إنسان منتهي الصلاحية: كيف يساهم الصيام في تعزيز إنسانية الإنسان؟
كررت هذه المقارنة كثيراً، وكتبتها مرات سابقة في عدة مقالات، وهي أنه لو حذفنا الطعام والشراب والجنس والنوم والعمل من حياة الإنسان لما بقيَ فيها شيء يُذكر، فهو لا يقتات إلا على هذه الأمور ولا يسعى إلا إليها. لكن أليست كلها أشياء غريزية نتشارك بها مع بقية الكائنات الحية؟ فلا بعد إنساني فيها أبداً!
الحيوانات تأكل وتشرب. الإنسان يأكل ويشرب. الحيوانات تنام وتمارس الجنس. الإنسان ينام ويمارس الجنس. يتبقى لدينا العمل. لماذا يعمل الإنسان؟ لأجل أن يعيش، يعمل لأجل حفنة الأموال التي سيقبضها نهاية عمله. ما الذي سيفعله بتلك الأموال؟ سيمارس السلسلة الأولى نفسها، الأكل والشراب والنوم. أي أنه باختصار شديد، يعمل من أجل أن يكسب، ويكسب من أجل أن يُلبي غرائزه البدائية ويشبعها برفاهية.
“غرائز الإنسان، شهواته، كل ما يسعى إليه بشراهة، أمور مستمرة فيه حتى يموت. بينما الفهم، التعلم، القدرة على التفكير، محكومة بالجزء الأول من حياته وفتراته البدائية، فلا تخطئ الترتيب، وتجعل من الأولويات أخرويات، ومن الأمور العاجلة أموراً مؤجلة.” – الإمبراطور ماركوس أوريليوس، بتصرف.
ينتظر البعض حتى آخر عمره كي يصحو. عندما لم يتبقَ فيه شيء أساساً كي يصحو، أما الآن دعني ألهث وراء حياتي. الآن يجب أن أعمل، من أجل أن أكسب المال، وأكسب المال من أجل أن أصرفه، إما على احتياجاتي البدائية، أو على صحتي التي فقدتها أثناء جنيي للمال نفسه! وتذكر دائماً أن هذا هو منطق الكائن الذي يسمى العاقل! فاحترموا الألقاب ولا تنسوا أن الكائنات مراتب!
رمضان بشكل خاص، والصوم بشكل عام، فهما هذا الأمر جيداً. لذلك نرى أن الانقطاع عن الطعام والغرائز البدائية كان موجوداً على مسار التاريخ ومارسه الجميع على اختلاف الحيثيات والأطر العامة، إلا أن الجوهر يبقى واحداً. ألم تسأل نفسك لماذا؟ ألم تسأل نفسك ما الهدف؟ نجد الإجابة لدى أحد علماء القرن العشرين. تحديداً العالم أبراهام ماسلو صاحب الهرم الشهير.
عندما قدّم ماسلو عمله المُلخِص لاحتياجات الإنسان باقتضاب، وضع في قاعدة الهرم وأساسه الحاجات الفيزيولوجية (الطعام، الشراب، الجنس، إطراح الفضلات.. إلخ). هذه اللبنة الأصلب في تكوين الإنسان التي لن تتغير بتغيّر الثقافات والأمكنة، فإنسان يعيش هنا في الوطن العربي، يطرح الفضلات ويشرب الماء ويأكل كما يفعل الإنسان المتواجد في الأسكيمو، أو في الأوروغواي، أو شرق آسيا وهضبة منغوليا. مهما اختلفت ثقافات الناس وأمكنتهم، تبقى قاعدة الهرم نفسها لدى الجميع.
يأتي الصوم ليفعل شيئاً واحداً، ليخلع قاعدة هذا الهرم بكاملها. وأعتقد أننا لو تتبعنا نشوء هذه الفكرة وممارستها لوجدناها في المرحلة الفاصلة بين الإنسان كحيوان بدائي، وبين الإنسان ككائن عاقل. لا بد أن تكون هذه الشعيرة قد ظهرت في هذه الفترة تحديداً، فترة انسلاخ الإنسان عن الحيوان ولحاقه بركب المدنية العاقلة.
