إضاءات على أبرز الطرز المعمارية عبر التاريخ
10 د
في الحقيقة أول ما استقر الإنسان بالكهوف والمغارات، وبعد ممارسته الزراعة بدأ ببناء أشكال بسيطة من الأكواخ مكوناتها الخشب والطين، كما استخدم جلود الحيوانات لإنشاء الخيام واتخاذها مأوى له، فيما بعد بدأت تتطور هذه الأشكال من الأكواخ إلى بيوت أكثر ملائمة وتطويعًا لخدمة الإنسان. كان للمعتقدات الدينية وطقوس العبادات دور كبير في تطور الشكل المعماري للإنسان القديم، حيث تطلب منه إنشاء المعابد والأبنية وتجميلها بأشكال فنية، وتعتبر التكوينات الحجرية لدور العبادة هي الشكل الأول للعمارة المنظمة.
تعد عمارة العصر الحجري الحديث بالرغم من بساطة تكويناتها، هي ما مهد للتطور المعماري في العصور اللاحقة، منتقلة من عمارة المستوطنات إلى عمارة المدن.
تعتبر أقدم المباني المبنية من الطين المجفف والخشب والمغطاة بالأغصان والفروع هي التي اكتشفت في المريبط في سوريا، وتعود لعشرة آلاف عام أي للعصر الحجري الوسيط، وهي عبارة عن جدران طينية مدعمة ومشذبة ومزينة بالألوان والأشكال الهندسية، واستمر الإنسان ببناء المباني الطينية حتى الألف الرابع قبل الميلاد. فيما بعد بدأت تظهر العمارة الحجرية بصورة واسعة خاصةً في وادي النيل أي مصر القديمة، على شكل أهرامات ومعابد، أما في بلاد الرافدين فقد ظهرت عمارة مبنية بالطين المجفف والآجر بشكل راقي، وفيما بعد توسعت مجالات وأشكال العمارة وازدهرت وتطورت بحسب كل حضارة، فلم يعد بالإمكان النظر للعمارة كونها حالة وظيفية إنما أصبحت رمز للفن والإبداع.
إضاءات على عدد من الطرز المعمارية لحضارات مختلفة امتدت في منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط:
العمارة في بلاد ما بين الرافدين
تميزت العمارة في منطقة ما بين النهرين باعتمادها على الطوب المشوي والآجر، كما أنها تمتاز بأن أغلب منشآتها قد تم بناؤها على تلال اصطناعية، وذلك لتحميها من الفيضانات والسيول، وازدهر في حضارة ما بين النهرين بناء السدود، والجسور وقنوات تصريف المياه، لقد اعتمدت في طرازها المعماري على العقود والأقواس والقبب التي كانت تبنى من الآجر، ويعتبر سكان ما بين النهرين أول من ابتكر هذا الطراز ومنهم استوحته الحضارات اللاحقة.
تميزت عمارة القصور والبيوت بأن لها فناء مركزي أساسي، ومتسع تفتح عليه جميع الغرف، أما الغرف صغيرة وطولانية ومغطاة بالعقود. بالنسبة للمعابد الدينية فقد كانت مشابهة للمنازل العادية، فهي عبارة عن فناء محاط بغرف للكهنة، متصل بفناء آخر تحيط به غرف الخزائن وفيه الهدايا المقدمة للآلهة، ثم غرف الصلاة والحرم وفيه سرير ومائدة وتمثال للآلهة.
أما الزيقورة فهي معبد بُني على شكل مدرجات ينتهي بالأعلى بالحرم. تنوعت الزيقورات بحسب كل حضارة نشأت في منطقة ما بين النهرين سواء كانت الحضارة سومرية أو آشورية أو كلدانية.
العمارة المصرية
لمصر فن معماري خاص بها، فصفة الديمومة التي اتصفت بها العمارة المصرية جعلتها أطول حضارة عرفها التاريخ، لقد امتازت العمارة المصرية باعتمادها على التكوينات الحجرية لبناء الطرز المعمارية، فقد بنى المصريون الأهرامات وهي قبور مخصصة للفراعنة الملوك، ومن أشهرها هرم خوفو وهو أكبرها يقع في الجيزة قرب القاهرة، وهو عبارة عن بناء هندسي مبسط في داخله سراديب صاعدة وهابطة تؤدي بعضها لغرفة اللحد، يبلغ طول ضلع قاعد الهرم 230 متر، أما ارتفاعه فقد يصل إلى 147 متر، وكان مكسوًا بغلاف من الرخام، ويعتبر تمثال أبو الهول تابع لهرم خوفو.
