أصل اللغات: لماذا يتكلم البشر لغاتٍ مختلفة؟
قد تتساءل ما أفضل اختراعٍ أبدعته البشرية منذ بدأت على سطح الأرض؟ والإجابة ببساطة: اللغة، والتي ننسى في كثيرٍ من الأحيان أنها ليست بشيءٍ فطري يُخلق مع الإنسان، بل هي مهارةٌ مكتسبةٌ يتعلّمها الطفل عن طريق التعرض لها باستمرار، وبينما نحن متأكدون اليوم أنها كذلك، ساد اعتقادٌ في الماضي أنّ اللغة تنبع من داخل الإنسان وأنها مطبوعةٌ فيه، فحتى إن تُرك بلا أيّ مؤثرٍ خارجي سيتحدّث بنفسه وبطلاقة لذا، أليس من المنطقي أن نتساءل عن سبب اختلاف اللغات؟ ونتيجةً لفضول العديد من الحكّام والعلماء في الماضي، طُبّقت العديد من التجارب على الأطفال للتحقق من ذلك، بعضها كان مقصوداً وبعضها الآخر لم يكن.
سنتعرّف في مقالنا أكثر على محاولات الإنسان لاكتشاف مصدر اللغة -يُعتبر بعضها لا إنسانياً- كما سنتعرف على العوامل المختلفة التي تعتبر سبب اختلاف اللغات، ووجه التشابه بين اللغة وبصمة الإنسان.
محاولات الإنسان لاكتشاف أصل اللغة
تجربة الحرمان اللغوي – Language Deprivation
تحافظ تجربة الحرمان اللغوي على التواصل البشري بين الأطفال والأشخاص الذين يعتنون بهم لكنها تجبرهم على الامتناع التام عن استخدام اللغة؛ تعدّ هذا التجربة الأشهر على مرّ العصور وكان أبرز من طبّقها:
- الإمبراطور المقدّس فريدريك الثاني: كان الإمبراطور المقدّس مقتنعاً تماماً بالفرضية السابقة وأراد أن يثبت صحّتها للجميع ولذا حاول تربية مجموعةٍ من الرضع دون أيّ تواصلٍ بشري، ليكتشف ما اللغة التي سينطقون بها، لكن تجربته لم تعط أيّ نتيجةٍ (بعكس ما يشاع عن موت جميع الرضع)، كما أن السجّل الوحيد الذي نملكه عن التجربة دوّنه المؤرّخ ساليمبيني دي آدم ولم يكن تسجيله منهجياً بسبب علاقته المتوترة مع الإمبراطور.
- الملك جيمس الرابع: عُرف عن جيمس الرابع فضوله وشغفه الكبير بالعلم والتجربة، وقد كان مولعاً بشكل خاص باللغات، ولذا أراد أن يتأكد من صحّة الفرضية السابقة، فاختار في عام 1493 جزيرة إنتشكيث في إسكتلندا كمقرّ لتنفيذ التجربة. أراد الملك أن يتأكد ما إن كانت اللغة أمراً نتعلمه أم أنها جزءٌ من طبيعتنا، وهكذا أمر بإرسال طفلين إلى الجزيرة النائية بصحبة امرأةٍ بكماء لتعتني بهما، وانتهى الأمر بأن نشأ الطفلان أبكمين كذلك.
اقرأ أيضاً: إنت قدها وقدود… إليك كيف تتغلب على مخاوفك في التحدث بلغة أجنبية!
الأطفال المعزولون وأطفال العليّة
تساعدنا القصص المأساوية للأطفال المعزولين “Isolated Children” و “Attic Children” على اكتشاف ماهية اللغة ومدى تأثيرها علينا وعلى أدمغتنا. ويعرف هؤلاء بأنهم أطفالٌ عزلوا عن التواصل البشري بشكلٍ كليّ أو جزئي، مع احتمال تعرّضهم للتعذيب والترهيب. من الممكن أن يكونوا أطفالاً ضاعوا في الغابة (مثل دينا سانيتشر الذي تربى بين الذئاب وألهم قصة ماوكلي) أو قام أحد ذويهم بحبسهم وتعذيبهم (مثل جيني).
بعد اكتشاف هؤلاء الأطفال لوحظ أن أولئك الذي كان عمرهم ما يزال أقل من 6 إلى 5 سنين (أو كانوا قد تعرضوا لقدرٍ كافٍ من اللغة قبل أن يجري عزلهم عن العالم) كانوا قادرين على تعلّم اللغة وإكمال حياتهم بشكلٍ طبيعي إلى حدٍ ما، أما من كانوا أكبر من ذلك، فهم لم يعجزوا عن تعلّمها وحسب بل أظهروا قصوراً عقلياً حاداً.
منشأ اللغات وسبب ظهورها
هل نعرف قطعاً متى بدأت اللغة؟
ما يجعل الإجابة عن هذا السؤال أمراً صعباً، ضعف الدلائل الفعلية وكثرة الجدل حول ما إذا كانت الدلائل الموجودة كافية ويمكن الاستناد عليها، لكنّ أفضل تخمينٍ أتى به العلماء، أن اللغة المحكية بدأت قبل 100 إلى 200 ألف عام، ولفهم ذلك التخمين علينا أن نعرف مم تتشكّل.
