بول أليكساندر…سبعون عامًا في رئة حديدية لم تمنعه من الترافع في المحاكم
تخيل أن تستيقظ لتجد نفسك غير قادر على الحركة، ولا على التنفس أيضًا، وأن يرتبط تنفسك وحياتك باستمرار استلقائك في نفس المكان الذي تنام به، وبالمناسبة هو ليس سريرك العادي المريح! بل أنبوب حديدي يحبس جسدك كله ولا يظهر منه سوى رأسك، ما الذي ستفعله حينها؟ كيف ستقضي حياتك؟ وهل بهذا الوضع ستفكر في الدراسة أو العمل حتى؟ هذه حياة بول أليكساندر.
بول أليكساندر، ظل في هذا الأنبوب أكثر من 70 سنة، ومع ذلك درس وترافع في المحاكم. فمن هو ذلك الرجل؟ وما الذي دفعه للاستمرار على تلك الحياة؟ وما هو هذا الصندوق الذي يعيش فيه؟ وكيف مارس حياته هكذا؟
شلل الأطفال ينقل بول من طفولته المرحة إلى محبسه الطبي
عندما كانت حالات الإصابة بشلل الأطفال تزداد في ولاية تكساس الأمريكية، خلال صيف 1952، الذي شهد أكبر تفشٍ لشلل الأطفال في تاريخ الولايات المتحدة، كان صبي يبلغ من العمر 6 أعوام يُدعى بول ألكسندر يلعب في إحدى ضواحي دالاس، وفجأة شعر أن رقبته تؤلمه ورأسه تكاد تنفجر، فذهب إلى والدته التي فزعت حين نظرت إلى وجهه المحموم، وأمرته بالنوم.
قضى بول اليوم الأول في سرير والديه، منشغلًا بالتلوين. وبالرغم من ارتفاع درجة الحرارة وتفاقم الآلام في أطرافه، نصح طبيب الأسرة والديه بعدم نقله إلى المستشفى. قال الطبيب إنه كان من الواضح أنه مصاب بشلل الأطفال، لكن لديه فرصة للتعافي في المنزل.
بعد مرور 5 أيام لم يعد بإمكان بول حمل قلم تلوين أو التحدث أو البلع أو السعال. أخذته والدته إلى مستشفى باركلاند، التي كانت مكتظة بالأطفال المصابين بالشلل، فحملته وانتظرت، لكن عندما رآه الطبيب قال إنه لا يوجد شيء يمكن القيام به من أجله، وتركه على نقالة وهو بالكاد يتنفس. كان سيموت لو لم يقرر طبيب آخر فحصه مرة أخرى، ثم أخذه وركض إلى غرفة العمليات وأجرى شقًا طارئًا للقصبة الهوائية.
بعد 3 أيام، استيقظ بول فوجد نفسه لا يستطع التحرك، ولا الكلام، ولا السعال، حيث كان جسده مغلفًا بآلة، حجبت عنه أيضًا الرؤية من خلال النوافذ الضبابية، بسبب خيمة البخار التي تحافظ على رطوبة الهواء حول رأسه والمخاط في رئتيه. اعتقد بول أنه مات، لكن عندما أزيلت الخيمة، لم ير سوى رؤوس أطفال آخرين، أجسادهم مغطاة بعبوات معدنية مثله.
مرت على بول أوقات عصيبة خلال وجوده في المستشفى، ففضلًا عن وضعه الصحي الصعب، كان يسمع صرخات الأطفال الآخرين يعانون الألم، كان يظل لساعات دون تنظيف، وكان يشعر بالملل، كما أنه في كل مرة كان يصنع صديقًا من الأطفال المجاورين له في النهاية كان يموت. بعد تلك المعاناة تعافى بول من العدوى الأولية، لكن شلل الأطفال تركه مشلولًا تمامًا بداية من أسفل الرقبة، وهنا كان عليه أن يظل مستلقيًا داخل الرئة الحديدية.
