستحق بذلك حبهم ودعمهم وافتخارهم به ليصنفوه لا كخادم للآلهة بل المفضل عندها وواحد منها.

أسمع أجراس القدس تقرع

وجوقة فرسان روما تغني

                               كن مرآتي وسيفي ودرعي مُبشري في أراضٍ أجنبية (Viva La Vida)

“إنه ليس مجرد رجل واحد فحسب ،إنه رمز لشعبه، إنه العدو الذي علينا دائما مقاتلته والتغلب عليه. وإن كنا حملان الله فهو الذئب الأبدي” (الحلقة 13 الموسم 4)

تصل الأمور إلى نهايتها في المسلسل كما في الأغنية :“لسبب ما لاأستطيع شرحه عندما ذهبت لم تبق أبدا أي كلمة صادقة وكان ذلك عندما حكمت العالم” فما وُصف به الملك لويس السادس عشر بعد قيام الثورة الفرنسية بأنه ضعيف الشخصية، جبان، غبي وعديم الفائدة. شبيه بما وُصف به راغنار بعد هزيمته في باريس واختفائه؛ بأنه كاذب وخائن وجبان.. الملك الهارب الذي تخلى عن شعبه.

“هزم والدنا ،لقد خسر.ضاع كل سحر الغارات الماضية وكل النجاحات أيضا، لم يعد أحد يحبه بعد الآن أو يؤمن به لاسيما الآلهة “ ( الحلقة 11 الموسم 4)

 يقف راغنار لوثبروك في وسط ساحة كاتيغات مخاطبا شعبه للمرة الأخيرة قائلا :” يبدو أن عودتي هنا لم يعد مرحبا بها، يبدو أنكم قد اتخذتم قراركم بشأني… انظر لهؤلاء الناس لم يعودوا يؤيدونني ولماذا يفعلون؟ ألست أنا قائدكم الذي رحل فحسب؟ أي قائد يفعل ذلك؟ أي ملك يهجر شعبه؟ وأي أب يهجر أبناءه؟”  (الحلقة 10 الموسم 4)

“الناس لم يستطيعوا تصديق ما أصبحت عليه

الثوار ينتظرون رأسي على طبق من فضة

مجرد دمية معلقة بخيط وحيد” (Viva La Vida)

وعندما أدرك الملكان أن نهايتهما قد حانت صاح كل منهما : “آه..من يريد أن يكون ملكًا؟!“

 في الأغنية، يبدو الملك متعجبا من رغبة أي أحد في أن يصبح ملكا طالما أن مصير الملوك محدد منذ البداية بمسارٍ دوريٍ ثابتٍ .أما حين يسأل راغنارأبناءه : ” من يريد أن يكون ملكًا؟ هل تريد أن تكون ملكًا ؟ اقتلني وستصبح ملكًا” فكأنه  بذلك يعلن عن بدء دورة جديدة من دورات التاريخ لممكلة الفايكينغز.

يؤكد ابن خلدون في نظريته على أهمية الجانب الديني في بناء وإقامة وتطور الدول. فالحاكم حين يضفي الصبغة الدينية على رغبته في الحكم يخلق التحامًا روحيًا بينه وبين رعيته؛ فتزداد قوته وتنمو دولته كلما تمسك بالدين، وتتلاشى وتفنى كلما ابتعد عنه.

تبدو هذه الفكرة واضحة جلية في كلمات الأغنية “أسمع أجراس القدس تقرع جوقة فرسان روما تغني كن مرآتي سيفي ودرعي مبشري في أراض أجنبية” التي تشير إلى تلقي الملك في بداية حكمه الدعم من الكنيسة؛ المؤسسة الأقوى فيالعصور الوسطى. ثم تخليها عنه حين يقول “لسبب ما لاأستطيع شرحه أعلم أن القديس بطرس لن ينادي على اسمي لم تكن أبدا كلمة حق وكان ذلك عندما حكمت العالم” لأنه فعل الكثير من الأمور السيئة التي لاتغتفر أثناء فترة حكمه؛ فالقديس بطرس وفقا للديانة المسيحية هو من يملك مفاتيح بوابة الجنة ولايسمح للمذنبين بالدخول إليها.

 أما في مسلسل Vikings  فقد تم توظيف الدين منذ المشهد الأول من الحلقة الأولى؛ حين خُيّل لراغنار أنه شاهد كبير الآلهة “أودين” وهو يأخذ المحاربين القتلى إلى قاعة “فالهالا” (وهي قاعة شاسعة ومشعة كالذهب يقف على بابها ذئب ويحوم فوقه نسر ويجتمع بداخلها أعظم محاربي الفاكينيغ مع آلهتهم) وقد ادعى راغنار بأن أودين هو من أمره بالإبحار إلى الغرب، وحين يبحر يستعين بإله الرعد ثور وحين يدخل المعركة يقاتل بشجاعة ليدخل فالهالا بشرف.

لكن مع تقدمه في العمر وبداية نهايته بدأ راغنار يشكك في وجود الآلهة وفالهالا. خاصة بعدما رأى حلمًا بأنه وجد فالهالا وعندما أوشك على دخولها أُغلق بابها في وجهه وبقي وحيدا في الخارج يتذكر كل الأشياء السيئة التي فعلها. مع ذلك وقبل لحظات من إعدامه، استغل راغنار الدين ليرهب عدوه ويوهمه بأنه قوي؛ في حواره مع الملك ايكبرت قال :“سأتحدث عن الآلهة وعن فرحتي لدخول فالهالا.. لاأؤمن بوجودها ولكن أولادي وقومي يؤمنون بها، الإيمان مهم لهم بمثل أهميته لك أيها الملك إيكبرت”. (الحلقة 15 الموسم 4)