ورق البردي
يعود تاريخ ورق البردي إلى بداية الحضارة الإنسانية حيث ظهرت الحاجة إلى نقل المعرفة من جيلٍ إلى آخر، وذلك تطلب خلق مخزنٍ لهذه المعارف يسهل التحكم فيه ويحفظها من الضياع. وأول هذه المخازن بعد ألواح الطين والخشب والنقش على الحجارة كان ورق البردي.
يصنع هذا الورق من نبات البردي، وهو نباتٌ كان يتواجد بكثرةٍ في غابات دلتا النيل وفي وادي النيل بشكلٍ عام، لكنه أصبح نادرًا اليوم. ينمو النبات في المياه العذبة الضحلة وفي تربة الدلتا الرطبة، يصل طول سيقانه إلى 5 أمتارٍ، والتي تنتهي من الأعلى بأزهارٍ بنيةٍ صغيرةٍ غالبًا ما تحمل فاكهةً.
كان يتغذى سكان المنطقة على هذا النبات، لكن بعد أن وجدوا استخدامات أخرى له أصبحوا يزرعونه في مزارعَ، وجاروا في قطفه واستثماره حتى انخفض معدله. كانت تتم زراعة ورق البردي في عصرٍ ما قبل السلالات في مصر (6000 - 3150 ق.م)، واستمرت خلال عهد البطالمة (323 - 30 ق.م)، وإلى العهد الروماني (30 ق.م - 640 م). ارتبط اسم ورق البردي المصري بالكتابة حتى أن كلمة ورق باللغة الإنكليزية (paper) هي بالواقع مشتقةٌ من كلمة البردي (papyrus).
أقدم وثيقةٍ من ورق البردي تم اكتشافها تعود لـ 4500 عام مضت، وبالرغم من أن ورق البردي غير فعالٍ بشكلٍ جيدٍ في المحيط الرطب، إلا أنه لقي انتشارًا واسعًا، وظل يُستخدم في روما واليونان حتى القرن الحادي عشر. .
من أين جاءت تسمية ورق البردي
اسم النبات باليونانية بابيروس (papyrus) وهو على الأرجح مشتقٌ من كلمة بابورو (papuro) المصرية، والتي تعني الملكي أو الفرعوني، وذلك لأن الحكومة كانت تسيطر على صناعة البردي بسبب سيطرتها على الأراضي ولاحقًا على مزارع البردي. كان له عدة تسمياتٍ أخرى مثل وادج (wadj) والتي تدل على الطراوة والنضارة، وبعد أن يتم قطفه وتصنيعه على شكل لفائفَ يطلق عليه اسم دجيما (djema)، والتي تعني نظيف، حيث أنه يكون عندها جاهزًا للكتابة.
عملية التصنيع
إلى يومنا هذا، لسنا متأكدين تمامًا حول كيف كان المصريون القدماء يصنعون ورق البردي. أكثر وصف دقيقٍ للعملية موجود في كتاب بليني للتاريخ الطبيعي، ومع أن وصفه دقيقٌ إلا أن بعض المفاهيم غير مترابطةٍ مع ما وُجد في بقايا المستندات القديمة، إضافةً إلى أن بليني لم يذهب إلى مصرَ قط، لذا من غير المرجح أن يكون قد أحاط بعملية التصنيع بشكلٍ كاملٍ. وبالرغم من نقص المستندات إلا أننا متأكدون من بعض الخطوات التي كانت تجرى خلال عملية التصنيع.
كان يقوم المزارعون بقطف نبات البردي من المستنقعات بقطعه من الأسفل بشفراتٍ حادةٍ، ثم يجمعون سيقان النبات في حزمٍ ويضعونه في وسائل النقل التي تأخذه إلى أماكن التصنيع، وهناك يتم تقطيع السيقان إلى شرائطَ رقيقةٍ، ووضعها إلى جانب بعضها البعض بشكلٍ عموديٍّ. يتم بعدها دهن مستحضرٍ مستخرجٍ من صمغ النبات عليها ثم توضع طبقةً أخرى من الشرائط فوقها بشكلٍ أفقيٍّ، ثم يتم ضغط الطبقتين مع بعضهما وتُترك حتى تجف.
