«لا يوجد ما يسمى بالعلاقة الجنسية» ما الذي يقصده جاك لاكان بنظريته هذه؟
8 د
لربما تستغرب من استشارة الرجال والنساء للشيوخ والفقهاء عن صحة فعل جنسي ما بينهما، أتذكر هذا السؤال الذي قرأته ذات مرة على موقع ask.fm لرجل سائلًا أحد الشيوخ هل يجوز لي تقبيل مناطق حساسة لدى زوجتي؟ فاستغربت للسؤال وتحديد الشيخ صحة فعل حميمي كهذا بين رجل وزوجته من عدمه. ولكن الفيلسوف والمحلل النفسي جاك لاكان لن يمرر تلك الحكاية مرور الكرام، فعليها يمكن أن يبرهن نظريته الخرقاء «لا يوجد ما يسمى بالعلاقة الجنسية»، فنقتنع بالجنون الذي يكتبه ويلقيه في محاضراته، والصيغ المعقدة والرياضية لنظرياته.
إنه جاك لاكان، المحلل النفسي والطبيب والفيلسوف، الذي يلقبه البعض بسيجموند فرويد فرنسا، أو المحلل النفسي الأكثر
إثارة للجدل منذ فرويد. اشتغل لاكان بالتحليل النفسي وألقى المحاضرات في باريس عدة أعوام منذ 1953 حتى 1981، أدت أعماله إلى ثورة فكرية وشكلت الفلسفة القارية من بعده، والنظرية الثقافية في ما بعد البنيوية والنظرية النسوية ونظريات الأفلام. طور لاكان مفاهيم التحليل النفسي الفرويدية وقام بإدراجها مع اللسانيات والبنيوية والأنثروبولوجيا لكلود ليفي ستراوس في نظرية شاملة.
الرغبة والاحتياج، الدافع والغريزة
يؤكد جاك لاكان في نظرياته ومحاضراته أنه يعارض الاختزال البيولوجي للظواهر النفسية للإنسان. وبناءً على هذا المفهوم، يتحول لاكان من المقاربة البيولوجية إلى المقاربة التحليلية النفسية، المتداخلة مع الفلسفة واللسانيات والأنثروبولوجيا. يقيم لاكان هذا التمييز في المفاهيم المختلفة، مرجعًا ما للبيولوجيا لها، ومميزًا المفاهيم المعتمدة كليًا على سيكولوجية المرء، فكما يرى، لن تنكشف الحقائق النفسية للإنسان عبر البيولوجيا، بل عبر السيكولوجيا مصاغة في اللغة.
في هذا السياق، يميز لاكان بين الرغبة والاحتياج. فبالنسبة للاكان، الاحتياج نزعة بيولوجية، تعتمد فيها الذات على الآخر للإشباع، ولكي تحقق هذا الإشباع عليها أن تتحول من صيغة الاحتياج إلى صيغة الطلب [الحث]. يعبر وجود الآخر عن إمكانية إشباع ذلك الاحتياج، ولكنه يعبر أيضًا عن حب الآخر. ولهذا فإن الطلب يعمل على بُعدين متوازيين، فمن جانب يعمل على صياغة الاحتياج بصورة ملموسة لتحقيق الإشباع، ومن جانب آخر يعمل كوسيلة للحصول على الحب. ومما يثير الدهشة، يرى لاكان أن الاحتياج إذا نال الإشباع، لن يتحقق على الرغم من ذلك، لأن الآخر لن يوفر الحب غير المشروط الذي تسعى إليه الذات.
أما الرغبة فتنشأ على الهامش بين الاحتياج والطلب، وغير قابلة للإشباع. يقول الفيلسوف المعاصر سلافوي جيجك: «لا يعمل منطق الرغبة على بلوغ الغاية، ولكنه يعمل على إعادة إنتاج الرغبة من جديد». يجادل لاكان أن رغبة الذات هي رغبة الآخر، ما يعني أن الذات ترغب في ما يرغب به الآخر، وترغب أيضًا في نيل اهتمام الآخر. يتبع لاكان في ذلك قراءة ألكسندر كوجيف لفلسفة هيجل، كما يرى لاكان، فإن ما يجعل الشيء مرغوبًا، هو رغبة الآخر به.
كما يفرق بين الدافع والغريزة، وبناءً على هذا التفريق يرى لاكان أن الجنس يختلف عن التناسل. بالنسبة للاكان، فإن التناسل، المحكوم بالغريزة، مجرد عملية بيولوجية ميكانيكية، أما الجنس أو العلاقة الجنسية، المحكوم بالدوافع، ينتمي إلى مملكة الحياة النفسانية التي تحدثنا عنها، والتي تقع في فضاء اللاوعي واللغة.