يأتي الصوم فيمنعك عن الطعام، والشراب، وعن بقية الغرائز والحاجات الفيزيولوجية ليقول لك شيئاً مهماً يغفل عنه الكثيرون، ليقول لك أنت أعلى من هذا، ترفّع عن الحيوان الذي يقبع في الداخل، ابحث عن شيء آخر، اتجه للدرجة الأعلى من الهرم، اصعد قليلاً، كفاك لهاثاً وراءها، فهي لا تنتهي، ولن تنتهي، إذ أنك مبرمج عليها لذلك لن تشبع منها حتى تموت صدقني. جد شيئاً آخر يمنحك المعنى، لا شيئاً يتحكم بك ويجعلك معنى له.
تأمّل مثلاً فيمن يشتري سيارة عادية تفي بالغرض وسيارة فارهة تكلفتها الملايين، ما هو الفرق بينهما؟ لا يوجد فرق! كلاهما سيوصلانك إلى نفس المكان وربما بنفس السرعة تقريباً. نعم هناك محرك مُختلف. نعم هناك أثاث أفخم وأرقى. نعم تلك إطاراتها أفضل، كل هذا صحيح، لكنها في النهاية ستوصلك إلى نفس المسار الذي توصلك به أي سيارة عادية. الفرق لم يكن بالسيارة أبداً، الفرق فيمن يركبها، فيمن يجعلها تعطي لحياته معنى.
“أصبحت الأشياء التي نمتلكها، هي من يمتلكنا” رواية نادي القتال – تشاك بولانيك
لدي صديق في رمضان يتبع خطة ذكية جداً، تتلخص بأنه ينام طول اليوم حتى وقت الفطور ونهاية الصوم. هل بإمكاننا هنا أن نستنتج شيئاً ما مهمّاً؟ مَن ينام طول اليوم كأنه يقول لك التالي حرفياً: أنا حياتي عبارة عن طعام وشراب وجنس، وطالما أني ممنوع منها فلم يتبقَ لي شيء لأفعله، إذاً سأنام. تذكر عزيزي القارئ أن الإنسان يسمى العاقل. لكن يبدو أن هذا العاقل عندما لا يجد حاجاته الحيوانية متوفرة لا يفعل شيئاً، غريب جداً هذا السلوك. متى يمارس نشاطه العقلاني الذي لطالما صدّع رؤوسنا به إذاً؟
في الحقيقة، إن الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان رقيق جداً، فالأوّل منهما يمارس تفكيره في توفير حاجاته الغريزية والسعي لها. أما الثاني فيمارسها تلقائياً بدون تفكير. مضحك صراحةً أن ترى الإنسان يتغطرس ويتكبر على الجميع لأنه يفكّر، إلا أنه في الوقت نفسه لا يفكر إلا بغرائزه وما يؤدي إليها. وإن لم يجد منها شيئاً، دخلَ في سبات فكري لا يصحو منه. لكنه مع كل هذا العاقل، لا تنسوا هذا أبداً. فهو يحب هذه التسميات كثيراً. العاقل. الكائن السماوي. مركز الكون والأرض.. إلخ. ما هذا المركز بحق السماء؟ إن كان الإنسان هو المركز فكيف هي إذاً بالوعة هذا الكون؟
“لو صحت فرضية تعدد العوالم، فلا شك أن الكوكب الخاص بنا، هو سلة مهملات لعشرات العوالم الأخرى” -فولتير
قد يسأل أحد النابهين الآن، لكن هل كانت موجودة نظرية تعدد العوالم أيام فولتير؟ الجواب نعم. هذه الفكرة -تعدد العوالم- قديمة جداً وقد داعبت مخيلة الكثير من الفلاسفة والمفكرين منذ الأزل إلا أنها لم تأخذ شكلاً واضحاً وحاولوا إعطاءها غطاءً علمياً في الفترات الأخيرة، في إطار صياغة النظريات الفيزيائية الجامعة، أو نظرية كل شيء كما تسمى. مع هذا كله، نعيد طرح التساؤل، إن كان الإنسان هو المركز، فكيف إذاً يكون الجانب السيئ المهمل الهامشي؟
في كتاب معنى الحياة للناقد الأدبي الإنجليزي تيري ايجلتون، وهو كتاب لطيف سلس منصوح بقراءته لو اهتممت بمضمون عنوانه. يقتبس تيري في الفصل الثاني من الكتاب عن شكسبير وجهة نظره في الحياة عندما قال في أحد مسرحياته:
لتنطفئي. لتنطفئي أيتها الشمعة قصيرة الأجل!
