هيغل وجدلية السيد والعبد: عندما تطعن الفلسفة في تسلط الإنسان
8 د
سؤال العلاقة بين الأنا والآخر سؤال أزلي، دفع الكثير من الفلاسفة لبناء نظريات متنوعة ومتعددة حاولت تفسير طبيعة هذه العلاقة وفق ظروف مختلفة. وقد مثلت جدلية السيد والعبد عند هيغل ومفهومه عن الوعي نموذجاً هاماً في فهم مستويات العلاقة بين الأنا والآخر ودورها في عملية الوعي ذاتها، فما هي هذه الجدلية؟
من هو السيد؟ ومن هو العبد؟
كيف تتجلى العلاقة بينهما في الوعي؟
ما هي إيجابيات وسلبيات هذه العلاقة؟
هل هناك دور للآخر في نشوء وعينا؟ وإن كان كذلك، ما هو هذا الدور؟
هل من الممكن أن تنشأ علاقة تشاركية بين السيد والعبد؟ أم أنها علاقة تدميرية يفني فيها أحدهما الآخر؟
للإجابة عن كل التساؤلات السابقة لا بد لنا في البداية من تسليط الضوء على تطور الوعي في فلسفة هيغل. يبين الفيلسوف الألماني هيغل في مؤلفه (فينومينولوجيا الروح) أن الروح في المرحلة الأولى من الوعي تكون ذاتاً فردية تحتوي بداخلها على وجوده كله: جميع إحساساته، وانطباعاته ومشاعره، على نحو ذاتي خالص؛ فلا يوجد أمام الذات عالم من الموضوعات أو الأشياء الخارجية.
وهذا يجعل من الفردية مرحلة أولية لدى هيغل ويشبّه الحالة بالمولود الجديد الذي لم يكتمل عوده وكذلك الذات التي لم تكتمل لديها المفاهيم الكلية.
تليها المرحلة الثانية والتي تصبح فيها الروح قادرة على الوعي وتظهر العلاقة بين الذات والموضوع، وهذا طبعاً يؤدي لمستوى جديد تبدأ فيه علاقة الذات مع الآخر، ويتحول الموضوع كما يسميه هيغل إلى (الـ هنا) فهو يقول:
الـ هنا هو على سبيل المثال الشجرة، فإذا تلفت زالت هذه الحقيقة، وانقلبت إلى الحقيقة المضادة: الـ هنا ليس الشجرة، بل هو بالأحرى بيت. أما إلـ هنا نفسه فلا يزول؛ بل هو باقٍ في زوال الشجرة والبيت وما إليه.
وهذا دليل واضح على اعتبار هيغل بأن ما يتغير هي تلك الموضوعات الماثلة أمام الوعي ولكنها مع ذلك تبقى موضوعاته؛ فهي الـ هنا. الوعي عند هيغل في هذه المرحلة لا يضمن وجوده المستقل في التجربة، لأن هناك موضوعات جديدة دائماً أمامه.
وتبدو هذه الفكرة في أحد أشكالها من خلال جدليته المشهورة (السيد والعبد). والتي مثلت جوهر حديثه عن مرحلة الوعي الذاتي في محاولة منه لبناء نموذج هذه العلاقة. إذ تؤلف هذه الجدلية مناقشة هيغل للوعي الذاتي بهدف تحقيق المعرفة المطلقة، إذ تظهر في هذه المرحلة الذات في مقابل الذوات الأخرى.
هيغل ونظام السيادة والعبودية
في اللحظة التي تصبح فيها الذات مضطرة للاعتراف بوجود الذوات الأخرى، يبين هيغل أن الضرورة تفرض تفوق إحدى الذوات على الأخرى. وتظهر هذه النتيجة تاريخياً في نظام الرق والعبودية. حيث نجد السيد هو وحده صاحب الوجود المستقل بينما يهبط العبد إلى مستوى الشيء. هذا النظام الذي ظهر بصور متعددة عبر التاريخ وما زال حتى يومنا هذا. سواء في نمط العلاقات العبودية المألوفة لنا في القصص القديمة أو في النظام الإقطاعي أو الرأسمالي. وحتى في عصر الحريات المفترضة، وعلى مستوى العلاقات الشخصية والخاصة.
إذاً تبلغ إحدى الذوات نظام السيادة وتتحكم وتتجبر، وتبقى الذات الأخرى ضعيفة ومسَيطر عليها جاهلة بما ينتظرها. ومن هذه اللامساواة تنبثق البدايات الأولى لنظام الحياة الاجتماعية للإنسان، فهي تعتمد على القوة، والبقاء فيها للأقوى والأكثر سيطرة.
