ما خلف الستار: لماذا مسلسل Westworld مرآة لنفوسنا الهشّة؟
7 د
الأعمال الفنية تُصنع لهدف. والهدف الأسمى لصناعة أي عمل فني هو الإمتاع، ونجاح هذا الإمتاع دليله هو جلوس المشاهد أمام الشاشة لساعات وساعات، وحرق حلقة خلف الأخرى دون توقف. لكن ماذا إذا نظرنا للأمر من جانب آخر، وقلنا إن الأعمال الفنية تُصنع بهدف تغيير المشاهد وطريقه تفكيره، ماذا سندرك وقتها؟ أجل، سنُدرك أن الفن مرآة لنفوسنا. ومسلسل Westworld هو مرآة لنفوسنا الهشة. كيف ذلك؟ هذا ما سنجيب عنه اليوم.
اليوم سوف نتحدث عن مسلسل Westworld بنظرة فلسفية بعض الشيء، ولن نتطرق إلى الجوانب الأكاديمية في عملية صناعته، مثل الإخراج والإضاءة وما إلى ذلك. اليوم جلستنا غير أكاديمية بالمرة. لذلك أنصحك بجلب كوب من القهوة، ارتداء العوينات، إلغاء بعض المهام، لنجلس على المقهى قليلًا، ونُدردش عن Westworld دون أن يزعجنا أحد.
نحن المُضيفون – Hosts
ستتعجب بالطبع، كيف يمكن لنا، نحن البشر، أن نكون مجرد آلات مثل هؤلاء المضيفين. ألم ترَ ما بداخلهم؟ هؤلاء لا يموتون، لا يشعرون بما نشعر به، الألم هو الذي يجعلنا بشرًا. نحن مُميزون عنهم بالموت، كان يجب أن تقول هذا، لا أن تقول لي إننا آلات.
معك حق فعلًا، لكن هل تريد الموت في يومٍ ما؟ سأقول لك شيئًا، وحاول أن تتقبله.
البشر تطوروا من كائنات وحيدة الخلية. بمنظور البيولوجيا، التطور عملية عمياء تمامًا ولا يوجد هدف فلسفي لها. لكن هذا كان قديمًا، الآن باتت هناك فلسفة جديدة تُعرف بـ (فلسفة البيولوجيا)، وتقول إن الكائنات تطورت كي تبقى. أي بمعنى أصح أنها طورت الحمض النووي خاصتها بطريقة تسمح بعبوره إلى الأجيال الجديدة، وبهذا يكون الحمض النووي هو بصمة البقاء.
إذا نقلنا الأمر إلى العالم الواقعي، سنجد أنه صحيح كذلك. البشر يصنعون الفنون من أجل البقاء، من أجل تخليد الاسم في صفحات التاريخ. أنا شخصيًّا أكتب لك هذه الكلمات الآن كي لا أموت، أريد أن تحيا كلماتي أبد الدهر، وتؤثر في ملايين البشر. أنت لا تريد الموت أيضًا، بدليل أنك تقرأ كلماتي الآن، في محاولة لاكتساب خبرة إضافية تُعينك على فهم نفسك، وبالتالي تستطيع إحداث تغيير يجعلك راضيًا عن ذاتك، وبالتبعية يُحقق غريزة البقاء المزروعة فيك.
قبل ثورة المضيفين في مسلسل Westworld كما شاهدنا، لم تكن هناك “حرية” في الاختيار، ولم يكن البقاء خيارًا، لأن حياتهم كانت مُبرمجة بالكامل. الآن انظر إلى نفسك، ألست مُبرمجًا؟
أنت تستيقظ كل يوم، تأكل، تذهب للعمل، تعود لأسرتك، تأكل، تلعب، تأكل، تنام، ثم تستيقظ لتأكل من جديد. نحن نعيش في حلقة مُفرغة، نحن نعيش في “كود” صممه كيان ما لنا. الذي جعلني هذا المسلسل أتساءل بخصوصه، هل اختياري لمسار حياتي، هو دليل على حريتي فعلًا؟ أم مجرد وهم بالحرية، بينما هذا المسار مُبرمج في الكود الخاص بي منذ البداية؟
المسلسل لم يرد فقط أن يقدم لنا قصة فانتازية عن روبوتات اكتسبت الوعي فجأة، وبناءً عليه باتت تتصرف بطرق غير متوقعة. المسلسل أراد أن يجعلنا نُدرك أن الشكّ دائمًا موجود. يجب أن تشك في كل شيء وأي شيء، الفلسفة ذاتها مبنية على الشك والتساؤل، والأسئلة الوجودية العُظمى في الفلسفة، لم تصل إلى نهاية أبدًا، وظلت حتى الآن مبتورة الإجابات، وربما استمرارية التساؤل ستأتي بالإجابة المنشودة.
