🎞️ Netflix

شجاعة الاصطدام: أليس خارج بلاد العجائب

عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

5 د

لم تخطئ أليس عندما هربت لبلاد العجائب مُنسحبةً إلى جحر الأرنب بعد أن ضغطت عليها شروط الواقع واختير لها عريس كي تتزوجه، فما كان أمامها سوى الانزواء إلى كهف أفلاطون والعيش في عالم المُثل. فجحر الأرنب ذلك ليس إلا تمثيل مجازي لعالم التمام، عالم الأحلام عند أفلاطون، ذلك العالم الكامل الصمداني، بينما الذي نحن فيه هنا ما هو إلا اقتباسات مشوّهة منه.

«وسأرحل ذات يوم إلى المدى، إلى حيث تغيب الشمس، حيث تتحقق الأحلام، وإلى حيث أنتمي».

تركت أليس الواقع لأصحابه وذهب سارحةً في خيالها. قالت نعم للأحلام لا للواقع البارد، لا للواقع بكل ما يحتويه من أيام تأتي وتذهب وكأنها تسخر منا. لا للواقع بما يحتويه من مناصب يُسعى إليها وأزياء تُلبس. لا للواقع بكل تشكيلاته الممكنة، بكل زجاجات البلاستيك فيه وفواتير الكهرباء والماء. لا لكل شيء فيه، لا لكل شيء فيه.

فيما بعد أليس قد تغيّرت، إذ نضج عقلها وكبر. حتى هي نفسها لم تعد تؤمن بعالم العجائب. وإن أردنا إكمال القصة التي كتبها عالم الرياضيات ذو الاسم المستعار لويس كارول. فعنوانها الجديد يجب أن يكون «أليس خارج بلاد العجائب». أليس الناضجة التي لم تسقط في جحر الأرنب ورفضت الانسحاب إلى عالم المثل الخيالي. أليس التي اختارت أن تكون قاسية، اختارت أن تواجه.

أعتقد أنه داخل كل منا أليس صغيرة تعيش، خصوصًا فترة الطفولة. فمن منا لم يحلم يومًا ما أن يصبح آش في البوكيمون؟ أو الكابتن رابح؟ من لم تحلم بأن تكون أميرة الثلج سنو وايت؟ أو حتى أليس نفسها كفتاة حالمة؟ يضم الجميع في داخله أليس صغيرة تسعى لسبر غور عالم العجائب والطفو في عوالم الخيال، إلا أنه مع كبر الإنسان ونضوجه، يتعلّم أن هذه العوالم يؤمن بها الأطفال فقط وأن أوان الكبر قد حان. حان الوقت ليُقال له دكتور وطبيبة ومهندس وأستاذ وآنسة. أوان أن يصبح كث الشوارب ضخم الكرش لا يتكلم إلا عن غلاء الأسعار التي قد أرهقته وأن العمل أصبح شاقًا، وأن عزاء لأحد أقرباء جده وجب عليه حضوره.

يقول الرافعي: إن الحياة قد قضت أن يكون النصر لمن يحتمل الضربات لا لمن يضربها! وتخبرنا كل فيديوهات ومقالات التحفيز أن مَكمن العُلا والسمو في تحملك لأكثر عدد ممكن من الركلات، وأن النصر سيكون حليفك إن استطعت الصمود، وهذا صحيح. لكنه يغفل أمرًا خطيرًا جدًا، أمرًا سيقلب المعادلة كلها لو فكّرت فيه جيدًا. وهو أنه ماذا لو كانت إحدى تلك الضربات الواجب احتمالها قاضية؟ لماذا يفترضون أن الخصم الذي يضربني معتوه؟ تمامًا مثل نموذج الأرنب والسلحفاة، إذ يأتون بأكثر أرنب معتوه وكسول ويضعونه في سباق مع سلحفاة بمواصفات خيالية، فقط كي تستقيم قصتهم الرديئة! لماذا لا يكونوا واقعيين ويقولون أنّ الخصم عنيف ومدرَّب؟ أو على الأقل إحدى الضربات التي ينفذها تخرج قوية جدًا فترهقنا؟

«لا ينطبق مبدأ الرافعي إلا على ضربات شبيهة بقطرات الماء التي تنزل على صخرة فتكون واهنة جدًا يحتاج تأثيرها أزمنة سحيقة ليظهر. الواقع الذي نعيشه ليس كالماء المقطّر. واقعنا مليء بالعنف والضربات القاسية لدرجة أن احتمالك لها لن يغير مِن المعادلة شيئًا».