أما هرم خفرع فيقع بجانب هرم خوفو، وفيه تابوت الفرعون خفرع وأقل ارتفاعًا من خوفو، يصل ارتفاعه إلى 143 مترًا، وعرض القاعدة 136 مترًا، وله مدخلان في الجهة الشمالية، أما هرم منكاورع فارتفاعه 65.5 مترًا وعرض قاعدته 108.5 متر، والتي تعتبر من أعظم المعجزات المعمارية على مر التاريخ.
كما بنوا المعابد ذات الأعمدة الهائلة، ومن أهمها معبد الدير البحري (الملكة حتشبسوت)، ومعبد أبو سنبل الكبير، ومعبد أبو سنبل الصغير وهو مخصص للملكة نفرتاري، وزينت واجهة هذا المعبد بستة تماثيل واقفة لرمسيس وزوجته وهما يحملان القربان ويحرقان البخور.
أما بالنسبة للعمارة العسكرية فلم يبقَ منها الكثير، فقط في النوبة يوجد بعض القلاع التي تعود لفترة الإمبراطورية الوسطى، وأجمل ما نُحت في العمارة المصرية ما يعرف بالمسلة، ومن أشهرها مسلة حتشبسوت وطولها 33.20 مترًا ومسلتا معبد الأقصر وطول إحداها 25 مترًا ووزنها 257 طن.
العمارة الآرامية
أقدم اكتشافات للعمارة الآرامية في سوريا هي مباني طينية اكتُشفت في المريبط والشيخ حسن الواقعة على نهر الفرات، وهي عبارة عن غرف دائرية وبعضها مربع، ليست على مستوى واحد وهي مبنية من الطين المدعم بالخشب، ومزينة من الداخل ويعود تاريخها للألف التاسع قبل الميلاد، واكتشف في مواقع أثرية أخرى منشآت هندسية كالتي وجدت في تل براك، وهو عبارة عن معبد يسمى معبد العيون الكبيرة، ويعود تاريخه للألف الثالث قبل الميلاد.
كما عُثر في موقع ماري على قصور تعود للحضارة العمورية، واكتُشفت إيبلا في تل مرديخ في إدلب، وفيها معالم مدنية، وقصر ملكي، ومكتبة ملكية ذات وثائق طينية هامة، بالعموم اعتُمد على الطين بشكل كبير في الحضارة التي نشأت في منطقة بلاد الشام وفي سوريا تحديدًا.
العمارة الفارسية
اعتمدت الحضارة الفارسية بشكلٍ عام في العمارة على الآجر، وهو عبارة عن قوالب من الطين المشوي وكانت تُغطَى بملاط من الكلس. لقد اهتم الفرس ببناء المعابد والقصور خلال فترات التاريخ المتعددة، فمثلًا بالفترة الإخمينية بُنيت القصور بشكل مستطيل ومرتفع، وكانت ببهو ذو أعمدة وفيه حدائق داخلية مليئة بالأشجار والقنوات والنوافير.
ومن أشهر مباني الفترة الإخمينية مبنى يعرف باسم الأبادانا، وهو عبارة عن قاعة رباعية ذات سقف محمول على أعمدة رشيقة تمتاز هذه الأعمدة بتيجان منحوتة على شكل ثورين، أما بدن العمود فهو مزين بالأقنية أو المجاري، ومن أشهر أوابد الفترة الأخمينية مدينة بيرسيوبوليس والتي أمر ببنائها الملك دارا الأول عام 518 قبل الميلاد.
الفترة الساسانية حافظت العمارة فيها على البناء بالطين المشوي أي الآجر الذي غُطي بملاط من الكلس، لكن كان هناك تأثير هلنستي من حيث الرسوم الزخرفية، كما برع الساسانيون ببناء القبب الكبيرة، والتي تغطي مساحات واسعة، ومن أشهر المباني بتلك الفترة قصر الساروستان وقصر سابور.
