مدينةٌ فاضلة أصبحت قاتلة… ماذا تعرف عن تجربة الكون 25؟
5 د
إذا أمعنّا النظر في العالم المُحيط بنا اليوم، سنجده زاخمًا بالمشاكل والأزمات المتفرقة، كثقوبٍ مُنتشرة فوق مِعطفٍ رثّ ومُهترئ، نُحاول رتقَها ثقبًا ثقبًا لأننا لا نمتلك غير ذلك. مشكلة تغيّر المناخ، مشكلة طاقة أو أزمة اقتصادية عالمية تزورنا كل حين. والسؤال الذي يطرح نفسه هُنا، لو استطعنا رتقَ كل تلك الثقوب بالفعل، هل سيصير العالم المدينة الفاضلة التي لطالما حلم بها البشر؟ أم سيتحول الحلم إلى كابوس؟
ولأنّ الفئران كانت دائمًا رفيقَ تجارب الإنسان، ها هو عالم السلوك الحيواني جون كالهون يأخذنا في تجربةٍ اجتماعية جديدة قرر إجراءها على الفئران، وسُميّت بتجربة الكون 25، ويعود ذلك إلى أنها كانت التجربة المتمّمة لـ 24 تجربة قبلها أجراها كالهون ومنحته النتائج ذاتها.
اقرأ أيضًا: يوتوبيا وديستوبيا: عندما يتنبأ الأدب.
روابط اجتماعية تتفكك
في عام 1968، قرر كالهون أن يقومَ بتجربة أخيرة مع رِفاقِه الفئران، لتكون من بعدِها التجربة الأشهر من بينها جميعًا. قام كالهون بجلبِ 8 فئران نصفهم ذكور والنصف الآخر من الإناث. حرِصَ على تمتّعها بصحة جيّدة، ووضعها في قفصٍ مساحته حوالي 7 أمتار مربّعة، موفّرًا لها مصادر غذاء لا تنفد ومتواجدة على مدارِ 24 ساعة.
كما حرِصَ كالهون على أن تكون مدينته الفاضلة تلك منعزلة تمامًا عن أيّ حيواناتٍ شرِسة أو أية أوبئة خطِرة. باختصار، لم يترك كالهون أي فجوةٍ يُمكن للصراع بين الفئران أن يتسلل من خلالِها، أنشأ مدينة مصغّرة من مدينة أفلاطون الفاضلة، وبينما كانت الفئران غارقة في هذا الترف غير المعهود، كان هو يراقب تصرفاتها من بعيد.
بدأ كالهون في تسجيلِ مُلاحظاته يومًا بعد يوم، في الأيام الـ 300 الأولى، كانت الفئران في أقصى درجاتِ السعادة نظرًا للحياة النموذجية التي وجدت أنفسها داخلها فجأة، وبدأت في التكاثر كل 55 يومًا، وهو مُعدّل مُرتفع وِفقًا لمعدلّات تكاثر الفئران في الحياة خارج القفص.
وفي اليوم الـ 315، بدأ كالهون بملاحظة أنّ سلوكَ الفئران أصبح يميل للعُنف بشكلٍ غير مفهوم. وعلى مدارِ الأيام التي تلت، بدأت الفئران في تكوينِ جماعات وأحزاب مختلفة تمامًا كما يفعل البشر، فأصبحت المدينة المثالية منقسمة بين جماعتين، إحداهما قوية مهيمنة والأخرى ضعيفة مستسلمة.
تمرّ الأيام، وتزداد حياة الفئران بين جُدران مدينتها المُترفة غرابةً أكثر فأكثر، حيث أخذت الفئران الضعيفة تلجأ إلى زوايا المدينة تاركة خلفها الإناث لتُغتصب من قِبَل الفئران الأكثر قوة.
ولكن سلوك الإناث لم يخلُ هو الآخر من العُنف والعداء تجاه صغارها، حيث صارت تتجاهل وجودهم ولا تعتني بهم. والمُثير للاشمئزاز أنّ بعض الفئران بدأت في قتلِ أفراد من جماعة الضعفاء، ولم تتوقف الأمور عند هذا الحدّ، بل قررت أكل لحوم بني جنسها رغم وَفرة الغِذاء في كل مكانٍ حولها، لكن القوة كانت الدافع الأكبر، وحلل بعض الخبراء فيما بعد هذا التصرّف أنه بدافع كسرِ الروتين والرتابة التي خيمّت على مدينتهم المثالية.
