ثقافة التاو: حكمة كبيرة في العيش وموعظة دنيوية هامة
4 د
تعتبر ثقافة التاو – Tao أو التي تلفظ (داو)، فلسفة دينية ودنيوية قديمة. وُلدت في الشرق الأقصى منذ الزمان الغابر، في دعوة صريحة لطريق متحرّر متجدّد، مرصوفٍ بالحكمة اللامتناهية والمحاط بأشجار الموعظة الدنيوية. ليسير عليه المسافرون المعجبون بعالم الصين الغامض، المليء بأسرار العيش وجمال الطبيعة الخلابة؛ بهدف الوصول إلى حالةٍ من التوازن الروحي المستقر ما بين الجانب المتصوّف العقائدي والتعايش الحر السلس مع الطبيعة. على أساس فهم العالم الطبيعي من حولنا وموازنته مع الوعي البشري أساس وجودنا في الحياة، باعتباره جزءاً لا يتجزّأ منها.
تاريخ ثقافة التاو وأعلامها
عندما نتتبع جذور ثقافة التاو وفلسفتها، ستأخذنا هذه الرحلة إلى أعماق التاريخ العتيق دون أن نصل إلى الجذر الأساسي لها، إنما سنجد علاماتٍ من شعائر وأشعار وكتاباتٍ تدلّ عليها. وذلك في الفترة التي حكمت فيها أسرة شانغ – Shang في الصين، وذلك ما بين 1600 إلى 1046 قبل الميلاد.
لكن حجر الأساس لم يوضع حتى فترة ما حول 500 قبل الميلاد. وهي الفترة التي عاش فيها حكيم الطاوية ورجلها الأولى لاوتسو – Lao-Tzu، الذي كان يعمل كأمين مكتبة البلاط الإمبراطوري ومستشاراً فيه. كما يُنسب له تأليف كتاب تاو تي تشينج – Tao Te Ching والذي أرسى قواعد ثقافة التاو ومبادئها ويتحدث عن ممارساتها.
تاو تي تشنج
ما زال الغموض يخيم على كتاب الـ تاو تي تشنج حتى الآن لعدم معرفتنا الواضحة والكاملة عن زمن تأليفه، وفيما إذا كان لاوتسو هو حقّاً من قام بتأليفه. إذ تقول بعض الروايات إن لاوتسو ألّف كتبه على باب سور المدينة حين غادرها، متجهاً نحو الجبال في رحلته إلى الزهد في الحياة والطبيعة. وأن هناك من يعتقد أن هذا الكتاب بالتحديد تم تأليفه على يد العديد من الكتاب المعتنقين لمذهب ثقافة التاو مجملاً؛ وذلك في هدف نقل شيء من نمط حياة سكان الريف واحتياجاته إلى الأسر الحاكمة داخل أسوار المدن الضخمة.
اقرأ أيضًا: آثار أزمة فيروس كورونا على الصين والعالم – تقرير
ولكن هذا لن يغيّر من أهمية الكتاب المقدس في الطاوية، والذي يمكن ترجمة معناه من الصينية القديمة بشكل تقريبي إلى (نهج النزاهة) أو (طريق الفضيلة) والذي يحتوي على 81 قصيدة تناقش قضايا فلسفية في العيش والمعراج والتعامل مع الطبيعة وإدراك الوعي. وكانت ولا زالت المشكلة الرئيسية في فهم الكتاب ثقافة التاو تكمن في ترجمته ونقله إلى اللغات المعروفة الحالية من الصينية القديمة. والذي زاد الأمر صعوبة هو المواضيع الفلسفيّة المطروحة باللغة الأم والتي تشير إلى أشياء إيمانية وغير ملموسة، ومن باب الاطلاع يمكننا اقتباس الآتي:
التاو الذي يمكن الحديث عنه
ليس بالتاو الأبدي
التسمية التي يمكن إطلاقها
ليست بالتسمية الأبدية
الذي لا يمكن تسميته هو الحقيقة الأبدية
التسمية هي أصل كل الأشياء المتفردة
بالتحرّر من الرغبة تدرك السر
بينما أنت عالقٌ في الرغبة لا ترى إلا المظاهر
ومن هنا يمكننا لمس المحتوى الروحي والجوهري لفلسفة التاو غير الملموسة التي لا يمكن الحديث عنها أو التعبير عنها بكلمات؛ إنما مصدرها الحكمة والوعي في العقل والإحساس والطهارة في القلب.
