أغوتا كريستوف والكتابة بالدم في ثلاثية مدينة ك (وحوار مع المترجم محمد آيت حنّا)
8 د
يقول نيتشه: “إنني أستعرض جميع ما كُتب، فلا تميل نفسي إلا لما كتبه الإنسان بقطرات دمه”. وهذه الجملة تنطبق بشكل كامل على الكاتبة المجرية أغوتا كريستوف (1935-2011) التي كتبت أعمالها من واقع تجربتها التي مرَّت بها؛ سطَّرت حزنها الذاتي وما فقدته من حياة وعائلة بين دفتي الأوراق بعد اضطرارها وأسرتها ترك المجر وانتقالها للعيش في سويسرا؛ حيث لغة جديدة ومجتمع جديد وظروف عمل قاسية؛ فقد هاجرت هي وزوجها وطفلتها عندما كان عمرها حوالي 21 عامًا فقط، وذلك هروبًا من النظام السوفييتي بعد بعض الأعمال والمواقف الثورية التي قامت بها المقاومة المجرية ضد النظام السوفييتي.. وهذه قراءة سريعة في عمل أغوتا كريستوف الأدبي “ثلاثية مدينة ك”، ملحق بحوار قصير أجرته مجلة أراجيك مع المترجم “محمد آيت حنا”.
الأميّة: مذكرات أغوتا كريستوف
يعتبر كتاب الأمية، الصادر عن منشورات الجمل 2015 بترجمة من المترجم القدير محمد آيت حنّا، سيرة مصغّرة لحياة أغوتا، فهي تحكي فيه مواقف سريعة أثّرت في تكوينها، والأهم والذي سيدركه قارئ أغوتا أن الكتاب يفسِّر كثيرًا من التفاصيل التي وضعتها أغوتا في أعمالها؛ مثل تأثير الحرب، التدريبات التي كانت تقوم بها هي وأخيها اللذين اندمجا ككل واحد، وتعلم القراءة الكتابة، الهجرة من بلد لآخر ومن لغة لأخرى، المدرسة التي نشأت بها، الاحتلال الروسي للمجر ومحاولة التغيير الثقافي الكبير للبلدة، أو باختصار الأحداث والمكونات التي أثّرت بداخل أغوتا لدرجة أنها ظهرت في أعمالها.
تعلّمت أغوتا كريستوف القراءة في الرابعة من عمرها، كانت بداية الحرب العالمية الثانية تقريبًا، اعتادت على قراءة كل شيء أمامها، كان ذلك بمساعدة والدها، الذي كان المعلم الوحيد في البلدة التي يسكنون بها. ثم التحقت بمدرسة داخلية، وبعدما تخرجت منها تزوجت المعلم الخاص بها وبعد عامين انطلقا مهاجرين نحو النمسا ومنها إلى سويسرا هربًا من النظام السياسي في بلدهم. اضطرت أغوتا لتعلُّم الفرنسية لتستطيع الاندماج وسط المجتمع الجديد التي تعيش فيه، فأحسَّت بعد تلك السنين أنها أميّة تتعلم في الكبر. ولكنها لم تتوقَّف وتعلّمت الفرنسية، فكما قالت في مذكراتها إنها لم تكن تسير دون قواميس اللغة، تتعلم أكثر وتقرأ أكثر، لتكتب.
الدفتر الكبير رواية للكاتبة أغوتا كريستوف: هذا لا يؤلم أبدًا!
Posted by AraGeek – أراجيك on Saturday, June 20, 2020
وقد بدأت أغوتا كريستوف الكتابة مبكرًا في المجر ونشرت بعض القصائد ولكن بعد الهجرة ذهب كل ذلك هباءً، أما في سويسرا، راودها الحلم مرة أخرى، فبدأت بكتابة المسرحيات للهواة، ثم تطور الأمر بكتابة المسرحيات للراديو السويسري، وبعد نجاحها بدأت في كتابة مسرحيات تعليمية للأطفال بالمسرح الثقافي بمدينة نيوشاتل.
وبعد سنوات كانت قد انتهت من روايتها الأولى الدفتر الكبير، وبدأت معها رحلة البحث عن ناشر لها، قبلت بها دار نشر سوى في باريس؛ حيث قال لها مسؤول النشر بالدار إنه لم يقرأ نصًّا جميلًا مثل روايتها منذ فترة. ونُشرت روايتها الأولى التي تُرجمت للعديد من اللغات في مدى زمني قصير.
ثلاثية مدينة ك للمجرية أغوتا كريستوف
واصلت أغوتا كريستوف الكتابة لتكمل ثلاثية مدينة ك: الدفتر الكبير، البرهان، الكذبة الثالثة. ثم نشرت كتابها الأمية، ونصوصًا كان عنوانها سيّان، جميعها نُشر مترجمًا إلى العربية عدا سيّان ما زال تحت النشر. ثم توقفت عن النشر من بعدها، قالت إنها كانت تعمل على عمل ما ولكنه لم يكتمل منذ سنين، آخر ما نشرته كان عام 2004 ولم يصدر عنها أي عمل آخر.
