فرج فودة ومناظرته المُدويّة: اغتيال الجسد لا يعني فناء الفكرة!
6 د
مؤخرًا نشرت القناة الرسمية لوزارة الثقافة المصرية على يوتيوب، مقطعًا يُظهر فرج فودة المفكر الراحل، ضيفًا في مناظرة تحت عنوان (مصر بين الدولة الإسلامية، والدولة المدنية) بينه وبين قيادات دينية-سياسية. وذلك في معرض كتاب 1992، الذي كان للأسف، المطرقة التي دقت المسمار الأخير في نعش حريّة الرأي وقتها، حيث تم اغتيال فرج فودة بعدها على يد مجموعة من الذين لا يعرفون كيف يجابهون القلم، إلا بالرصاص.
نرشح لك قراءة: فرصة لنفهم مع كتاب هادي العلوي: هل الاغتيال السياسي في الإسلام سياسي أم عقائدي؟!
مناظرة فرج فودة الخالدة
في البداية كان من المفترض نشر المقطع الكامل على قناة الهيئة العامة للكتاب، إلا أن الكتائب الإلكترونية التي لا تريد لتلك المناظرة الظهور للنور بشكلٍ أقوى، قررت أن تخترق القناة، في محاولة لعرقلة صدورها إلكترونيًّا. لكن تشاء الأقدار أن تفكر الحكومة المصرية في إصدار تلك النسخة القوية على القناة الرسمية لوزارة الثقافة المصرية، والتي هي قناة (حكومية) موثقة رسميًّا على يوتيوب.
ساعات فقط مضت على صدور المناظرة، وبالفعل ظهر السجال المعهود على الساحة.
هل فرج فودة على حق؟
هل رجال الدين السياسي على حق؟
هل استحق فرج فودة تلك النهاية فعلًا؟
هل يستحق أي إنسان الموت بسبب أفكاره؟
هل فتاوى التكفير مُسلمات قانونية لمجرد صياغتها من قِبل رجل دين؟
الكثير من الأسئلة، والكثير من الإجابات تطرق أبواب عقولنا مع الوقت. بعضها منطقي، والبعض الآخر ضرب بالمنطق عرض الحائط. لذلك اليوم سوف نتحدث عن تلك المناظرة تحديدًا، وكيف لها أن كانت الصحوة الفكرية التي احتاجها المصريون، والعرب فعلًا، لبداية التفكير في أن النفق فعلًا مظلم، وأن المصابيح التي تُنير الحياة من حولنا، مليئة بيرعات سرعان ما ستموت.
هل فرج فودة يدعو للدولة المتخلية عن الدين تمامًا؟
الإجابة البسيطة: لا.
إذا تابعت مناظرة فرج فودة جيدًا، ستجد أن فرج فودة لم يقلل من شأن الإسلام على الإطلاق، ويجد أن الخَوض في الشيوعية والاشتراكية والتقليل منها جائز ويمكن تقبله، لكن فعل نفس الشيء للإسلام، لا يمكن تقبله.
لذلك الكاتب الراحل لم يكن ضد الدين كدين، لكن ضده كدولة. وجهة نظره كانت تتمحور حول أن الدولة المدنية عبارة عن كيان كبير مكون من عشرات القطع المركبة بنسب وضوابط موزونة للغاية كقطع الأحجية. لذلك الدولة بالنسبة له هي كيان اقتصادي، سياسي، ديني، تنفيذي، إلخ. بينما الفصيل الآخر يرى أن الدين دولة كما أنه دستور وعقيدة، ويجب تطبيقه جديًّا لتكون الأوضاع حسنة.
وهنا يتحدث فودة عن مجموعة أسباب تحيل دون تحويل الدولة من مدنية إلى دينية، استنادًا على المنطق البحت، والمنطق فقط. ولا يوجد منطق أقوى من الدليل الدامغ الذي تجسَّد على أرض الواقع بتجربة سابقة فعلًا. وهنا تحدث عن تجربة إيران، قائلًا:
إذا كانت هذه هي البدايات، فبئس الخواتيم.
إيران وقتها كانت في حالة مزرية للغاية، وحتى هذه اللحظة في 2020، إيران تفرض عشرات العشرات من القوانين الدينية التعسفية على أهلها، لمجرد أن الحكومة الإيرانية تريد ذلك، بغض النظر عن عدم رضا الشعب، ودحض المنطق للقرار. فلسفة فودة كانت متحققة وقتها، وما زالت. تفكير هذا الرجل مبني على منطق، والمنطق مرتبط بالبشر كآلية تفكير وفهم وتعامل. فإذا تعاملت بالمنطق في حياتك، لن تخيب على الإطلاق.
وهنا يجب أن أستوضح نقطة هامة لكم.
الكاتب الراحل كان علمانيًّا، وهذا جليّ للغاية. والعلمانية بالمُجمل هي ضمان حرية التعبير للجميع، لكن مع تحديد معايير (منطقية) تُنظم تعاملات البشر مع بعضهم البعض. المفهوم الشائع للعلمانية هو فصل الدين عن الدولة، لكن هذا -منطقيًا- غير منطقي في حد ذاته. لأنه لا يمكن لمجتمع الدين هو قوامه لسنين طويلة جدًا، أن يتخلى عنه فجأة. بل الوصول إلى تركيبة تسمح بوجود الدين كجزء من أجزاء الدولة العلمانية، هو المطلوب. وهذا تجلى في احترام فرج فودة الشديد للدين الإسلامي، وأنه فقط يتحدث عن أن الدين كنظام حكم لا يصلح، ولم يقل إن الدين في حد ذاته كجزء من الدولة شيء مكروه.