ما هي الرئة الحديدية التي يعيش فيها بول؟
كانت الأنبوبة المعدنية التي أطلق عليها بول اسم الغواصة الصفراء، هي قارب نجاته من شلل الأطفال. تلك الرئة الحديدية تم اختراعها في عام 1928، على يد كل من فيليب درينكر ولويس أغاسيز شو، وتطورت على مدار العقود اللاحقة. وكان استخدامها أمرًا شائعًا في فترة الخمسينيات، لإنقاذ الناس وعلاجهم من فشل الجهاز التنفسي الناتج عن شلل الأطفال، الذي يقضي على جميع وظائف الجسم والعضلات، بما فيها الحجاب الحاجز، الذي تحل محله تلك الأنبوبة.
وفي حين لا يزيد وزن الحجاب الحاجز في أكبر الاحتمالات عن 2 كجم، ويعمل في صمت أيضًا، كانت تلك الرئة الحديدية تزن 300 كجم، إضافة إلى صوتها العالي الذي لا يتوقف مدى الحياة، التي لم يكن بإمكان بول مغادرتها، بل كان كل ما يمكنه فعله هو حبس أنفاسه عندما يقوم الطاقم الطبي بفتحها، لغسله أو إدارة وظائفه الجسدية.
ويعد بول هو الوحيد في العالم الذي يستمر بالعيش فيها منذ عام 1952 حتى الآن؛ لمساعدته على التنفس، وذلك عبر خلق بيئة من الأكسجين حوله، تدفعه للتنفس بصورة شبه طبيعية. بينما توفي آخر شخص في بريطانيا كان يستخدمها في عام 2017، ووفقًا لمكتبة كلود مور للعلوم الصحية في جامعة فيرجينيا، فإن تقريرًا صدر في سبتمبر 2004 عن مؤسسة "AARP" قال إنّ نحو 40 شخصًا أصيبوا بشلل الأطفال كانوا لا يزالون آنذاك على قيد الحياة بفضل وضعهم داخل الرئة الحديدية، ولكن منذ عام 1955 تم إعطاء اللقاح للأطفال في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وانخفض معدل الإصابة بالمرض، ولم يتم تصنيع تلك الرئة الحديدية منذ أواخر الستينيات.
استراحة قصيرة من الغواصة الصفراء
بعد عام ونصف من دخول بول إلى المستشفى، استأجر والداه مولدًا محمولًا وشاحنة لإحضاره هو ورئته الحديدية إلى المنزل، وقد سمحت المستشفى بذلك لأنهم لم يتوقعوا أن يعيش لفترة أطول، لكن بول لم يمت. كان والداه ينامان معه في نفس غرفة المعيشة وهما دائمًا شبه مستيقظين، لأنه في حال انقطاع الكهرباء وتوقف الآلة، كان عليهما ضخ الماكينة يدويًا، واستدعاء الجيران للمساعدة.
في عام 1954، عندما كان بول في الثامنة من عمره، تلقت والدته مكالمة من معالجة عملت مع مؤسسة خيرية أمريكية للقضاء على شلل الأطفال، حيث أخذت المعالجة تزوره مرتين في الأسبوع، وأخبرها بول عن الأوقات التي أجبره الأطباء فيها على محاولة التنفس دون رئة، وكيف تحول لونه إلى اللون الأزرق وفقد الوعي، فعقدت معه صفقة بأنه إذا استطاع أن يتنفس دون الرئة الحديدية لمدة 3 دقائق، فستعطيه جروًا.
وبعد عام من محاولات التنفس بتقنية تسمى التنفس البلعومي اللساني، فعلها بول وحصل على جروه، وتمكن من التنفس لفترات قصيرة بعيدًا عن رئته الحديدية، وفي البداية استطاع الخروج إلى الشرفة، ثم إلى الفناء، لكن كان عليه النوم في الرئة الحديدية كل ليلة، لأنه لم يستطع التنفس عندما يكون فاقدًا للوعي.