وعند هذه المرحلة، كتب كالهون: ”لقد انهارت كل الروابط الاجتماعية بين الفئران، وانخفضت معدلات الإنجاب لحدٍّ كبير وأعدادَ الإناث في تناقصٍ مستمرّ نتيجة للقتل أو الانتحار“.
مدينة فاضلة ولكن قاتلة
ولإثارة الحيرة أكثر، هناك مجموعة من الفئران قررت أن تقف في منطقة الحِياد، وألّا تنضمّ لأي حزب وباتت حركتها مقتصرة على جلبِ الطعام والشراب في أثناء نوم بقيّة أفراد المدينة، وهي من أطلق عليها كالهون لقب ”الجميلون“ أو ”اللطفاء“ فهل سيظلون جميلين ولطفاء للأبد؟
نظرًا لتحركاتهم التي باتت محصورة في نِطاقٍ ضيقٍ للغاية، بدأ كولهان في مُلاحظة داء الكسل يُصيب الفئران بشكلٍ عام، وفئة الجميلين بشكلٍ خاصّ. فما الذي سيدفعك لبذلِ أي جُهدٍ أو أن تكلّف نفسك عناء البحثِ والموارد التي تحتاجها متوفّرة بكميات مهولة في كل ركنٍ من حولك؟ ما عليكَ سِوى أن تمدّ يدك لتلتقطها فقط.
ومع حلولِ اليوم 560، أي بعد حوالي عام ونصف من بداية التجربة، وصل عدد الفئران إلى 2200 فأر، ولكنها كانت في نُقصانٍ متواصل، وارتفع مُعدّل وفيّات الرضّع إلى 96%. ومن بعدِها، بدأ كالهون في هذه المرحلة مُلاحظة ظهور الأمراض وانتشارها بين الفئران، على الرَغمِ من تأكدّه من سلامة الفئران الأربعة التي بدأ بها التجربة وخلوّها من أي مرض.
ونعود أدراجنا لمجموعة ”الجميلون“ الذين قرروا التزام منطقة الحِياد، لاحظ كالهون أن بعضَ السلوكيات الغريبة قد طرأت عليهم، وإذ بالمثلية الجنسيّة آخذة في التفشّي بينهم. وبهذا، طفقت المدينة المثالية تقودُ سكانها نحوَ الهاوية رويدًا رويدًا إلى أن يلتقوا بالسقوطِ ومن ثَمّ الارتطام.
هاجس المدينة الفاضلة يدحضه كالهون
وبعد مرورِ خمسة أعوام كاملة، وُلد آخر فأر في مدينة كالهون المثالية، وعلى نهجِ آبائه، كان متوحشًا وعدائيًا حتى أنه استطاع التفوق عليهم في شراستِه وقتل كل المتبقيين في القفص، ليبقى وحيدًا برِفقة شراستِه حتى تقضي عليه وحدته.
وكان أحد الأمور الذي حظيَ بنقاشٍ واسع ومُطوّل؛ هل يُمكن أن يعاني البشر من نفسِ المشاكل الاجتماعية التي سيطرت على الفئران إذا تمّ وضعهم في نفسِ الظروف؟ ومن هُنا، انطلق علماء النفس وخبراء علم الاجتماع في محاولات عدّة لإسقاط تجربة كالهون على البشر، فقام عالم النفس ”جوناثون فريدمان“ بإجراء سلسلةٍ من التجارب على طلاب المدارس والجامعات.
ولكن لاقت تجربة فريدمان تلك نقدًا شاسعًا لأنه استطاع من خلالِها ضبط عامل واحد من العامليْن اللذين قامت عليهما تجربة كالهون، ألا وهو عامل الكثافة السكانية، متغافلًا عن العامل الآخر والأقوى وهو محاولة خلق مدينة فاضلة.
وبهذا، تظلّ تجربة كالهون باقية لتدحض هاجس المدينة الفاضلة الذي لطالما سيطر على البشر، وحُلم اليوتوبيا الذي تمّ تناوله في العديد من الأعمال الروائية والدراميّة. فضلًا عن أنه حُلم غير قابل للتنفيذ، وإن تمّ بالفعل واستطاعت البشرية تنفيذه على فئة صغيرة من الأفراد، فعلى الأغلب، سينتهي بهم الحال مثل فئران كالهون ومدينتهم الفاضلة أو ربما أسوأ!
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.