ما الفرق بين التاريخ والتأريخ؟
لأتمكن من توضيح الفرق بين التاريخ والتأريخ لا بد من تقديم فكرة مختصرة عن ماهية كلٍ منهما لتساعدك على فهم الفكرة:
التاريخ (history): دراسة التغييرات التي حدثت على مر السنين والعصور، وهو يمتد ليشمل كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والدينية، وبتعريف آخر هو سرد لأهم الأحداث التي حصلت في الماضي البعيد، وهو نشاط إنساني فطري وجد قبل اختراع الكتابة على هيئة أساطيرٍ وقصصٍ وروايات وملاحم شعرية، ثم تطور شيئاً فشيئاً.
التأريخ (historiography): فهو إعادة كتابة التاريخ بعد نقد المصادر الموجودة، وإعادة سرد التفاصيل والخوض فيها بطريقة أكثر مصداقية، يعود مفهوم التأريخ الحديث إلى أواخر القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر الذي رافقه العديد من التطورات العلمية واعتماد التأريخ مهنة أكاديمية مستقلة.
الفرق بين التاريخ والتأريخ
يعتمدُ التاريخ على حقائق معلومة لدى جميع الأشخاص مثل تاريخ وفاة أو تاريخ انهيار أو تاريخ الحدث ووصفه بشكل عام دون الخوض في التفاصيل، أمّا التأريخ فسيتناول هذا الحدث أو الحقيقة ويحاول تفسيرها عن طريق طرح بعض الأسئلة مثل من كتب هذه الحقائق ورواها وكيف حدثت هذه الأحداث وانتهت؟ وأسئلةٍ عديدةٍ يجاوب عليها من خلال جداول أعمال تحوي مصادر ومراجع يُثبت من خلالها جميع الأفكار والمفاهيم المطروحة سابقًا لينتهي به المطاف بمقالٍ تاريخيٍّ أو كتاب أو محاضرة أو حتى ورقة عمل طالب.
أما المشاعِر المُسيطرة على عملية التأريخ هي “التشكيك”، التشكيك في الأشخاص والزمان والمكان ومحاولة إثبات جميع تلك الشكوك، ويُقال إن التأريخ لا يُمكن أن يكون عملًا موضوعيًا أبدًا فهو دائمًا سيعرض نظرة المؤرخ في الأحداث ويفسّرها وبطبيعة الحال فإن التفسير بحد ذاته هو عملية عقلية ذاتية تختلف من شخص لآخر، أمّا التاريخ فيكون أكثر موضوعية في سرده للأحداث.
ومن جهةٍ أخرى أثّرت مجريات التطوّر الكثيرة على مر العصور على عملية التفسير لدى المؤرّخ ونقل هذه الرسائل التاريخية، فالتغيّر الحاصل بآليات وسائل الإعلام الجماهيري وتعدّد الخبرات والمعايير في نقل الأحداث وتفسيرها بشكل عام جميعها مقوّمات تؤول إلى خلق مقالات وكتب تاريخية ربّما أكثر موضوعية.
دعني أفسّر لك هذه النقطة صديقي، مثلًا على مدى عقودٍ سابقة قبل اكتشاف التلفاز والهواتف المحمولة والشبكة الإلكترونية كان من السهل جدًا على المؤرّخ وضع رسالته التاريخية بمصادره التي اختارها شخصيًا وطرحها على الجمهور المستهدَف وبالطبع في هذه الحالة لا يقع على عاتق الجمهور سوى تصديق هذه التفسيرات والرسائل التاريخية.
بينما اليوم مع انتشار هذا الكم الهائل من أدوات المعرفة ووسائل الإعلام الجماهيري فقد بات هذا الجمهور المُستهدَف ذاته أكثر علمًا وحنكةً، فبات باستطاعته اختيار المصادر الموثوقة الأكثر منطقية والمقارَنة بينها ليختار بنفسه التفسير الأقرب إلى الواقع والمجريات الماضية.
كما أنّه في القرون السابقة لم يكن هنالك طريقة لنقل أحداث التاريخ سوى شفويًا، أما العصر الحالي فباتت الاكتشافات التاريخية والآثار جميعها موثّقة ومحفوظة في أماكن آمنة.
متى بدأ التأريخ؟
بدأت كتابة التأريخ في عصور قبل الميلاد وكانت بنهجٍ كلاسيكيّ مثّلَ مرحلة التطور التدريجي للإدراك التاريخي ولعلّ أهم مؤرخي هذه المدرسة الكلاسيكية هو المؤرّخ اليوناني هيرودوت (Herodotus) الذي سُمي أبو التاريخ ونقل أصول الحرب الفارسية اليونانية.