يدعى الوجه الذي تكون خطوطه بشكلٍ أفقيٍّ بالوجه الأيمن وهو الوجه المفضل للكتابة، والثاني بالوجه الأيسر، إلا أنه كان يتم استخدام الوجهين للكتابة في أغلب الأحيان. بعد ذلك يتم جمع الأوراق مع بعضها لتشكيل لفائفَ أو مخطوطاتٍ، حيث تتكون المخطوطة النظامية من 20 صفحةً، وتكون في أغلب الأحيان ملفوفةٌ حول عودٍ خشبيٍّ، لكن يتم أحيانًا تصميمها بحيث يكون عدد صفحاتها حسب الطلب. بعد أن يتم جمع اللفائف، تُنقل إلى المعابد أو المباني الحكومية أو الأسواق أو يتم تصديرها، حيث لم يكن هذا النور من ورق البردي طاغيًّا في مصر فحسب، بل تم تصديره بكمياتٍ كبيرةٍ إلى أوروبا، حيث أصبح هذا النوع متأصلًا في حضارة الروم واليونان.
مع أن ورق البردي كان يستخدم للكتابة إلا أنه كان مخصصًا للنصوص الدينية والحكومية فقط بسبب ارتفاع كلفةِ تصنيعه، حيث أنه بالإضافة إلى كلفة العمالة اليدوية، فهو كان يحتاج لعمالٍ ماهرين وأخصائيين كي لا يتلفوا النبات أثناء تصنيعه. وكل البردي الذي تم اكتشافه كان من معابد أو مباني الحكومة أو من مقتنيات الأثرياء..
استخدامات ورق البردي
كان يقضي الكتاب المصريون القدماء سنواتٍ في إتقان حرفة الكتابة، وحتى لو كانوا أغنياء، لم يكن يُسمح لهم بهدر ورق البردي خلال مرحلة تعلمهم. كان الخيار الأرخص والأكثر شيوعًا للكتابة هو على ألواح الخزف أو الخشب وخاصةً للطلاب، حيث كانوا يستخدمونها للتدريب، ولم يُسمح لهم باستخدام أوراق البردي إلا بعد إتقانهم فنون الكتابة. وقد وجدت العديد من نصوص البردي المكررة على ألواح تدريب مما ساعد في إكمال بعض العبارات والكلمات الناقصة من النصوص الأساسية.
كان يستخدم البردي لكتابة الترانيم،
النصوص الدينية والروحية، المراسلات، الوثائق الرسمية، قصائد الحب، النصوص الطبية،
الكتيبات العلمية والنصوص الأدبية.
تتنوع أحجام نصوص البردي من قطعٍ صغيرةٍ إلى صفحةٍ أو صفحاتٍ إلى بردية إبيرس الشهيرة المكونة من 110 صفحات، ويصل طول هذه البردية إلى 20 مترًا، وهي عبارةٌ عن نصٍّ طبيٍّ، وتعتبر دليلًا على ارتباط الطب مع السحر في مصر القديمة.
استخدم المصريون القدماء الحبر الأسود للكتابة، بالإضافة للأحمر الذي كان يستخدم إما لكتابة أسماء الشياطين أو الأرواح الشريرة، تحديد بداية مقطع جديد، تعليم كلمةٍ أو مقطعٍ ما أو لعلامات الترقيم في بعض الحالات. كان الكتاب يحملون حقائبَ خشبيةً تحوي طلاءًا أسودًا وأحمرًا وقواريرَ مياه لصناعة الحبر، وكان القلم عبارةً عن قصبةٍ ذات نهايةٍ طريةٍ، وتم استبدالها في القرن الثالث قبل الميلاد بأقلام الحبر التي كانت عبارة عن قصبةٍ أقسى وذات نهايةٍ أكثر حدةً. كان الكاتب يبدأ بالكتابة على الصفحة اليمنى لمخطوطة ورق البردي وبعد أن تنتهي ينتقل لليسرى. كما كانت هنالك بعض المخطوطات التي تحوي نصوصًا على الصفحة اليمنى فقط، وهذه كان يستخدمها بعض الكتاب للكتابة على صفحتها اليسرى، حيث كانوا إما يكتبون عليها موضوعًا متممًا للنص الأيمن أو مختلفًا كليًّا عنه.