نجاح دراسي ومهني رغم التحديات
بعد 3 سنوات من التدريب على تقنية التنفس التي عهدها، تمكن بول من مغادرة رئته لبضع ساعات في المرة الواحدة، فاشتعل حماسه وازداد طموحه، وأخذ يكمل دراسته من المنزل، ليصبح بذلك من أوائل الطلاب الذين التحقوا ببرنامج المنطقة الجديد لدراسة الأطفال في المنزل، كما تمكن من ترك الرئة والجلوس على كرسي متحرك والذهاب مع الأصدقاء إلى المطاعم ودور السينما والكنيسة.
وفي عام 1967، عندما كان بول يبلغ من العمر 21 عامًا، تخرج من المدرسة الثانوية وحصل على الامتياز بعد الدراسة في المنزل فقط، وتقدم إلى جامعة "Southern Methodist" في دالاس، ولكن تم رفضه، يعبر بول عن حزنه حينها قائلًا: "كنت عاجزًا للغاية، وتحطم قلبي". لكنه لم يستسلم وقاتل لمدة عامين، وتواصل مع الجامعة مرارًا وتكرارًا. حتى رضخ العميد وقبله. وفي الجامعة التقى بول بفتاة تدعى كلير ووقع في الحب. لكن والدتها طلبت منه ألا يتحدث مع ابنتها مرة أخرى. قال بول: "استغرقت سنوات للشفاء من ذلك".
وفي عام 1978 تخرج بول من الجامعة، ثم التحق بكلية الحقوق في جامعة أوستن، ليحصل هناك على الماجستير عام 1984، ثم بعد ذلك وجد وظيفة لتدريس المصطلحات القانونية في المحكمة في أوستن.
وفي 19 مايو 1986، اجتاز امتحانات نقابة المحامين، ورفع إبهامه الأيمن قليلًا حيث أقسم اليمين واعدًا بأن يتصرف بنزاهة كمحام أمام رئيس قضاة المحكمة العليا في تكساس. كان بول يبلغ من العمر حينها 40 عامًا، وكان يعيش بمفرده، ويمكنه قضاء معظم يومه خارج الرئة الحديدية.
حياة بول بين الصمود والبكاء
خلال كل تلك السنوات واجه بول العديد من العقبات والتحديات التي نجح في تخطيها، فقد كان شعاره في الحياة أن الماضي أو الإعاقة ليس لهما الحق في رسم المستقبل. راح بول بغواصته يجوب بحار المعرفة والعلم، تجاوز جميع الصفوف الدراسية بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف رغم كل المعوقات، وأصبح يجيد الرسم والعمل على الكمبيوتر، وضليعًا بالإنترنت، وخفايا الشبكة العنكبوتية، وبقلم صغير مثبت على قطعة بلاستيكية كتب مذكراته، وفي عام 2020 كتب كتابًا عن تجربته استغرق 5 سنوات "Three Minutes for a Dog: My Life in an Iron Lung"، وقد قال بول عن ذلك: "أردت تحقيق الأشياء التي قيل لي إنني لا أستطيع تحقيقها وتحقيق الأحلام التي حلمت بها".
لم تكن حياة بول عبارة عن صمود فقط، فهو في النهاية إنسان، كان يمر كثيرًا بفترات ضعف وإحباط، لكنه كان يتعامل مع عواطفه بطريقة مختلفة، فكثيرًا ما كان يطلق غضبه ويصرخ ويخرج كل شيء، وكان والداه يسمحان بحدوث ذلك، لأنهما متفهمان أنه يحتاج ذلك وأنه أمر طبيعي.
لقد عاش بول بعد كل من والديه وشقيقه الأكبر وأصدقائه القدامى. حتى أنه عاش أكثر من رئته الحديدية الأصلية، التي تعطلت في عام 2015 وكان من الصعب العثور على قطع غيار لها وعلى مختصين يتمكنون من إصلاحها، ولكن بعد أن نشر أحدهم فيديو لبول على يوتيوب يطلب المساعدة، قام مهندس محلي في دالاس بإصلاح رئة بول الحديدية، أو كما يسميها الغواصة الصفراء.
اقرأ أيضًا: حساب على تيكتوك تتعدى إيراداته اليومية الـ ١٠٠ ألف دولار! تعرف على كات نورتون miss Excel
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.