إذا كان فرج فودة لا يكره الدين، لماذا اغتالوه؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نتحدث عن العقلية العربية بعض الشيء يا صديقي.
العقل العربي -بطبيعة الحال كأي عقل آخر- مبني على التراث مُجملًا. والتراث كيان كبير يحتوي على تقاليد وأسلوب حديث ونمط مَلبس والعديد من الأشياء الأخرى، والتي من بينها الدين. إذا تغلغل الدين في عقول البشر لفترة كافية، سوف يتغلغل بالوراثة إلى الأجيال التي ستأتي كجزء أصيل من التراث. لكن ماذا يحدث إذا تم توارث الدين عن جهل وعدم إعمال عقل؟ أجل، ستجد من يُبجل رجل الدين لمجرد أنه تخرج من الأزهر، ويكره رجل العلم لمجرد أنه تخرج من كلية العلوم. وهذا لكَون التفكير المعاصر للإنسان العربي ينطوي على كَون العلوم الشرعية هي أساس كل العلوم، وما عداها لا يعتد به في الدنيا ولا الآخرة. هذا بالرغم من اعتراف الأزهر نفسه بوجود علوم شرعية وأخرى تطبيقية، بل أن هناك كلية (الطب) بالأزهر كذلك.
لذلك توارث الدين دون إعمال العقل فيه، تكون نتيجته هي عقول مغيبة تنفذ الأوامر دون نقاش، لمجرد تغليف تلك الأوامر بهالة دينية، نورانية. والهالة التي قتلت فرج فودة كانت هالة دخول الجنة عند قتل المرتد، وذلك بعد خروج جبهة علماء الأزهر بفتوى تقول إن هذا الرجل مرتد، وحد المرتد في الإسلام معروف. لكن هل فكر أحدهم في ضوابط ذلك الحد؟ هل فكر في عدم مناسبته للحاضر المعيش؟ هل فكرة أنه يعيش في دولة مدنية ولا يعيش في قبيلة تحكمها الموروثات الهشّة؟
للأسف لا، وللأسف مات فرج فودة شهيدًا للكلمة.
نَفس الأمر يتكرر الآن، بحذافيره. فرج فودة في نظر الكثيرين هو مجرد حثالة، نبت شيطاني، رجل جابه الإله، فعاقبه بدوره. لكن الواقع يقول عكس ذلك، الواقع يقول إنه رجل أراد أن يكون الدين جزءًا من الدولة، لا أن يكون الدولة ذاتها. لضمان حريّات الأقليات التي لا تعتنق هذا الدين بعينه، وقد تعتبر سطوته عبارة عن ديكتاتورية مزينة بالوحدة الوطنية. المدنية لا تفرق بين مسلم وغير مسلم، المدنية سلمية وتحترم الحريات، وهذا ما لم يحبه الطرف الآخر من المناظرة بالطبع، لذلك قرر التخلص منه.
بالسلاح، لا بالقلم.
ما تأثير اغتيال فرج فودة على الساحة الأدبية والسياسية؟
اغتيال فرج فودة لم يمر مرور الكرام، فتم القبض على كل من شارك في تنفيذ تلك العملية الاغتيالية. هناك من تم إعدامه، وهناك من خرج بعد سنين. لكن في النهاية لم يترك القضاء المصري الأمر يذهب هكذا، وذلك بالرغم من استناد القضية على معيارية دينية كانت هي المسيطرة وقتها على عقول الناس.
اغتيال فرج فودة كان صحوة للكثيرين وقتها، وشرعت أعماله في البيع بطريقة مهولة، وبات اسمه معروفًا أكثر وأكثر. في الواقع، الذي اعتقد أن قتله سوف يخمد أفكاره، ساعد على إشعالها أكثر!
مرت السنين، وغرقت مصر في التدين غير المبني على إعمال العقل مجددًا، وذلك بعد خروج الكثير من الكتّاب والمفكرين من الساحة الأدبية والسياسية، نظرًا للتقنين السردي الذي كان يفرضه الرئيس السابق محمد حسني مبارك على الكتابات المنشورة. حتى بدأت صحوة المجتمع المصري من جديد مؤخرًا، وأول خطوة في تلك الصحوة هي إدلاء الأزهر بفتاوى تسامحية من الدرجة الأولى، والتي إذا تم نشرها وقت عَيش فودة، لما آل الوضع إلى ما آل إليه فعلًا. وتَلت تلك الفتاوى السَمِحة، مجموعة قرارات تدعو لتحكيم العقل والمنطق في كل شيء، وأبرز تلك القرارات هو إعادة نشر المناظرة سابقة الذكر مرة أخرى، لكن بنسخة محسنة ومعدلة للأفضل.
أؤمن أنه مع الوقت سوف تصل مصر إلى العلمانية العادلة التي أريدها. علمانية لا تفرق بين أي شخص بناءً على العقيدة أو الأيدولوجية أو أي شيء. علمانية تؤمن أن الجميع أبناء نفس الوطن، وعليهم التعامل مع بعضهم البعض بقوانين مدنية ثابتة، لا دينية متباينة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.