الواقعي، الرمزي، والخيالي
يقسم لاكان مجالات الوعي إلى ثلاث، الواقعي والرمزي والخيالي. يُعتبر المجال الخيالي مجال الصور والخيالات. يحضر إلى الذكر في هذا السياق مفهوم «الشيء في ذاته» الذي صاغه الفيلسوف إيمانويل كانط، إذا كان ثمة «شيء في ذاته» فإن رؤية الإنسان لهذا الشيء لا تتطابق بالضرورة مع كينونته الحقيقية، فهناك دائمًا تفاعل بين الظاهرة ورؤية الإنسان لها، أو أننا لا يمكننا رؤية سوى تلك الظواهر، أما الحقائق في ذاتها فعصية على المعرفة، لأن حواس الإنسان تتفاعل مع الحقيقة أو مجال [الواقعي].
أخذت تلك النظرية الفلسفية تحولًا مع جاك لاكان، فبدلًا من اعتبار الحواس مصدر هذا التبديل والتحويل، أقر لاكان بأن اللغة مصدر هذا التبديل بصورة أساسية. اعتمادًا على لسانيات فردناند دو سوسير، فإن الإنسان لا يمكنه فهم واقعه سوى عبر مصفاة اللغة، فلكي يعلم كنه الواقع عليه أن يطلق عليه اسمًا، فلا يمكن معرفة الشجرة سوى بتسميتها.
ولكن ما الذي يعطي كلمة القطة أو الشجرة هذا المعنى؟ إنه الصورة التي تنشئها في الذهن، واختلاف الكلمة عن غيرها من الكلمات، فلا يوجد بكل كلمة أو صوتياتها ميزة جوهرية تدل على المدلول. يستخدم سوسير مفهومين للتعبير عن ذلك، الدال signifier ويعني التعبير اللغوي المستخدم للإشارة إلى شيء ما، والمدلول Signified ويشير إلى محتوى الإشارة، أو المحتوى الذهني، أو مضمون التعبير. فمثلًا، الشجرة دال، من حيث أنها موجودة بالواقع وتشير إليها، ويكون المدلول هو تعريف كلمة الشجرة، بصفتها نبات طويل له فروع وأوراق.
يرى لاكان أن مجال الخيالي ينتمي إلى اللغة، فاللغة كما يرى لاكان لها بُعد خيالي وآخر رمزي، تقوم اللغة في شقها الخيالي بتشويه الخطاب والآخر، من حيث أنه لا يتعامل معهما بذاتهما، ولكنه يضيف حاشية خيالية عليهما، أو لا يكون الشيء هو الشيء، ولكنه الشيء +[س]، وبهذا يتساوى الخيالي مع مفهوم المدلول. وتكون قمة الخيال بهذا المعنى في عالم الأحلام، عندما يعمل الذهن بحرية تامة.
أما الرمزي فهو الدال، هو ذلك المجال الخاص بالثقافة، عندما تستيقظ الذات من الحلم إلى الحقيقة، وتتصادم بالآخر. عندما تبدأ الذات بالتفاعل مع الآخر، تحتاج إلى تحويل هذا الخيالي وضبطه في صورة متسقة ومتماسكة منطقيًا، حتى يكون التواصل نفسه ممكنًا، لابد من استخدام اللغة ككيان وسيط بين الذات والآخر. ولهذا، فإنه إذا كان الخيالي حر تمامًا، فإن الرمزي يخضع للقوانين، بداية من قواعد استخدام اللغة حتى القوانين الاجتماعية للتعبير والتواصل.
التمايز الجنسي والعلاقات الجنسية عند جاك لاكان
إذا تحدثت مع أحد الطلبة في مساق البيولوجيا في كلية العلوم، وسألته ماذا يعني الجنس، ستكون الإجابة المباشرة دون أن يستغرق كثيرًا في التفكير، الجنس يعني نوع الإنسان علاقة بما يمتلكه من مظاهر جنسية ثانوية، وبما يمتلكه من كروموسومات.كانت تلك إجابة العالم البيولوجي ريتشارد داوكنز، مؤلف كتاب الجين الأناني عندما سُئل عن اعتقادةه بشأن المتحولين جنسيًا؛ كانت الإجابة سهلة، من يمتلك XX أنثى ومن يمتلك XY ذكر.
ليست الذكورة والأنوثة بالنسبة للاكان ماهيات بيولوجية، فاختزال تلك القضية إلى البيولوجيا يفقد من وجهة نظره جانبًا مهمًا من نفسية الرجل والمرأة، ودوافعهم الخفية وكيف يفكرون ويسلكون. يرى لاكان أن الذكورة والأنوثة مفاهيم تنتمي لمجال الرمزي أو ما تنتجه اللغة من مفاهيم يتخيلها المرء عن نفسه، تبعًا للمؤثرات التي تعمل على تشكيل اللغة، ومنها المؤثرات الاجتماعية، والمؤثرات العائلية الناتجة عن التفاعل مع الأب والأم، أو ما يُطلق عليه في تراث التحليل النفسي باسم عقدة أوديب.
