لو لم يكن هناك إله لاخترعناه… ماذا كان يقصد فولتير بذلك؟
5 د
منذ وجد الإنسان على سطح البسيطة، بدأ بالتساؤل. وكان السؤال عن أصل الوجود واحدًا من أكثر الأسئلة التي كانت وما زالت تشغل التفكير الإنساني.
من أين جئنا؟ وما هو أصل الوجود؟ ما الذي يجعل كل شيء على حاله؟ وإلى أين المصير؟ وغيرها من التساؤلات التي مَثّلت المادة الخام لأعظمِ الفلسفاتِ عبر التاريخ، وكانت بمثابة المحرك الأساسي في الأديان كلها.
وبعيدًا عما جاءت به الأديان، فقد حاول المفكرون والفلاسفة إيجاد إجابات شافية حول السبب الكامن وراء الكثرةِ المتبدية في الكون، إذ لا يمكن لكل ما يوجد أن يكون عبثًا، وقد تنوعت الإجابات وتعددت، فمنهم من اعتبر أن كل شيء وجد صدفة، بينما ذهب آخرون إلى اعتبار وجود محرك أول لا يتحرك، ومنهم من ناقش فكرة وجود الصانع الأول، وحاول آخرون تأكيد التوفيق بين أفكارهم وانتماءاتهم الدينية.
وقد كان الفيلسوف فولتير واحدًا ممن حاولوا الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالوجود، واهتم في جزء من كتاباته بالإجابة حول التساؤلات المتعلقة بالوجود، منطلقًا من فكرة أساسية هي أن الله موجود.
من هو فولتير؟
فيلسوف وأديب فرنسي ولد في العام 1694م، وفولتير هو اسمه المستعار الذي استخدمه عندما بدأ كتاباته المسرحية، اشتهر بدفاعه عن قضايا التعصب الديني حتى أنه هيأ لضحاياها ملجأً في ضيعته الأساسية وحاول مساعدتهم ودعمهم، مما جعله عرضة للانتقادات في ذلك الوقت من مناصري السلطات.
انطلق فولتير في فلسفته من أن الفيلسوف هو محب الحكمة، وهو شخص لا يتحمس ولا يُنصّبُ نفسه نبيًا، فزرادشت مثلًا لا يمكن أن يكون فيلسوفًا، لأنه وضع نفسه موضع الأنبياء.
حدد فولتير أفكاره الأساسية معتبرًا:
- أن الفلسفة هي الأخلاق
- حكمة الصين أخلاقية محضة ويمكن اعتبارها النموذج الأول للحكمة أو الفلسفة
- الفضيلة الأساسية هي التسامح الديني.
إضافة إلى هذه الأفكار ناقش فولتير فكرة وجود إله الكون، خاصة أنه كان ذا نزعة دينية ولكنه لم يكن مرتبطًا بدين محدد، واعتبر أن المبادئ الأخلاقية في المسيحية هي في جوهرها وأساسها نفس المبادئ الأخلاقية الموجودة بسائر الأديان، كما قدّم أدلة على وجود الله في أشعاره وكتاباته فما هي هذه الأدلة؟
أدلة وجود الله عند فولتير
يتساءل فولتير في قاموسه الفلسفي عن فكرة وجود الله، ونجده في حوار بين محاضر في اللاهوت ورجل بسيط يطرح جملة من الأسئلة على لسان المحاضر اللاهوتي الذي يسأل الرجل البسيط: من الذي أخبرك عن وجود الله؟
فيأتي الجواب مباشرة: الطبيعة برمتها.
هنا يعتبر المحاضر اللاهوتي هذه الإجابة بسيطةً وساذجة، إذ يجب أن نسأل عن الله فيما إذا كان مطلقًا أم محددًا ذا جوهر؟ وإن كان في مكان ما أم في كل مكان؟ كيف يخلق الوجود من العدم؟ وكيف يبيد الوجود؟
يجيب فولتير على لسان الرجل البسيط عن هذه التساؤلات مبينًا أن وجود الله أمرٌ مفروغ منه، فالطبيعة تؤكد بكل ما فيها ذلك، نعم الله موجود ولا بد له من أن يكون موجودًا، ونراه يبين أنه من غير الهام التساؤل عن ماهية الله، فالمهم أن وجوده مؤكد.
إذًا كان فولتير يؤمن بالله والدليل الأقوى لديه قوله: إذا وجد شيء منذ الأزل. وأنا موجود، ولست موجودًا بذاتي. فهناك موجود بالذات هو الله.
من ناحية أخرى يقوم فولتير باستخدام دليل العلل الغائية الذي اعتبره نيوتن أكثر العلل قوة ليثبت وجود الله والذي يقول: حين أرى ساعة يدل عقربها على الزمن استنتج أن موجودًا عاقلًا رتب لوالبها لهذه الغاية، وكذلك حين أرى لوالب الجسم الإنساني استنتج أن موجودًا عاقلًا رتب هذه الأعضاء.
