فيلم Wild ورحلة البحث عن الذات..

تسير مسافة كبيرة حتى ينهكها التعب، تجلس أعلى قمة منحدر، تمسك قدميها بكل ألم، اظفر قدمها يؤلمها بسبب ضيق الحذاء، تحاول ان تسعف نفسها، تفشل.. فتقرر أن تنزع الظفر من الأصل لتتخلص من الألم.

هذا هو أول مشهد يبدأ به فيلم Wild (إنتاج عام 2014)، وهو مشهد يختصر الفيلم كله، تقرر بطلة الفيلم أن تبدأ رحلة بحث عن ذاتها بهدف التخلص من خبرات مؤلمة مرت بها في حياتها، ومشهد نزع ظفرها ليس إلا نزع كل خبراتها الحيايتة المزعجة.. لتبدأ من جديد.. في انتظار أن ينمو لها اظفر جديد.. أو فلنقل قلب جديد.

تدور أحداث فيلم Wild حول سيدة أمريكية هي (شيريل سترايد) تقوم بدورها الممثلة (ريز ويزرسبون)، تقرر بطلة الفيلم القيام برحلة مشي طويلة، ثلاثة اشهر كاملة من المشي بدون توقف.

الهدف من رحلتها المتعبة هي الهروب من عالم البشر بكل شهواته، والعودة إلى الطبيعة في محاولة لأن تجد ذاتها التي فقدتها بعد خبرات مؤلمة، والد سكير أدمن ضرب أمها وتحويل حياتهم إلى جحيم، فقدان أمها التي كانت تعشقها بعد إصابتها بمرض السرطان، انفصالها عن زوجها بعد سبع سنوات من الارتباط، وتجربة ادمان مريعة، إدمان هيروين، وإدمان ممارسة علاقات جنسية مع رجال غرباء. هربت (شيريل) إلى البرية لتصنع لنفسها حياة مختلفة في هدوء وسلام وبعيداً عن زحام المدن.

عناصر عدة تُميّز فيلم Wild (إخراج جاين مارك فالي) أهمها التصوير الرائع، أنا اؤمن انه كلما توغلت كاميرات السينما في الطبيعة كلما خرجت الصورة السينمائية مبهرة، لن تجد في الفيلم مباني شاهقة، او ديكورات مكلفة، لا يوجد سباقات بين أحدث أنواع السيارات واسرعها، ولا توجد سيدات جميلات بملابس غالية صممها اشهر مصممي الأزياء.

الطبيعة وفقط، نباتات وصخور ورمال وبطلة بملابس بسيطة غير متكلفة، كل كادر في الفيلم هو بمثابة صورة فوتوغرافية تستحق جائزة من ناشيونال جيوجرافيك، السماء الصافية، الأشجار والنباتات التي لم تغتصبها ماكينات البشر القبيحة، الهواء النقي، والكائنات الحية المختلفة التي تستمتع بكل ذلك.

كل مشاهد الفيلم مهمة، مؤثرة، لكن مشهد الأم وهي تغني في المطبخ مُبهر تقوم بدورها الممثلة (لورا درن)، تسألها (شيريل) لماذا تغني يا أمي تجيبها “لأنني سعيدة، السعداء يغنون” تستغرب الأبنة “نحن مدمرون، البيت ينهار، والدنا سكير دمر حياتنا” تجيب الأم “لم اندم للحظة واحدة على الإرتباط بوالدكما فهو على الأقل رغم انه دمر حياتنا لكنه كان سبباً انني حصلت عليك وعلى شقيقك”

تضيف الأم “لو كان لي ان اعلمك شيء فهو أن تعثري على نفسك” وهذه النصيحة كانت سبباً رئيسياً في قرار (شيريل) بأن تبدأ رحلة العثور على نفسها، تركت كل شيء، صخب البشر.. ووسائل التكنولوجيا المزعجة، وفي مشهد آخر وبمجرد ان تبدأ البطلة رحلتها في الغابات تشم رائحة الزهور وتنظر للشمس بحب، كأن اشعتها الحارقة تطهرها من كل الشهوات التي سقطت فيها البطلة حتى وصلت للقاع.

هناك مشهد آخر مميز، في أول يوم لها في الغابات الشاسعة تسير البطلة لساعات طويلة حتى تتعب، تقرر النوم، تبدأ في نصب خيمتها، تحاول أكثر من مرة، يظهر جهلها بنصب الخيم، فهي ليست من عشاق الترحال، بل أرادت الهروب من الصخب، تبدو خائفة، تشعل كشافها في محاولة لإيجاد ونس.

مشهد مهم آخر، بعد عدة أيام من السير بحقيبتها الضخمة، تقابل مزارع، يعرض عليها ان تبيت ليلة في بيته لتأكل وتتعرف على زوجته، في المنزل الريفي البسيط تأخذ أول حمام دافئ لها بعد عدة ايام من عدم الإستحمام، يتدفق الماء على جسدها فيأخذ معه أكبر كمية من الأوساخ والأتربة، وكأنها تتخلص من مشاكلها بالتدريج، وكأنها تتخلص من كل آلامها، وتعود نظيفة الجسد والروح.

أجمل شيء في فيلم Wild انه حقيقي جداً، الفيلم معتمد على كتاب (Wild: From Lost to Found on the Pacific Crest Trail) والذي كتبته بطلة الفيلم الحقيقية (شيريل سترايد)، أي أن كل أحداث الفيلم حقيقية.

لم تخجل (شيريل) الحقيقية من ماضيها أو خبراتها، تحدثت بصراحة عن إدمانها للهيروين، وعن علاقات جنسية متعددة ندمت عليها بعد ذلك، كانت صريحة إلى حد كبير، كانت شجاعة وهي تكتب كل حرف في كتابها، ربما لهذا السبب خرج الفيلم صادقاً.

تميّز الفيلم بموسيقى رائعة، وحتى الأجزاء الصغيرة من الأغاني التي كانت في الفيلم كانت موفقة إلى ابعد الحدود، وبالمناسبة حققت الأسطوانة الموسيقية الخاصة بالفيلم مبيعات كبيرة.

هذا الفيلم من نوعية الأفلام التي تحتاج لأن تشاهدها بمفردك، ويفضل ليلاً، احرص على أن يكون الصوت عالياً لتستمتع بالموسيقى والمؤثرات الصوتية الجميلة، يحتاج الفيلم لأن تكون متفرغاً لمشاهدته اغلق هاتفك، اترك وسائل التواصل الاجتماعي السخيفة.. واستمتع!

نال الفيلم ترشيحي أوسكار في فئتي أفضل ممثلة ائيسية ومُساعدة، لكنه لم يفز بأي منهما، حيث ذهب الجوائز إلى كلّ من باتريشا أركيت عن دورها في فيلم Boyhood، وجوليان مور عن دورها في فيلم Still Alice.