في البداية، ينشأ الطفل، ولد أو بنت، دون إدراك واضح لماهيته الجنسية؛ أي أنه لا يدرك كونه ولدًا أو بنتًا. متى يبدأ الطفل في معرفة جنسه؟ تأتي إجابة لاكان وثيقة الصلة بعلاقة الطفل بأمه، وهنا يعرُّف لاكان الأم بصفتها لاعبة دور الحب المطلق، وليست الوالدة البيولوجية. عندما يبدأ الطفل برؤية العالم يرى وجه أمه، ويظن أنه وهي كيانًا واحدًا، لا يدرك الطفل كونه كيانًا منفصلًا عن أمه في المراحل الأولى من حياته. يبدأ الإدراك عندما يعلم الطفل أنه ليس الرغبة الوحيدة للأم، وأن رغبات الأم تتوجه إلى كيان آخر يتمايز عنه، فتنشأ لديه اضطرابات قلقة. هذا الكيان هو الـ«فالوس».
يميز لاكان بين الفالوس phallus ويعني القضيب الرمزي، وبين القضيب الفعلي أو العضو البيولوجي للرجل. فالقضيب يشير إلى عضو تشريحي، بينما الفالوس يشير إلى رمز ما ترغب به الأم، أو ما يمتلكه الأب ويجعله محل رغبة الأم. يدرك الطفل أن الأم ترغب بالأب ولا ترغب بالطفل وحده، فالأب بالنسبة لها مصدر المزيد من الأطفال. في تلك اللحظة، يبدأ التمايز الجنسي، إذ يتأثر الطفل بالصدمة من تلك القطيعة النفسية بينه وبين أمه، ويحاول أن يكون موضوع رغبتها من جديد والالتحام بها مرة أخرى كمراحل الطفولة الأولى.
يتعرف الطفل الذكر على نفسه جنسيًا بصفته مشابهًا لهذا الرجل [الأب] الذي ترغب به الأم، أو أنه «ليس بدون فالوس»، بينما تتعرف الأنثى على نفسها جنسيًا بصفتها تفتقر لهذا الفالوس. في هذا الوضع تتحول الذكورة إلى حالة عامة من امتلاك الفالوس، بينما تتحول الأنوثة إلى حالات فردية متعددة ليس لها ما يحددها كقاعدة عامة مثل الفالوس بالنسبة للرجل، إذ تأتي كل امرأة بقواعدها الخاصة.
اقرأ أيضًا: قوم الحيادية الجنسية Gender Neutrality: لا للتذكير ولا للتأنيث نعم لأزياء ومرافق للجميع!
لا يوجد علاقة جنسية بين الرجل والمرأة!
لا يقصد لاكان بهذا الموقف إنكار الفعل الجنسي الواقعي بين الرجل والمرأة، فهذا نوع من الجنون بالطبع. ولكن يصح القول أن لاكان يقصد «لا علاقة بين الجنسين»، فلا يشير لاكان إلى فعل الممارسة الجنسية، ولكن إلى التماهي بين الرجل والمرأة، أو تخيُّل هذا التماهي. لا يتعامل كل طرف مع الآخر بوصفه ذاتًا مستقلة، ولا يرغب به كذات كاملة، بل تتجزأ هذه الذات إلى جزئيات أصغر تكون محل رغبة الطرف الآخر، أو يتعامل كل طرف مع الآخر كأداة لغرض آخر، فقد يتعامل الرجل مع المرأة كأداة للجنس، والمرأة مع الرجل كوسيلة للحصول على أطفال لتعويض خروجها عن موضوع رغبة أمها.
يقول الفيلسوف المعاصر سلافوي جيجك، أن العلاقة الجنسية لا تعمل سوى بوجود طرف ثالث، «أنت لا تكون وحدك مطلقًا مع شريكك». لا تعمل العلاقة الجنسية في مجال الواقعي، بل في الخيالي والرمزي، إذ لا تستقيم الإثارة الجنسية على مستوى الأعضاء البيولوجية، بل عن المعنى الذي تثيره هذه الأعضاء في خيال الشخص. هذا الخيال يكون محملًا بطرف ثالث بالضرورة، كالمثال الذي ذكرته في أول المقال. قد يكون الطرف الثالث هو الشيخ الذي يسأله الطرفان لصياغة مفردات علاقتهما، كما سترى كيف يسأل الرجل والمرأة شيخًا أهذا يصح في علاقتي الجنسية بزوجتي؟ وقد يكون الطرف الثالث خيال أو صورة يتخيلها المرء عن الآخر، كأن يرى فيه صورة شخص آخر غير حقيقته.
في كل الأحوال، فإن التحليل النفسي يهدف إلى سبر أغوار تلك الأعماق النفسية، من أجل الوعي بها وحل الأزمات النفسية التي قد تواجهنا، وتحسين علاقتنا بشركائنا، ولا يهدف إلى تصدير حقائق لا تتغير عن الإنسان، بل على العكس، تلك الظواهر تحديدًا، هي ما يجب علينا تغييره لحياة نفسية أفضل وأكثر سواءً.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.