العمارة الإغريقية
تمتاز باستخدامها للأحجار وخاصة الرخام منه، وتقوم هذه العمارة على نظام هندسي دقيق في حساب الأبعاد والنسب، فمبدأ الحامل والمحمول هو السائد في العمارة الإغريقية، أما بالنسبة للجدران فهي شديدة القوة والمتانة، وتقوم على أحجار ضخمة تربطها مماسك حديدية وذلك دون الحاجة إلى ملاط. استمدت العمارة الإغريقية بعض أصولها من العمارة المصرية والفارسية، ومن أشهرها معبد البارثينون في أكروبول في أثينا، وهو من صنع المعماريَّين أكتينوس وكالليقراطس عام 448 – 432 ق.م، ومعبد أثينا في منطقة إيجين ومعبد زوس في أولمب.
العمارة الرومانية
استمد الرومان فنون عمارتهم من أسلافهم الإيتروسك، كما استلهموا من الأسلوب الإغريقي في العمارة، لقد بنى الرومان عمارتهم من الحجر المنحوت بدقة، وفي بداية الأمر لم يتعاملوا مع الملاط، بل استعملوا الفواصل المعدنية كما استعمل الإغريق، كما استوحى الرومان بناء العقود والقناطر من عمارة بلاد الرافدين، وقد بنوا منازلهم بنفس تصميم منازل بلاد ما بين النهرين، والتي تتشكل من فناء داخلي تنفتح عليه أبواب ونوافذ الغرف، مع عدم وجود نوافذ خارجية للمنزل.
استوحوا أيضًا من الإغريق طرز الأعمدة كالطراز الدوري والكورنثي والأيوني، وأدخلوا عليها بعض التعديلات، وكثيرًا ما كانت هذه الطرز من الأعمدة تدخل في نفس البناء، فالعمود على الطراز الدوري يكون في الطابق الأول، وفي الطراز الأيوني يكون في الطابق الثاني، أما الكورنثي فيكون في الطابق الثالث، كما في بناء الكولوسيوم وفي مسرح مارسيليوس في روما.
أما بالنسبة للأسقف فقد كانت مختلفة ومتنوعة فبعضها مستوي، وبعضها على شكل نصف اسطوانة أو متقاطع بالأقواس، كما استخدموا القباب في تغطية القاعات المستديرة، ومن أهم القباب قبة البانثيون في روما والتي أعاد بناءها معماري سوري.
فيما بعد اهتدى الرومان إلى ابتكار نوع من الملاط يشبه الإسمنت، وهو عبارة عن تراب بركاني مخلوط بكسر من الحجارة أو الرخام ومعجون بالكلس صنعوا من هذا المزيج قوالب طينية صلبة استعملت في بناء الجدران، ومن أشهر الأوابد الرومانية معبد البانثيون الذي بُني في عهد أوغست في 27م، وينسب للمعماري فاريليوس، وفيما بعد أعيد بناؤه في عهد الإمبراطور أدريان عام 117 -138م، حيث أقيمت له قبة تعتبر من أضخم قباب العالم التي صممها الدمشقي أبو لودور، وترتفع عن الأرض 43.5 متر وقطرها 9 أمتار، وهي قبة مصمتة لا يوجد فيها نوافذ إلا فتحة وحيدة في أعلى القبة.
وبنى الرومان القصور، والحمامات، والملاعب، والمسارح، والمدرجات، وبنوا أقواس النصر، والأعمدة التذكارية، والجسور والأقنية التي بنيت على شكل قناطر وبعضها ذات طابقين، يتم نقل المياه من خلالها إلى أماكن مرتفعة، وأشهرها جسر وقناة سيقوفيا، والتي أُنشئت في عهد تراجان، ومؤلفة من 128 قوسًا وتمتد لحوالي 813 متر.
وبنوا البازيليك وهو بناء مستطيل مقسم لثلاثة أجنحة، وينتهي كل جناح بمحراب، أما السقف فيكون على شكل قوس، أقدم هذه البازيليك هي بازليك يورشا، وبُنيت في عهد يوليوس القيصر عام 184، ثم بازيليك جوليا، ومن أشهرها أيضًا مدرج الكولوسيوم التي بناها الإمبراطور تيتوس عام 80 م، وهو بناء مستدير الشكل ذو ثمانين فتحة، وهي عبارة عن مداخل وطرقات تصل إلى سلالم داخلية، وذلك لتسهيل دخول وخروج الناس، يتوسط هذا المدرج أرض الملعب، ويتسع لتسعين ألف مشاهد، يبلغ ارتفاعه 48.5 متر وقطره الأعظمي 188متر والأصغر 156 متر، بالإضافة لقوس نصر تيتوس في روما ومؤلف من باب واحد، وقوس قسطنطين في روما ومؤلف من ثلاثة أبواب.