أولًا: الدفتر الكبير
الجزء الأول من الثلاثية جاء بعنوان الدفتر الكبير؛ وتحكي الرواية عن طفلين تركتهما أمهما مع جدتهما بسبب آثار الحرب العالمية الثانية على بلدتها. يعيش القارئ معهما اكتشافهما للحياة واللغة والطبيعة من حولهما. تتميز الرواية بسرعة شديدة في الأحداث، لا تتوقف تقريبًا، تعتمد الرواية بشكل أساسي على الجمل القصيرة التي تساعد على القراءة بسرعة. تظهر بشدة فيها آثار الحرب على الأطفال والنضج المبكر لهما نتيجة ما يمر بهما، تغرق تلك الآثار الرواية بالحزن الخفي في الخلفية، فتشعر به دون أن يكون الحديث مباشرًا عنه.
قد يلفت انتباهك عدم ذكر اسم أي شخصية ولا اسم البلد ولا اللغة، في الجزء الأول فقط، تجعلك الكاتبة أغوتا كريستوف تشعر بما تفعله الحرب؛ مما يجردك من أي انحيازات، أنت فقط بحاجة لمعرفة أنهما طفلين مع جدة سيئة الطباع ويكتشفان العالم، كيف سيكون العالم من وجهة نظرهما؟ هذا ما نتركه للرواية.
نرشح لك قراءة: الدفتر الكبير رواية للكاتبة أغوتا كريستوف: هذا لا يؤلم أبدًا!
ثانيًا: البرهان
رواية البرهان في الجزء الثاني من ثلاثية مدينة ك، في هذا الجزء تظهر خيوط الحكاية ويتكشَّف غموضها، الأسماء تظهر، التفاصيل الجغرافية للمدينة تظهر، ونبدأ مع التوأمين مسارًا آخر لكل منهما يختلف عن مسار الجزء الأول. ذكر المترجم، الأستاذ محمد آيت حنّا، في المقدمة أن الثلاثية لم تكن في البداية مقدَّر لها أن تكون. فقد كانت الفكرة كتابة الدفتر الكبير فقط، ولكن نجاح الرواية الباهر هو ما جعل الكاتبة تفكِّر وتكتب الجزء الثاني منها.
تبدأ من اللحظة التالية على السطر الأخير في الجزء الأول، ونتعرف على اسم البطلين الصغيرين اللذين بدءا بالنضج. من اللحظة الأولى ستعرف أنهما قررا أن يُدخِلان نفسيهما في تحدٍ جديد مثلما كانا يفعلان بنفسيهما في الجزء الأول، ولكن الفراق سيكون التحدي أو المصير بين التوأمين هذه المرة. كل منهما سيقرر الذهاب في اتجاه مختلف. وستأخذنا الرواية في اتجاه وحكاية واحد منهما حتى الصفحات الأخيرة التي ندخل فجأة بها مسارًا جديدًا مفاجئًا.
أهم ما في هذا الجزء هو التطور، بداية من تمكُّن الكاتبة من الفرنسية؛ فتبدأ اللغة مساعدتها في أن تعبر عن ما وراء الأحداث من مشاعر وعواطف وأفكار وتساؤلات، وليس فقط سرد للأحداث. الميزة الأخرى هو الهدوء النسبي في الأحداث، فنتحرك مع الشخصية الرئيسية والشخصيات الثانوية بهدوء ونتنقل تنقلات أقل سرعة من الجزء الأول؛ مما وفَّر مساحة للحكي أكثر عن تفاصيل ومشاعر وأمور سياسية ونفسية واجتماعية أثرت في طبيعة وتكوينات الشخصيات. فالبلدة ستبدأ مرحلة ما بعد الحرب وكيف سيؤثر ذلك على الأحداث؛ ولكن في الخلفية وليس بشكل صريح، كما اعتادت.
ثالثًا: الكذبة الثالثة
وكالعادة، يأتي الجزء الأخير من الثلاثية بصدمة جديدة في بدايته وتغير كامل للأحداث التي بدأت في الجزء الأول والتي اختلف في الجزء الثاني؛ تعتمد رواية الكذبة الثالثة على لعبة نفسية، مكتوبة بشكل مختلف حقيقة وغير مسبوق، طوال الوقت تسير بك الأحداث لمصير ما ثم فجأة تكشف أن ما حدث مختلف تمامًا، وذلك بشكل صادم ومثير.
ما يميز هذا الجزء أنه يمكن قرائته منفردًا، لكن لإدراك اللعبة التي حدثت به تحتاج لقراءة جزأي الثلاثية الأول والثاني. فالكذبة الثالثة هي قمّة ما أنتجت أغوتا من أدب متكامل؛ لغةً ومشاعر وحكاية وحوارات وإعادة تدوير للحكاية بثوب جديد ومختلف.
تمت ترجمة هذا الجزء مبكرًا عن الثلاثية، فهو من ترجمة الأستاذ الراحل بسَّام حجّار، مما يدعِّم قولنا بإمكانية قراءة النص بشكلٍ منفرد.