ومن مؤرّخي تلك الفترة، المؤرّخ الأثيني ثيوسيديدز (Thucydides) الذي رفض تدخل القوة الإلهية بالأحداث وفصل الحقائق عن الاختراعات.
ومن أشهر مؤرّخي العالم أيضًا هو بوليبيوس (Polybius) وهو مؤرخٌ يوناني عمل على نقل الفترة الممتدة من عام 264 إلى عام 126 قبل الميلاد، وتحديدًا في المجال السياسي فصوّر انتقال السلطة الرومانية إلى مكانة عالية ومُسيطِرة في عالم البحر الأبيض المتوسّط القديم.
والمؤرّخ الصيني سيما شيان (Sima Qian) الذي اعتُبر والد التأريخ الصيني بعد نقلة للقرنين الأول والثاني في حياة الصين ونقلاتها السياسية والاجتماعية والدينية.
وتعتبر السجلات المصرية من أقدم السجلات في العالم، وقد دوّن فيها الفراعنة أسماء ملوكهم وآلهتهم بالإضافة إلى العديد من الرموز والرسومات الغاضة، شمل التأريخ في الحضارة السومرية وصفاً لتغييرات السلطة والحوادث التي خاضها الملوك.
ومن ثم جاءت مرحلة الإقطاع وتحوّل فيها التأريخ إلى فكر تاريخي يعتمد على أيديولوجية الكنيسة الإقطاعية وهنا اعتُرِف بالقوة الإلهية وتدخّلها في مجريات الأحداث التاريخية، وتابع التأريخ تطوّره في العصر الإسلامي والعصور المختلفة حتى يومنا هذا.
أهمية دراسة التاريخ
يدرس المؤرخون التاريخ لفهم التغيرات التي حصلت في المجتمع، سواء كانت إيجابية مثل الإنجازات والتطورات، أو سلبية مثل الأخطاء والانهيارات والكوارث والحروب، ويعتمد التأريخ على دراسة مراحل تطور هذه المتغيرات مع معرفة أدق التفاصيل، وفهم علاقتها مع بعضها البعض، فهو ليس مجرد قصة تحكى عن الماضي والعصور القديمة، كما يتولى الأشخاص المهتمون بدراسة التاريخ مهمة جمع المصادر الصحيحة والتأكد منها بالعودة إلى الأرشيف الأصلي للحادثة، ومقارنتها مع بعضها البعض والابتعاد عن النسخ المزيفة أو المحرّفة والتشكيك بصحتها ونفيها.
تذخر كل الثقافات بقصص عن الماضي تتناول مواضيعاً مختلفة، وتناقلتها الأجيال على مر العصور، يتولى المؤرخون مهمة التأكد من صحة هذه الحوادث عن طريق مقارنتها مع بعضها، ومعرفة عدد مرات تكرارها، ولا يحق لهم تأكيد هذه الحوادث أو دعمها من دون وجود أدلة وثائقية تؤكد صحتها، يمكن أن يكون هذا الدليل على شكل قانون أو رسالة ورقية أو سجل؛ ويلجأ بعض المؤرخون لدعم مقترحاتهم عن طريق الاستشهاد بأشخاص وأخذ مقولاتهم واستنباط المعلومات منها، ومع التطورات التي شهدها القرن العشرون توسع مفهوم الأدلة ليشمل الصور والملابس والعملات الورقية وغيرها.
وعندما يكتب المؤرخون التاريخ يجب أن يذكروا جميع المصادر التي استخدموها بشكل واضح، ووضعها في هوامش كتبهم، يزيد ذلك من مصداقية هذه الكتب ويدل على حرص الكاتب ويعطيه الأولية بالرجوع واعتماده كمصدر، كما يسعى المؤرخون إلى سرد التاريخ بأسلوب منظم وتوفير ترتيب زمني للأحداث التاريخية، ويجب أن تكون كتابته شاملة لكل الأحداث دون نقص أو حذف، وأهم صفة يجب أن يتحلى بها المؤرخ هي الموضوعية والابتعاد عن إطلاق الأحكام أو التقييمات للأحداث التاريخية بناءً على آرائه الشخصية.
إذا فالتاريخ (history) بشكل عام هو كل ما تبقّى من الماضي من أحداثٍ منقولة وحقائق وآثارٍ مادية أو معنوية، أما التأريخ (historiography) فهو عملية بشرية تقوم على تحليل هذه الأحداث الماضية وتفصيل كل مجرياتها ونقلها بطريقة تاريخية أدبية منطقية وفقًا لمصادر مختارة بعناية.