ونجده في أحد أشعاره يقول: "إن الكون يحيرني، ولا يسعني أن أعتقد أن توجد هذه الساعة ولا يكون لها صانع" وفي هذا تأكيد واضح على اعتقاده بوجود الله، انطلاقًا من دليل يتعلق بإيمانه بالتجريبية التي طرحها نيوتن وأكدها في علمه.
وهذا ما يؤكد عليه أيضًا في أحد أشعاره عندما يقول إن لم يكن الله موجودًا لاخترعناه، هذا يجعل من وجوده ضرورة لا بد منها.
دور الله في حياتنا
يشير فولتير على لسان الرجل البسيط في الحوار السابق إلى أنه يكفينا أن نعرف أن الله هو من يعطينا فكرة العدالة ولكنه لا يلزمنا فيها على الصعيد الفردي، هذه العدالة التي يجب أن نتبعها في حياتنا لأن عناية الله عناية كلية لا تشمل الجزئيات فـ "الله صانع الساعة لا مخلص الإنسان".
انطلاقًا من هذا يهاجم فولتير انتهاكات الكنيسة باسم الدين، ويبين بوضوح موقفه منها، حتى أنه يطال العهد القديم في انتقاده ويتحدث عن المشاكل الموجودة فيه فيقول: "كم من جرائم ارتكبت باسم الرب! … يا إلهي! لو نزلت بنفسك إلى الأرض، وأمرتني بالإيمان بهذا الخليط من سفك الدماء، والفسق، والقتل، والزنا بالمحارم، وكلها ارتكبت بناءً على أمرك وباسمك، لقلت لك: كلا، إن قداستك لا تريد مني أن أوافق على هذه الأمور الفظيعة التي تهينك، ولا بد أنك تريد امتحاني".
ينطلق فولتير من ذلك ليناقش أكثر فكرة كانت تؤرقه، ألا وهي العنصرية والتطرف اللذان كانا يمارسا في حق الإنسان باسم الدين، فقد كان فولتير يرى أن البشرية تخسر العدالة كل يوم، وأن القائمين على الأديان يدمرون مفهوم الله من خلال ممارساتهم المتطرفة ويقول في ذلك: "يا ليت الناس جميعًا يتذكّرون أنّهم أخوة أو أن يبغضوا الطغيان على النفوس كما يكرهون النهب الذي يَسلبُ بالقوة ثمرة العمل والنشاط الهادئ".
في النتيجة: يحاول فولتير من خلال ما يقدمه أن يبيّن بوضوح كيف دمر الإنسان العدالة، عندما جعل من السلطة الدينية وحتى السياسية أمرًا ينقلنا إلى حقيقة يناقشها في قصته صادق أو القدر ذات الطابع الشرقي، تقول هذه الحقيقة إنه لا يوجد عدلٌ في العالم، فالأخيار يتعذبون والأشرار يسعدون.
لقد كان فولتير إنسانًا متسامحًا، وحاول خلال حياته أن يؤكد في أكثر من موقع موقفه المناهض للتعصب والتطرف، كما عمل خلال حياته على نشر مفاهيم المحبة، وهاجم السلطة الدينية وما تقوم به من ممارسات عنيفة متمثلة بالكنسية في ذلك الوقت، حتى سمي فيلسوف التسامح بحق.
كل هذا قد يجعلنا نفكر بعظمة ما طرحه فولتير وبساطته في الوقت ذاته، فليس المهم أن نعرف ماهية الله، ولا أن نفكر بالوجود فيما إذا كان متبدلًا أو ثابتًا، متحركًا أم ساكنًا… إلخ، وإنما الأكثر أهميةً أن نستدل على وجود الله ببساطةٍ، وأن نعلم بأن وجوده مؤشرٌ لتحقق العدالة، ولكن العدالة لا تتحقق إلا إذا أردنا نحن ذلك، وإذا سعينا لخلق التسامح بديلًا عن العنف والتطرف، وإلا فلا معنى حتى من وجود الله، لأنه سيغدو معطلًا.
المراجع:
- فولتير، قاموس فولتير الفلسفي، ترجمة يوسف نبيل، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2017م.
- فولتير، صادق (القدر)، ترجمة طه حسين، دار العلم للملايين، بيروت، 1982م.
- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار كلمات، مصر، د.ت.
إن أعجبك هذا المقال، فهذا سيعجبك أيضًا: تصرّف كأنك قادر على التغيير: كيف ساهم وليام جيمس والبراغماتية في التأسيس للإرادة الحرة للإنسان؟
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.