اقرأ أيضًا: بعد تويتة عمرو سلامة الأخيرة.. هل الفلسفة إهدار للوقت حقًا؟
وعليه يفرض نظام السيادة والعبودية حسب هيغل أن يمارس السيد حقة في السيطرة الكلية والكاملة على العبد، فيفقد بذلك العبد وعيه الذاتي، ويتحول لشيء يستمتع به السيد، ويستطيع أن يفعل ما يريد. كل ذلك بهدف تدميره، كسبيل لتحقيق استقلاليته، كما تتعايش الديدان الطفيلية على ما يمتلكه مضيفها. ولذلك يذكر هيغل الطعام كمثال على عملية التدمير أو إلغاء موضوعات التجربة واستقلاليتها؛ فالطعام قبل أن أقوم بتناوله هو موضوع مستقل موجود في مكان ما. ولكنني عندما أرغب فيه وأتناوله فإنني أخضعه للتدمير وأسلب استقلاليته.
هنا وفي هذه المرحلة تماماً تبدأ جدلية السيد والعبد بالتبلور لدى هيغل من خلال طبيعة العلاقة التي تجمع بينهما، والتي تبدو في هذه المرحلة مبينة على أساس صراع ينشأ بين فصيلين في نفس البيئة: الذات (السيد) التي تحاول أن تحقق استقلالها من خلال تدمير استقلال الموضوعات، والأخرى (العبيد) أو من تتم السيطرة عليهم.
طبيعة العلاقة بين السيد والعبد
يكتشف السيد نتيجة لكل ما سبق، أن استقلاليته تعتمد كلياً على تدمير استقلالية العبد، وهنا تكمن الإشكالية. إذ أن الذات إن استطاعت تدمير الموضوعات المختلفة عنها، سيكون الأمر صعباً مع الذوات الأخرى. لأن كل ذات تعتبر أنها تستحق الاستقلال وترغب بتدمير الموضوعات الأخرى. وبالتالي تحاول كل منها أن تدمر الأخرى حتى تحتفظ لنفسها بالشعور بأنها الحقيقة الواقعية كلها، ويؤدي ذلك إلى صراع بين الموت والحياة.
هنا تجد الذات الحل المناسب لتدمير استقلالية الذات الأخرى من خلال جعلها تعتمد عليها بالكامل؛ فتلغى استقلاليتها من خلال تبعيتها الكلية لها. بمعنى أن السيد يعتمد كلياً في هذه المرحلة على العبد لتلبية كافة متطلباته، ويسخره في خدمته بأدق التفاصيل. كتحضير الطعام واللباس والعمل في الحقول أو البيوت، إلخ.
ولكن السيد لا يلبث يبدأ بخسارة وجوده المستقل على حد تعبير هيغل هنا:
فالرئيس هو الوعي الكائن لذاته. لكنه ما عاد يمثل مجرد المفهوم لعين الوعي، بل أضحى وعياً كائناً لذاته يتوسط صلته بذاته وعيٌ مغاير.
وهنا تبدأ العلاقة بين السيد والعبد (الرئيس والخادم) في الظهور بمظهر جديد فمن خلاله الوعي الذاتي يحقق الرضا في وعي ذاتي آخر. ويقول هيغل في ذلك:
الوعي –بالذات إنما لا يبلغ راحته إلا في وعي– بالذات مغاير.
وفي هذه المرحلة لا ترى الذات الموضوع غريباً عنها كما في المرحلة الأولى. إنما يبدو الوعي هو وعياً بالذات أو هو الوعي الذاتي.
كل ما سبق يؤسس للوعي الكلي والذي يؤدي لنتيجتين يحددهما هيغل وفق الآتي:
- الأولى هي في أن السيد لكي يحقق استقلاله كوعي ذاتي فإنه يعتمد اعتماداً كلياً على العبد وهذا يؤدي لتناقض كبير. لأنه لا يصبح مستقلاً إلا عن طريق إلغاء استقلال الذات الأخرى فحسب. ولهذا فإن هذا الاستقلال يناقض نفسه، ويتحول إلى اعتماد على الآخر. وهذا الكلام يعني أن السيد وأثناء محاولته لتغييب وجود الآخر ونبذ استقلاليته وإلغائها، فإنه يحول الآخر إلى تركيبة تلبي كل متطلباته. وهذا يجعله مع الوقت مضطراً للاعتماد عليه بشكل كلي وكامل، وهذا ما يفضي إلى النتيجة الثانية، فهذان الوعيان -بالذات- يمتحنان نفسيهما، فيمتحن كل منهما الآخر، عبر الصراع من أجل الحياة والموت.
- تشير النتيجة الثانية إلى أن العبد عندما يصبح مسؤولاً عن تلبية متطلبات السيد كلها، فإنه يطور وعيه تدريجياً ليصل إلى استقلاليته ووعيه الذاتي. فـ (العبد) عن طريق العمل والشغل يصل إلى الاستقلال، أي إلى الوعي الذاتي. وهنا تماماً يضطر السيد للاعتراف بالعبد بهدف الإبقاء على استقلاليته، إذ تنعكس الذات في الآخر والآخر ينعكس في الذات، وهذا يتطلب الاعتراف بالآخر لإنجازه. وعندما يضطر السيد في هذه المرحلة للاعتراف باستقلالية العبد فإنه بذلك يقبله وعياً ذاتياً آخر، والعبد أيضاً يعرف نفسه على أنه وعي ذاتي. فالذات والآخر وبشكل دائم يوجدان في علاقة الاستقلالية، الرغبة، والسيطرة. والتي تكتسب معناها من خلال الاعتراف.