فما الحياة سوى ظل عابر، مُمثل بائس
يختال ويقلق في ساعته على خشبة المسرح
ثم لا يسمع صوته للأبد، إنها حكاية
يرويها أحمق ملؤها الصخب والغضب
ليس لها أي هدف ومعنى.
لاحظ قول شكسبير أنّ الممثل هو البائس. هل تجد شيئاً مهماً في هذه الجزئية؟ ما نجده هو أنّ الخلل ليس في الحكاية إنما التمثيل، فها هي الأديان والفلسفات تأتينا، وها هي الأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لتفرض وجهات نظرها عن الحياة والمعنى وكيف نعيش، إلا أن المشكلة ليست هنا، ولم تكن أبداً في هذه الحيثية. المشكلة ليست في نصوص المسرحيات على الورق، لأنها دائماً ستكون أمراً رائعاً صدقني. المشكلة فيما نراه على أرض الواقع، المشكلة في التطبيق العملي.
التطبيق الذي يحمل معه تمثيلاً رديئاً، مليئاً بالصخب والغضب. ليس له أي معنى..
ليس ببعيد عن المعاني، وضعت في الصورة الرئيسية للمقال لوحة الأمير الصغير وهو يسرح في الحقول، تلك الرواية الشهيرة التي كتبها أحد أفراد سلاح الجو الفرنسي في محاولة للهروب من عالم بائس يتداعى. لا يمكن إلا أن تؤثر فيك هذه الرواية لشدة عمق براءتها ومخاطبتها للإنسان الصغير فينا، إلا أن التأثير سيتضاعف عندما تعلم أن راويها كان قد مات وضاعت جثته لـ 40 سنة في أحد الطلعات الجوية الفرنسية. فالأمير الصغير الذي رسمه أنطوان دو سانت اكسوبري في روايته راكباً طائرته باحثاً عن صديق بعد أن خانته الوردة في كوكبه، كان هو نفسه مُستقبلاً، كان يحاول أن يصل إلى مكان ما.
لتنطفئي أيتها الشمعة.. لتنطفئي. مُمثل بائس.. ظل عابر… يختال قلقاً على خشبة مسرح مليئة بالفوضى والصخب.
الآن نحن نعيش في مُزامنة مع كورونا، وهو حدث نادر التكرار ويقلّ أنّ نعاصره بشكل مباشر. كيف يمكننا أن نكمل حياتنا فيما سيأتي؟ بمعنى أنه عندما سيحدث وباء ما عام 2050 مثلاً في دولة معينة. وسنتخيل جميعاً كيف أن الدولة الفلانية تعاني منه، هل بإمكاننا أن نمضي وكأنه لا شأن لنا! خصوصاً أننا عاصرنا شيئاً شبيهاً! فيصبح من الصعب أن تتصوّر أحداً يعاني من شيء ما أنت قد عانيت منه مسبقاً لكنه الآن وحده، ألن تشعر بغصة صغيرة؟ كالغصة التي رافقت إصدار كتاب الكينونة والعدم.