العمارة البيزنطية
اعتمدت العمارة البيزنطية في كثير من تصاميمها على نمط نماذج من العمارة المسيحية الأولى، والتي استمدت طرزها من العمارة الرومانية، في الحقيقة اعتمدت العمارة البيزنطية في مواد البناء على الآجر المشوي، بالإضافة إلى الحجر المشذب والملون والمشقّف والدبش، اعتمدت العمارة البيزنطية أيضًا على مبدأ الأقواس والقباب، وبالتالي استغنت بشكل نسبي عن وجود الأعمدة الضخمة، وفي حال اضطروا إلى استخدام هذه الأعمدة فقد كانت صغيرة الحجم نسبيًا، أما تيجانها فقد كانت تعبر عن الذوق الشرقي بشكل خاص.
بالنسبة للقباب فقد كانت تصنع من مواد خفيفة، وتُحمل هذه القباب على أقواس، وأحيانًا على نصف قباب أخرى، أما من ناحية توزيع الغرف فقد استوحيت من البازيليك الروماني، ومثال على ذلك كنيسة سانت ماري في قسطنطينية والتي كان سقفها يتكون من غطاء خشبي، وهُدمت الكنيسة ولم يبقَ إلا بعض آثارها، وكنيسة سان أبو لينير في رافينيا.
ولكن أبرز نمازج العمارة البيزنطية هي كنيسة آية صوفيا في اسطنبول، التي بُنيت في عهد جوستينيان وبنيت بين عامي 532-537م، بإشراف المعماريين انتيميوس وإيسيدور، ارتفاع قبتها 54 متر وقطرها 31 متر، ترتكز بواسطة أربعة قناطر على أربعة أكتاف ضخمة، وتتصل من الشرق والغرب بنصفي قبتين مرتكزتين على محاريب، أما في الشمال والجنوب فيمتد رواقان مغطيان بقبوات، شكل البناء مستطيل طوله 77متر وعرضه 71، وزُينت جدران الكنيسة بالفسيفساء.
العمارة القوطية
هو أسلوب معماري ظهر وتطور في أوربا في العصور الوسطى، استوحى طرزه المعمارية من العمارة الرومانية، وأول ما نشأ في فرنسا، وأشهر الطرز المعمارية القوطية هي الكنائس والكاتدرائيات الضخمة، حيث بنيت الكاتدرائيات على شكل صليب، يغطى الرواق الرئيسي المتصالب والأروقة الجانبية بعقود متقاطعة، هذه العقود مأخوذة من الفن الروماني والأندلسي، تكون في أغلب الأحيان مستندة على أعمدة من طابقين.
أما الجدران الخارجية فتكون مدعمة بنصف أقواس مفرّغة، عند تقاطع ضلعي الصليب حيث تقام قبة رئيسية، فوق هذه القبة برج عالي. أعمدة العمارة القوطية أعمدة ملساء، وتتصل جميع هذه الأعمدة بأقواس، تغطى هذه الكاتدرائيات من الخارج بتزينات حجرية، ومنحوتات من عشرات التماثيل الحجرية والتي تمثل القديسين.
تتميز العمارة القوطية بامتشاقها وضخامتها، وبأغلب الأحيان تنتهي هذه الأبنية على شكل أبراج مخروطية متعالية حادة القمة، أما النوافذ فتكون طولانية ومزينة بالزجاج المعشق، وأقواس هذه العمارة تكون مدببة ورشيقة، وبنيت العديد من القلاع والقصور وحتى الجامعات والكنائس والكاتدرائيات بهذا الطراز المعماري الذي انتشر بأغلب أصقاع أوربا، ومن أشهرها كاتدرائية شارتر التي بنيت عام 1260م، وكاتدرائية نوتردام في باريس عام 1163-1250م، والتي اندلع فيها حريق في أبريل عام 2019م.
فيما سبق سلطنا الضوء على بعض نماذج العمارة القديمة، والتي أسست لمفهوم العمارة الحديثة ونشوئها، وتؤكد العمارة حاجة الإنسان ليس للمأوى فقط، وإنما لإشباع حاجته من الجمال، والذي يعتبر هو جزء أساسي من طبيعة الحضارات البشرية.
المصدر: كتاب الفن عبر التاريخ للدكتور عفيف بهنسي
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.