تتشكل اللغة من رموز “Symbols” وارتباطها بقواعد “Grammar” ويُقصد بالرمز -بشكلٍ مبسط- ربط شيءٍ (إشارة – شيء مادي…) بمعنى أو دلالة، مثل أن نربط وجود الدخان (إشارة) بحريق، أو هذا الرمز “❤” بالحب. (مع العلم أن هذه الرموز تختلف بين الثقافات والعصور)؛ لذا ولنتأكد من أن اللغات كانت موجودة قبل 200 ألف عام علينا أن نتساءل هل كان أسلافنا قادرين على ربط الأشياء بالمعاني، وهل كانوا قادرين على التعبير؟ والإجابة على ذلك نعم والدليل الأحفوريات التي تركوها.
في الوقت نفسه من الممكن أن تكون اللغة أقدم من ذلك لكننا ببساطة فقدنا الدليل أو لم نكتشفه بعد أو أنه غير موجود.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يصبح طفل القرن الحادي والعشرين فصيحًا؟ تجربة باسل نموذجًا
هل أتت اللغات المختلفة التي نتحدثها اليوم من جذرٍ واحد؟
لا نملك جواباً لهذا السؤال ويعود ذلك لسببٍ بسيط وهو أن اللغات تموت وأننا محدودون بتتبع آثار اللغات، إذ إنّ الكتابة اختُرعت في وقتٍ لاحقٍ ونحن نتحدث قبل أن نبدأ بالكتابة بوقتٍ طويل. نستطيع إلى حد ما أن ننسب مجموعة لغات إلى لغةٍ أم ويمكننا تكرار ذلك لعددٍ من المرات، لكننا نصل في النهاية إلى مجموعةٍ من اللغات الأم غير المرتبطة، أو بالأحرى لا نملك دليلاً على ارتباطها ولا يمكننا فعلياً إيجاد ذلك الدليل.
سبب اختلاف اللغات وتنوّعها
إن أبسط سببٍ لظهور لغةٍ جديدة، هو انقسام مجموعةٍ من البشر التي تتحدث لغةً واحدة وانتقال قسمٍ منهما ليعيشوا في مكانٍ مختلف، فتتغير البيئة وطريقة العيش وقد تحتّك المجموعة الجديدة بمجموعةٍ أخرى تتحدث لغةً ثانية، وهكذا وعبر فتراتٍ من الزمن وأجيالٍ متعاقبة تبدأ اللغة بالتغيّر وتظهر لغةٌ جديدة. (قد تتساءل هنا عن الفرق بين اللهجة الجديدة واللغة الجديدة ومتى نستخدّم كلّاً منهما، وهو سؤال حيّر علماء اللغويات أيضاً، والحقيقة أن الفرق بين اللهجات واللغات يرتبط بالسياسات والبلدان أكثر من كونه فرقاً لغوياً).
يُرجع علماء اللغويات سبب اختلاف اللغات إلى 3 عوامل:
- العوامل العرقية: تتعلق العوامل العرقية بالاشتراك بالموروث الثقافي والتاريخ والسلف والعوامل الوراثية.
- العوامل الجغرافيّة: تترك عواملٌ مثل تضاريس المنطقة وعواملها الجوية وما شابه، أثراً كبيراً في اللغة ويتجلى ذلك بوضوح في مفرداتها، وكمثالٍ على ذلك نأخذ سكّان ألاسكا، فبينما نطلق على تلك الندفات البيضاء التي تتساقط في فصل الشتاء اسم “ثلج” يملك سكان ألاسكا العديد من المسميات للثلج وذلك لأن الثلج بالنسبة لهم جزءٌ رئيسٌ من حياتهم ومن المهم تحديد طبيعته حين يتساقط.
- العوامل الاجتماعية: مثل عمر الشخص، النوع الاجتماعي الذي ينتمي له، ومكانته الاجتماعية إن كان يأتي من الطبقة المتوسطة أو الأرستقراطية…
لماذا لا نتحدّث جميعاً اللغة نفسها؟
لنجيب عن سبب اختلاف اللغات ولماذا لا نتحدث جميعنا اللغة ذاتها، علينا أن نسأل أولاً لماذا نستخدم لغتنا؟ بالطبع هناك الغرض الأساسي وهو نقل الأفكار من شخصٍ لآخر لكننا أيضاً نستخدم اللغة لنعبّر عن أنفسنا ونظهر انتماءنا، فاللغة التي نتحدّث بها تشكّل جزءاً مما نحن عليه. تحمل لغتنا إرثنا وتاريخنا ولذا نلاحظ على مر العصور أن الدول التي تحتل دولاً أخرى تحاول أول الأمر أن تطمس لغة البلد المُحتلّ. في الحقيقة تشبه اللغة بصمة الشخص إذ لا يوجد شخصان يتحدثان بطريقةٍ مماثلة طبق الأصل حتى وإن كانا توأماً، ما يجعل اللغة التي ننطق بها علامةً تفرقنا عن أقراننا.
حاولنا في هذا المقال أن نلخّص ونشمل أكبر قدرٍ من المعلومات، لكن الحقيقة أنّ موضوع اللغة بحرٌ واسع، وأن كلّ فكرةٍ مما سبق تحتمل كثيراً من الشرح والتعمّق. لكن على الأقل وفي المرة القادمة التي تتحدّث فيها مع شخصٍ آخر ينطق بلغتك الأم، ستلاحظ كم تختلف طريقة كلامكما وستدرك كيف أن هذا الاختلاف والتنوّع جزءٌ من شخصيتكما وتميّزكما.
اقرأ أيضاً: تعلّم هذه اللغات الخمس وادعم مسيرتك المهنية
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.