نقل أغوتا كريستوف للقراء العرب:
وقعت عملية نقل أغوتا كريستوف إلى اللغة العربية على أكتاف اثنين من أشهر المترجمين العرب؛ الراحل بسَّام حجَّار ومحمد آيت حنا. وقد أجرينا مع الأستاذ محمد آيت حنا حوارًا بسيطًا ننقله هنا:
بسؤال المترجم القدير محمد آيت حنا عن تعرفه على الكاتبة أغوتا كريستوف للمرة الأول قال لمجلة أراجيك العربية: “تعرفت على الكاتبة في مرحلة الثانوي. قرأت لها الدفتر الكبير، وكانت قراءاتي الفرنسية آنذاك تكاد تنحصر في أعمال كلاسيكية وروايات بوليسية. كان للنصّ إذًا مفعول مزلزل. عمل مختلف تمامًا عمّا ألفته. سنوات بعد ذلك وأقرأ رواية أمس بترجمة بسَّام حجّار، وأستعيد معها ذكرى المؤلفة وأنخرط في ترجمتها”.
وعند سؤاله عن رد الفعل الإيجابي الذي أحدثته أعمال أغوتا كريستوف قال: “لقد راهنت على أن يثير الدفتر الكبير الانتباه إلى المؤلفة، وينبّه القرّاء إلى أعمالها المترجمة من قبل. لكنّني لم أتوقع أن يصير لها قرّاء معجبون. أظنّ أنّني كسبت الرّهان، وهذا مبعث سعادة كبيرة. مدينٌ أنا لأغوتا، ومدينون نحن معًا للقراء”.
للكاتبة عمل غير مترجم حتى الآن اسمه “سيَّان”، والأعمال المسرحية للكاتبة كذلك، وقد أخبرنا محمد آيت حنا بقرب موعد صدور ترجمته للعربية فقال: “لقد ترجمتُ سيّان بالفعل منذ مدّة، وصار جاهزًا للطبع. وما تبقى موكول للناشر، أظنّه سيظهر قريبًا جدًا. أما الأعمال المسرحية، فأتمنى أن تتاح لي فرصة ترجمتها كاملة، هي أيضًا جزء لا يتجزّأ من متن أغوتا كريستوف، وتستحق الترجمة”.
يقول البعض إن التعريف بأغوتا ونقلها للعربية كان متأخرًا، ربما السبب لقلة المترجمين الأدبيين عن الفرنسية مثلًا، فكان رأيه: “لم يتأخر بالمعنى الفعلي للكلمة. لكن أظنّ لو أن النّص الأوّل الذي نُقل إلى العربية كان هو الدفتر الكبير لاختلف استقبال القراء للمؤلفة. أما عدد المترجمين عن الفرنسية فلا بأس به، ومعظمهم جيّدون، والاهتمام بالأدب الفرنسي، حديثه وقديمه، ما ينفك يتعاظم”.
وعن الراحل بسَّام حجَّار، فقال موجهًا رسالة له: “شكرًا لأنّك منحت الترجمة بعدًا حميميًا غير مسبوق، وشكرًا على كمّ الأعمال التي اكتشفناها معك”.
وأما عن مشاريعه القادمة فأضاف: “هناك مشاريع كثيرة إما جاهزة عند الناشرين وتنتظر أن يُفرج عنها، مثل “سيّان” و”أعمال شعرية كلاسيكية”، أو على وشك أن تظهر مثل ترجمة كاملة “للكونت مونتي كريستو” ورواية “شرطة الذاكرة” لأوغاوا.. ها طريقي تتقاطع مرّة أخرى مع فقيدنا بسَّام حجَّار.
التوقُّف الأبدي
قالت أغوتا كريستوف في حوراتها الأخيرة إنها توقفت عن الكتابة لأنه ليس ثمة ما عندها لتقدمه، وأنها ما عادت تجد سعادتها في الكتابة كما كانت. كانت تنتمي للفلسفة العدمية كما تقول، تزهد في الحياة وتجد رضاها في أبسط الأشياء، تزوجت مرتين وفشلت في إيجاد الحب، أصيبت في قدمها وأصبحت لا تستطيع المشي بشكل جيد ومتواصل في آخر حياتها. كانت تعيش لمجرد أنها تعيش فقط؛ لأن الموت طويل لآخر الدنيا، أما الحياة فيجب أن يعيشها المرء لأنها قصيرة.
توفيت أغوتا كريستوف في السابع والعشرين من يوليو عام 2011، وتركت خلفها إرثًا أدبيًا ثمينًا؛ ليس فقط في جودته وأهميته، وإنما لأنه تقريبًا عصارة عقلها، فقد وضعت أغوتا أفكارها ومشاعرها وحياتها في كتبها، ثم توقفت عن الكتابة، وبعد حوالي سبع سنوات توقفت حياتها بأكملها.
اقرأ أيضًا للكاتب محمد الوكيل:
- ما بين الشعبي والنخبوي: اختيارات المثقفين تحدد أرضيّة مشروعهم الفكري
- نظرة على المجتمع المصري في أدب نجيب محفوظ: التفاوت الطبقي نموذجًا!
- روايات توثق جرائم الرق وقصص العبودية والاضطهاد لأصحاب البشرة السمراء
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.