“ما الإنسان إلا عاطفة بلا جدوى” – جان بول سارتر
إذ كتبَ الفيلسوف جان بول سارتر فلسفته الأهم في كتابه الكينونة والعدم عام 1945 أي في خضم الحرب العالمية الثانية، فكانت وليدة المرحلة بكاملها. هل تنتظر من سارتر أن يكون مُتفائلاً حينها؟ ويكتب لك فلسفة إيجابية بعدما رأى العالم من حوله يتداعى متحوّلاً لخراب لدرجة أن سكان أوروبا في تلك الفترة ظنوا أنها الأبوكاليبس ونهاية العالم؟ هل تنتظر من سارتر أن يكتب لك بلغة محتوى اليوم الحديث: 7 خطوات ستجعل من حياتك أجمل وأبسط؟! المفكر الحقيقي يكون ابن المرحلة. هي مَن تنجبه، لا هو مَن ينجبها. لذلك من الطبيعي أن تكون هذه الغصة موجودة. وطبيعي أن الذي يبقى متذكراً هذه الغصة أكثر أخلاقيةً، كونه يعمم التجربة ويراها كما الجميع.
يُقال أنّ العالم المفتوح المعولم المتصل كله ببعضه هو قمة إنجازات الكائن العاقل إذ ربط الجميع مع الجميع. لكن في الوقت نفسه يمكننا أن نقول إنّه قد عمّق الشرخ حتى الصميم. يكفي لتدرك ذلك، أن ترى طفلك وهو يشاهد مقطعاً ما على اليوتيوب لطفل في السويد أو في أي بلد سعيد، ليقول لك: أبي، أمي، لمَ لا أستطيع أن أفعل ذلك أنا أيضاً؟
أن ترى الآخر وتتواصل معه أمر لطيف. لكن أن ترى الآخر يفعل ما لا تستطيع فعله سيحز في نفسك كثيراً.
لتنطفئي أيتها الشمعة.. لتنطفئي..
هذا الإنسان الذي يعيش بين ظهورنا رديء الجودة صدقوني، هو العاقل بشكل نظري كما في مسرحية شكسبير، إلا أنه في التطبيق العملي عندما لا يجد حاجاته الحيوانية حاضرة يدخل في حيّز المنام. مع ذلك يجب أن تناديه بالعاقل والسماوي ومركز الكون، وتر المثلث القائم، وقطر أكبر الدوائر. هذا يشفي غروره ويضخم أناه.
لا يرى البؤس إلا عندما يعيشه، غير ذلك هو في النعيم. مُنِحَ تذكرة إلى الحياة بشكل مجاني ولا يدري ما يفعل بها، فوجد أن الخيار الأفضل أن يعيش بشكل انبطاحي وبصورة رديئة جداً. معطياً إياناً تصوراً كاملاً عن إنسان رديء الجودة. إنسان منتهي الصلاحية، عنيد يصرّ على أنه لا يزال في أوج فترة استخدامه إلا أن الحقيقة تقول أن الزمن قد عفى عليه وآن أوان قطافه.
قالوا قديماً إنّ إكرام الميت دفنه. الآن نقول، إكراماً للجنس البشري لا بد من دفن هذا الإنسان. فرائحته قد فاحت، وصلاحيته قد انتهت، فاسحين الطريق نحو القادم الأفضل. القادم الذي انتظر طويلاً على دكة البدلاء. لنوسع الطريق نحو الإنسان الجديد، وليكن اسمه العاقل الحقيقي، العاقل غير المزيف، العاقل الذي لم يأخذ فرصته إلى الآن، العاقل الذي يُغدر به من قبل أصدقائه ويأكلون فرصته في الظهور، كما اعتادت أن تصوّر لنا دائماً قصص وأدبيات الانتقام. الانتقام الذي نراه يعود من الأفق بعد سنين طويلة من الضياع، ليأخذ فرصته التي سُرقت منه قبل زمن.
أما ذلك منتهي الصلاحية، فليرغد بقاعدة هرم ماسلو، لينعم بحاجاته الأساسية الفيزيولوجية الرديئة مثله. لينام ذلك الإنسان وليأكل وليشرب وليمارس الجنس. فليس له سوى مواساة شكسبير. أن يرقص صاخباً على خشبة المسرح. ممثلاً رديئاً. يختال ضاحكاً، في حكاية مليئة بالصراخ والعويل، ليس لهُ ولها أي هدف ومعنى.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.