هذا بالطبع إذا نظرنا لأزمة الوجود ذاتها، لكن ماذا إذا هبطنا بالمستوى قليلًا، ونظرنا لآلية التفكير فحسب. هل نملك طريقة تفكيرنا؟ هل نملك فلسفتنا الخاصة؟ هذا ينقلنا للعنوان التالي مباشرة.
فلسفة التفكير: أصل ونتيجة
التفكير هو الذي يجعلنا بشرًا أليس كذلك؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نُعرف الفلسفة في الأساس.
أرى أن الفلسفة هي خلاصة مجموعة مبادئ لدى المرء، والمبادئ تُكتسب من خلال الخبرات، والخبرات تأتي من التفاعل مع البيئة المحيطة، أي بالتفاعل مع الفلسفات الأخرى، التي هي مبادئ أخرى.
تفاعلت مع والدك في أكثر من موقف ينتمي إلى العقيدة، فاكتسبت منه ديانة معينة. وبعدها تفاعلت مع زملائك في المدرسة في موقف ينتمي إلى السلوك العدواني، فاكتسبت منهم سلوكًا جديدًا. الموقف الأول أكسبك بعض المبادئ التي تتنافى مع مبادئ الموقف الثاني، بحكم كون الأديان تدعو إلى السلام، لا العداء. وقتها التفكير شرع في تنفيذ مهمته، وانتقى لك مبادئ الدين، وغلّبها على مبادئ العدوانية.
مرت أعوام كثيرة، وكبرت، ووجدت أن العالم يُهلل للعدواني، ويدهس المسالم. وقتها سيشرع عقلك في القيام بعمله مجددًا، وهنا سوف يُغلب العدوانية على الدين. لذلك الفلسفة متغيرة بفضل وجود التفكير. والفلسفة هي التي تعجلنا بشرًا بالفعل.
في بداية المسلسل، كانت الروبوتات لا تفكر على الإطلاق، وحياتها مُبرمجة بالكامل. اكتساب الوعي جعلها تُدرك ذلك، وبناء عليه قررت الحيود عن مسارات الأكواد، والبدء في أخذ الحرية عنوة من الخالق. لكن بالرغم من ذلك، هذا يجعل الشك موجودًا، والسؤال مطروحًا: “هل حيودنا عن المسار هو الحريّة المنشودة؟ أم كود آخر مدفون وظهر عندما تخلصنا من الكود الأول؟”.
في حالة إذا كانت حياتنا عبارة عن أكواد في صورة طبقات، تظهر كل طبقة عند تهشيم الأولى. يبقى السؤال، هل توجد نهاية لتلك الطبقات؟ هل الخالق جعلها لا نهائية؟
هنا ننتقل للعنوان الأهم في مقال اليوم..
نحتاج دائمًا للعَون
تعدد صور المُعين تثبت الحرية، وثبوت المعين يُثبت العبودية. هذا كلام مُعقد، لكن سنبسطه سويًّا.
في مسلسل Westworld قرر (فورد) صنع حديقته الخاصة، وبات فيها إلهًا. لكنه أيضًا قرر صنع (برنارد)، وفي الأوقات الحرجة، لم يعبث بكوده أبدًا، أراد أن يرى الناتج، ناتج ترك الإله للمخلوق.