ين ويانغ
وهي واحدة من أعمدة فلسفة ثقافة التاو حصراً، والتي تعتبر أن الكون قائم على الأضداد والمتعاكسات، ولا وجود لشيء دون نقيضه، وهذا ما نص عليه كتاب تاو تي تشنج:
عندما يرى الناس بعض الأشياء جميلةً، تصبح أشياء أخرى قبيحةً.
عندما يرى الناس بعض الأشياء جيدةً، تصبح أشياء أخرى سيئةً.
يخلقُ الوجود واللاوجود أحدهما الآخر
يُآزر الصعب والسهل أحدهما الآخر
يُعرّف الطول والقصر أحدهما الآخر
يعتمد الارتفاع والانخفاض أحدهما على الآخر
يتبع السابق واللاحق أحدهما الآخر
وقد تم الترميز لليِن و اليانغ على شكل كرة مقسومة بالأبيض والأسود وفق نمٍط يكمل أحدهما الآخر، وفي منتصف كل مساحة لونية نقطة صغيرة من اللون الآخر. وأصبح هذا الرمز رائجاً في عصرنا الحديث؛ إذ يمكننا رؤيته على الملابس وفي أشكال المجوهرات وقطع الأثاث والزينة.
حيث يشير اللون الأسود إلى اليِن، أو الأنوثة والشمال والماء والقمر والأرض والبرودة والفقر وغيرها الكثير. فيما يرمز اللون الأبيض إلى اليانغ، أو الذكورة والجنوب والنار والشمس والسماء والدفء والغنى. ومن رحم هذه الفلسفة سنرى أنّ اليِن يولد من اليانغ والعكس صحيح، ولا وجود لأحدهما دون الآخر، وذلك منذ بدأ الخليقة منذ بداية الخير والشر. ومن هنا تكمن الدعوة الكامنة لخلق التوازن في الروح البشرية والوعي الإنساني. ولهذا الين واليانغ عمودان أساسيان في ثقافة التاو الشهيرة.
لجميع المهتمين بالثقافات الشرقيّة والحضارة الصينيّة، لن يكون بإمكانكم الفصل بين ثقافة التاو والثقافة الصينية القديمة أو الحديثة، لأن المحاولة ستشبه تنحية الإسلام من الحضارات الشرق أوسطية، أو المسيحية من تاريخ إنجلترا. ولكن ستبقى بصمة الفلسفة الطاوية واضحة في الحياة الصينية الحالية. إذ تكن دعوتها الجوهرية في التماشي مع الأمور كما هي وعدم معارضة سير الطبيعة والتأمّل فيها.
ولهذا الغرض احتلت معابد ثقافة التاو أجمل بقاع الصين الطبيعية، بالإضافة إلى فكرة عدم التدخل في مجريات الحياة بهدف السيطرة عليها أو إخضاعها، والامتناع عن التوسع وإقصاء الآخرين. وأيضاً الإيمان بالحب والتعاطف والتسامح والاحترام البالغ للآخرين. وهذا ما يثبته التاريخ في علاقة حكام الصين مع حضارات الجوار التي لم تتوسع على حسابها ولم تُقصها إنما اكتفت ببناء سوٍر للحماية من شر أعمالها، ولم يكتفِ تعاطفهم وتعاونهم عند هذا الحد، بل صدرت الصين الحضارة والثقافة والصناعة إلى العالم أجمع عبر طريق الحرير.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.