اقرأ أيضًا: عزاءات الفلسفة: كيف تُساعدنا الفلسفة في الحياة؟
هنا تماماً يعترف كل منهما بالآخر وتتحول العلاقة من كونها سيطرة لأحد الطرفين على الآخر إلى اعتراف حقيقي. فالذات هنا تعترف بالذوات الأخرى بوصفها وجوداً واعياً ذاتياً، وهذا طبعاً يؤسس لما يسميه هيغل العقل. وهو بالنسبة إليه موقف يحدد طبيعة العلاقة بين الذوات. إذ تصبح الذات الأخرى موضوعاً بالنسبة إلى الذات، ولكن هذا الموضوع من ناحية أخرى مستقل لأنه وعي ذاتي. والعقل يجمع بين هذين الموقفين المجردين في مركب واحد، فالموضوع الآن متمايز عن الذات ومتحد معها في وقت واحد، إنه الهوية في التباين.
وعندما تصل الروح إلى مرحلة الروح الموضوعي تكون بذلك قد تخلصت من ذاتيتها واستطاعت أن توجد نفسها في العالم الخارجي وتظهر الروح الموضوعي حسب هيغل في التنظيمات الاجتماعية كافة، وهنا تكمن النقطة التي تعرض هيغل من خلالها للانتقاد. فهو لا يعني بعالم الخارج عالم الطبيعة، وإنما يعني العالم الذي تخلقه الروح لذاتها لكي تصبح موضوعية، أعني لكي توجد وتؤثر في العالم الفعلي.
كل ما سبق يشير إلى أن هيغل حقق نقلة نوعية وجريئة في مجال الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بطبيعة العلاقة مع الآخر. وأن جدلية السيد والعبد ساهمت وبشكل واضح في توضيح حقيقة أن الذات يمكنها الحصول على استقلالها. فيما إذا استطاعت أن تؤسس للاعتراف بالآخر عبر علاقة تمر بمرحلة صراع يحاول فيها الأقوى أن يسيطر ويلغي استقلال الأضعف (العبد)، ولكنه يبدأ بفقدان قدرته على امتلاك الوعي الذاتي لوحده عندما يزداد اعتماده واتكاله على العبد. وهذا طبعاً يحرر العبد ويجعله واعياً بذاته لأنه امتلك الفكر.
خلاصة جدلية هيغل الشهيرة
هنا تماماً يبدو لنا أن هيغل استطاع أن يؤسس لإمكانية حصول الإنسان على حريته من خلال صقل معارفة وسعيه لتطوير ذاته، وهذا يحول حالة الصراع المفترضة، إلى حالة قبول للآخر واعتراف به.
لقد حاول هيغل أن يبين طبيعة العلاقة بين الذوات المختلفة من خلال مراحل متعددة، مستخدماً حدثاً تاريخياً هاماً، وهو سيطرة الرق التي جعلت من الأقوى سيداً ومن الأضعف عبداً. ولكن هذه الحالة لم تكن دائمة لأن العبد استطاع أن يتحرر ويصل لوعيه الذاتي عبر مراحل تطوره. وعندها تحول من مجرد تابع، إلى ذات أخرى مقابلة قادرة على استكشاف ذاتها والذات الأخرى المقابلة لها.
ولكن رغم أن هيغل استطاع أن يبني نظرية هامة جداً في الفلسفة إلا أنه لم يستطع أن يؤسس لتعينات هذه النظرية وتموضعها في العالم المعاش. وبالرغم من ذلك فإن ما كتبه هيغل يجعلنا نتساءل: أليس صراع القوى عبر التاريخ موجوداً؟ هل يمكننا الموافقة مع هيغل بأن عبودية الإنسان جعلته أقوى؟ هل تبرر هذه النظرية طبيعة العلاقات الاجتماعية عبر التاريخ؟
في النهاية يمكننا القول: إن العبد يستطيع أن يتحرر لأنه أصبح أكثر قدرة وقوة من السيد. فقد امتلك كافة الأدوات اللازمة وأصبح واعياً مستقلاً قادراً على تلبية كافة الاحتياجات. وهذا في مقابل ضعف السيد لأنه اعتاد الكسل وعدم الفعل. وفي هذا قوة تعطي للإنسان القدرة حتى في أقسى أوقاته، هو قادر إن أراد، ويستطيع تجاوز الأصعب إن كان وعيه غنياً.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.