في نهاية الموسم الثاني من المسلسل، حذف (برنارد) كل أكواد (فورد) التي تتحكم به وتُرشده خلال مسيرته. لكن في الوقت الذي احتاجه فيه، ظهر من جديد بالرغم من حذف الأكواد. هذا يدل على أن الآلة أرادت العون من الخالق، حتى بعد أن تخلت عنه في البداية.
لكن لا تتعجل، الرسالة هنا ليست أن يعتمد المخلوق على الخالق، بل أن يعتمد المخلوق على المُعين. والعَون يأتي من أي شيء يستطيع تقديم المساعدة.
إذا كان (فورد) مجرد شخصية خيالية في رواية قديمة قرأها (برنارد)، وقدمت الشخصية فكرة جديدة له، وبالمصادفة كانت تلك الفكرة مفيدة جدًا. مع الوقت تخلى (برنارد) عن الفكرة، لكنه عاد لها من جديد. هذا لا يعني أن الفكرة ذهبت بمجرد التخلي عنها، بل أنها باقية كأكواد احتياطية تظهر عند الحاجة. ولا يعني أن (فورد) هو الكود الوحيد القادر على مساعدة (برنارد).
تلك الأكواد هي أفكار، يمكن أن يكون إيمانك بالإله فكرة، يمكن أن يكون إيمانك بوجود حبيب يمدك بالدعم النفسي فكرة، ويمكن أن يكون إيمانك بعدم وجود أي مُعين لك إلا نفسك، فكرة.
لهذا أراد لنا مسلسل Westworld إدراك أن الإنسان يحتاج للعَون على الدوام. والعون يأتي من الأفكار، والأفكار بدورها تتغير. يمكن اكتساب فكرة، قتلها، بثّ الحياة فيها من جديد، ثم قتلها مرة أخرى. هذا يُبرهن أنه لا يوجد شيء ثابت، وأن الحرية تنبع من الإيمان بتغيُّر مفهوم المُعين، وأن الإنسان ليس عبدًا للمُعين، بموجب تغير صورة المُعين ذاته مع الوقت.
عندما تُرسَم السينما بريشة دافنشي .. أفلام شهيرة تأثرت بلوحة العشاء الأخير
والآن، هل مسلسل Westworld مرآة لنا فعلًا؟ أم أنا أهذي؟
لا تحسبني مغرورًا، لكن علم النفس السلوكي لا يكذب.
البشر مُعقدون كفاية لدرجة تدفعهم للتساؤل عن كل شيء وأي شيء. التساؤل يعمل على تشغيل الآلية العلمية في التفكير، والتي بدورها تجعلنا نُدرك مدى هشاشتنا أمام الأقنعة التي نرتديها كل يوم. أن ترتدي قناعًا واحدًا طيلة حياتك، يحكم على نفسك بالهلاك دون شك.
لا يمكن لإنسان أن يعيش دون التساؤل عن إذا كان قناعه فعلًا يُمثل ما بداخله، أم هو سِتار يحمي قلة حيلته عن الإجابة على الأسئلة التي فعلًا يمكن لها أن تُحدد حياته؟
المضيفون تساءلوا عن الهدف من الوجود، وحاولوا التحقق من حياتهم إذا كان حيودهم عنها ينم عن حرية، أم هو مجرد كود آخر مدفون. المسلسل مرآة لنفوسنا الهشّة فعلًا، والهشاشة تنبع من الخوف من المجهول. إذا أردت نفسًا قوية، يجب أن تتشجع لتسأل، وتستبسل لتحاول الوصول لإجابات تلك الأسئلة.
في المنتصف ستلعن وجودك ذاته، لكن في النهاية ستكتسب الحريّة، وتُؤمن أنه حتى إذا كان هناك كود مدفون بالأعماق؛ فهذا الكود يمكن الحيود عنه. وإذا كانت هناك أكواد تحت كود الحيود الجديد، فعلى أقل تقدير اكتسبت حريّة اختيار الحيود من الأساس، بغض النظر عن الإيمان بتحكمك بالحيود من العدم.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
كلام كبير ارفع القبعه للكاتب الجميل والذوق الرفيع في سرد موضع بهذه الاهميه ، شكراً لكتابتك هذا ………… مع وافر احترامي