اختُرعت مقولة النصر لمن يحتمل الضربات فقط كي يُسكّنوا لك ألمك يا عزيزي. اخترعها الأقوياء لأنهم يعلمون أن بهذه الطريقة يأخذ الطرف الآخر دائمًا وضعية الدفاع والتحمّل. حينها يُجهزون عليك بضربة واحدة قاضية فتنتهي. تنتهي وأنت على قيد الأمل، أمل الاحتمال حتى النهاية. تندثر حياتك منتشيًا بعبارات بلاغية منفصلة عن الواقع كتلك التي قالها الرافعي. تنتهي وقد بررت ضعفك بصيغة فلسفية جميلة لتبقي نفسك متكاسلًا قائلًا أنّ الحل هو الاحتمال وليس المواجهة.

من حق أليس في داخلنا أن تضرب، من حق أليس ألا تهرب من الصدام، من حقها أن تعلم أن هذا العالم بارد جدًا إلا أن الحل عمرهُ ما كان في الانسحاب إلى عالم المثل ولا يوتوبيا التحمّل على أمل فوز سرابي في النهاية. رائع جدًا! ستحتمل حتى يصبح عمرك 90 سنة. قل لي الآن ما جدوى أن تفوز وتنتصر وأنت في آخر حياتك! خصوصًا أنه مع كل ضربة تحتملها يسقط شيء منك ويموت. فلو صحّ كلامهم وانتصرت في نهاية السباق ستجد نفسك كالجثة المنتصرة. لا يوجد شيء قد تبقّى حيًا ليسعد بالنصر. فمع كل ركلة كان قد مات شيء في داخلك واضمحل. عندها ستكون خائنًا بعيون كل فسيفساء المعاني المكوّنة لك أساسًا لأنك لم تمت. ستكون كقائد الجيش الذي فقد كتيبته وجميع رفاقه بالكامل لكنه وصلَ لأعلى التلة وحده، هل هناك معنى لهذا الانتصار بعد أن رحل الجميع؟ لا معنى له إطلاقًا ولا يمكن تسميته إلا بالانتصار الحزين.

ربما من غير الممكن تأكيد النصر لمن يضرب الضربات نعم، لكن في الطرف المقابل لن يكون أبدًا لمن يحتملها. بل سيتم استنزافه حتى النهاية ويموت وهو على أمل أنه سيحتمل ضربة ثانية، وضربة أخرى فقط، وحسنًا لم يتبقَّ إلا القليل، وركلة من هناك، ووخزة من هنا، وبشكل بطيء تدريجي تراكمي، لا يرى سوى اسوداد الدنيا من حوله ثمّ يغيب عن الوعي ويموت. خدعوه فقالوا له احتمل الضربات حتى تفوز، ولو أنهم كانوا رحماء به على الأقل لأجهزوا عليه بواحدة قاضية لكنهم لم يفعلوا.

من حق الإنسان أن يضرب، من حق الإنسان أن يسدد ركلات قاضية، من حقك ألا تحتمل. من حق أليس الصغيرة في داخلك أن تزأر، أن تبدأ بمواجهة الواقع البارد، من حق أليس أن تنفذ شجاعة الاصطدام بكل عنف، وبكل ما أوتيت من قوة.

لا مزيد من احتمال الضربات، إن أردتم احتملوا أنتم، أنا لم أعد أريد. لقد رأيت الكثيرين يموتون ببطء حولي وهم على أمل الاحتمال حتى النهاية، لقد خدعوهم، لقد جعلوهم يموتون بوحشية وعيونهم مفتوحة نحو بصيص النجاة.

ذو صلة

لا مزيد من هذا، أنا سأخرج. سأخرج من جحر الأرنب ومثل أفلاطون لأمسك مطرقة نيتشه وأبدأ بالهدم. لا مزيد من تحمل الضربات، لا مزيد من عوالم الخيال. الآن أملك الشجاعة، الشجاعة الكافية للاصطدام.

لم تعد أليس داخل بلاد العجائب، أليس الآن أصبحت في الخارج، وقد بدأت تزأر!

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة