هل نحن أحرار في هذا العالم؟ فلسفة الحياة بين المنافسة والحرية
من أشهرِ المقُولاتِ الحَديثة التي نمتلكُها عن ماهِية الحياة، هي: “البقاءُ للأصلَح”. غالبًا ما تُستخدم للإشارة إلى نَظَرية التطوُّر لتشارلز داروين، حيث تتنافسُ الأنواع المختلفة مع بعضِها البعض من أجلِ البقاء في منافذها البيئِيَة الخاصَّة.
ربما يكون هذا الجزءُ من النَّظرية التطوُّرية هو أكثر النظريات تأثيرًا لدينا اليوم. إنّها تتخلّل كلّ جانب من جوانِب العلم والثَّقافة. هناك الكثير مما يفسَّر، وأكثر من ذلك بكثير نستخدِمُهُ للتوضيح. إنه قوي في انتشاره وواسع في قوته التفسيرية.
عالمٌ من الوفرة
ومن المُثير للاهتمام، أنَّ مُصطلح “البقاء للأصلح” كان مُصطَلحًا قدَّمه الفيلسوف “هربرت سبِنسر”. بعد قراءة تُحفة داروين الشهيرة حول أصلِ الأنواع، استخدم العبارة لتسليط الضَّوء على أوجه التَّشابه بين نظرِياته الاقتصادية وعمل داروين.
ومع ذلك، فإنَّ تعريف داروين الخاص للانتقاء الطبيعي كان حول فكرة النَّوع “المصمم بشكلٍ أفضل لبيئة محلية فَوريَة”. الجوانب التنافسية التي تبرزها عبارة “البقاء للأصلح” هي جزء من ذلك، نعم، إنَّ الفكرة هي أنَّنا نتطوَّر بشكلٍ أفضل عندما ننسجِمُ بشكلٍ أفضل مع ظُرُوف بيئتنا.
بهذا المعنى، فإنَّ الحياة هي لعبة محصِّلتها صِفر حيث يجب أن أخسَرَ شيئًا هامًا بالنّسبة لي للفوزِ بشيءٍ ما، وهو ما يحدث في الطبيعة غالبًا.
البشر، بالطبع، كائناتٌ أكثر تحضُّرًا إلى حدٍّ ما في القرنِ الحادي والعشرين. بدلًا من عالم النّدرة، نحن نعيشُ في عالم وفير. بدلًا من مشاكل البقاء على قيد الحياة اليومية (خارج الحالات الواضحة للفقر المدقِع والحروبِ وما إلى ذلك)، نتعامل بدلًا من ذلك مع المشكلات اليومية ذات المعنى (ماذا أريد؟ وكيف يمكنني الحصول عليه؟ وما هو مهم وما إلى ذلك؟).
هذان الشرطان، الوفرة ومشاكل ذات المعنى، يَعنِيان أنه أصبح لدينا فجأة الكثير من الخيارات في حياتنا حول ما يجبُ تحديدُه من أولويات. وأحد الأشياء الأولى التي يعطيها معظمنا الأولوية هي الحريَّة. إذا كان العالمُ وفيرًا، وكان هناك متَّسع لنا، فإنَّنا نريد أن نَعيشَ فيه بشروطِنا الخاصَّة. لكن السؤال هو: كيف نفعلُ ذلك؟ ما هي الحرية؟
ما هي الحرية التي نتغنى بها؟
هناك قصَّة قصيرة رائعة عن رجل أعمال وصيّاد تصل إلى جُذُور مُشكلة الحرية هذه، حول ما يجب تحديدُهُ كأولوية، خاصة أننا نتعامل مع المفهوم في العالم الغربِي الحديث.
كان هناك مصرفِي استثماري أمريكي عند رصيف قرية مكسيكية ساحلية صغيرة عندما رسى قارب صغير به صياد واحدٌ فقط. داخِل القارب الصّغير كان هناك العديد من أسماك التونة الصّفراء الكبيرة. أثنَى الأمريكي على المكسيكي لجَودة سَمَكتِه وسأل عن المدَّة التي يستغرِقُها في صيدِها.
أجاب المكسيكي: “فقط فَترَة قصيرة. ثمّ سأل الأمريكي الصيّاد لماذا لم تبقَ في الخارج لفترةٍ أطول وتصطادُ المزيد من الأسماك؟ قال المكسيكي إنه كان لديه ما يكفِي لدعم احتياجات أُسرته العَاجلة. ثم سَأَلَ الأمريكي، “ولكن ماذا تفعل ببقية وقتك؟”.
قال الصياد المكسيكي: “أنام باكرًا، وأصطاد قليلًا، وألعب مع أطفالي، وآخذ قيلولة مع زوجتي ماريا، وأتجول في القرية كل مساء حيثُ أعزِف على الجِيتار مع أصدقائي. لدي حياة كاملة ومشغُولة”.
سَخر الأمريكي، “أنا حاصِل على ماجِستير في إدارةِ الأعمال بجامِعة هارفارد ويمكنني مُساعدتك. يجب أن تَقضي المزيد من الوقتِ في الصيد ومن خلال العَائدات، قُم بشراء قارِب أكبر. مع عائدات القارب الأكبر، يمكنك شراء عدَّة قوارب، وفي النهاية سيكون لديك أُسطُول من قوارِب الصيد. بدلًا من بيع ما تصيدُه إلى مشتري، يمكنك بيعُهُ مباشرة إلى المسوّق، وفي النهاية يُمكنك التحكُّم في المنتج والمعالجة والتوزيع. ثمّ ستحتاجُ إلى مغادرة قرية الصيد السَّاحلية الصغيرة هذه والانتقال إلى مكسيكو سيتي، ثم لوس أنجلوس وفي النهاية مدينة نيويورك، حيث ستدير مَشرُوعَكَ الموسَّع”.
سأل الصياد المكسيكي: “لكن، كم من الوقت سيستغرقُ كلّ هذا؟”.
رد عليه الأمريكي “15-20 سنة”.
“ولكن ماذا بعد ذلك؟” سأل المكسيكي.
ضحك الأمريكي وقال، “هذا أفضلُ جزء. عندما يحينُ الوقت المناسب، ستُعلن عن اكتتابٍ عام وتبيع أسهم شركتك وتُصبح ثريًا للغاية، فستجني الملايين!”.
– “الملايين – ماذا بعد ذلك؟”.
قال الأمريكي، “ثم تتقاعد. اِنتقِل إلى قريةِ صيدٍ ساحلية صغيرة حيثُ يُمكنك النوم لوقت كافٍ، والاستمتاعِ بالصيد قليلًا، واللعب مع أطفالك، وأخذِ قيلولة مع زوجتك، والتنزه في القرية مساء حيث يمكنك العزف على الجيتار مع أعزّ أصدقائِك”.
السعي وراء المكاسب في هذا العالم، هل هو جزء من وجودنا؟
تقدّم القصَّة نقطة مهمّة، وتعطينا شيئًا لنختبره. في بعضِ الأحيان، يكون السَّعي وراء فرصة لإضافة قيمةٍ في العالم أو لكسبِ المزيدِ من المال أو استخدامِ وقتك للعمل بجدِّية أكبر ممّا تحتاج إليه، هو جزءٌ كبير من كونك إنسانًا.
ومع ذلك، فإنَّ رجل الأعمال هنا هو تجسيد جيد لعقلية “البقاء للأصلح”، في حين أنّ الصّياد يهدف أكثر إلى أن يكون “مصممًا بشكلٍ أفضل لبيئة محلية فورية”.
هذا الأخير يتناسبُ جيدًا مع ما لديه، وهذا يكفي. إذا اختار أن يعمَلَ من أجلِ المزيد، فسيخرُج من مكانِ الانسجام إلى مُحاولة زيادة التحدي وتعقيدِ حياته. إنه حرٌّ بالفعل. تأتي حريته من عدم الحاجة إلى أيِّ شيءٍ آخر.
الأول، بحُكم ربط الوقت بالمال والفرص، يلعب اللعبة التي من المُحتمل أن يلعبها كلّ من حوله. مِن المُحتَمَل أنه يُقنِع نفسه بأنه يُريد سيَّارة جميلة لأن السيارة الجميلة لطيفة، ولكن على الأَرجَح، ذلك لأنَّ الناس من حوله يمتلكون سيارة جميلة. من المُحتمل أنه يقبَلُ أنه قادرٌ على المُنافسة، لكنَّه ربَّما يُنكر أنه يتنافسُ مع شخصٍ آخر. لأنّ عقليّته تحكِي قصة مختلفة، وتلك القصة هي أنه لا يزالُ يعيش مع عقلية النّدرة في عالمٍ وفير لأنّ كل من حوله كذلك، وهذا جزءٌ عميق من حياتنا الحديثة. حريته مرتبطة بما لديه، وهذا لن يكون كافيًا أبدًا لأنه يوجد دائمًا المزيد، لذلك فهو ليسَ حرًا في الواقع.
تعدُّ المنافسة جزءًا ضروريًا من التطوُّر، ولدينا دافع عميقٌ نحوها، لكن التطور نفسه يتعلّق أساسًا بالنُّمو نحو الانسجامِ مع البيئة. يمكن أن توفّر لك المُنافسة الموارد التي تحتاجها لتكون حرًا، ولكن هذا التناغم وحده هو الذي يمكنُ أن يحرِّرك بمجرّد الاهتمام بالضّروريات الأساسية. في عالم من الندرة، ستُساعدك المُنافسة على التحرُّر من الأذى، في عالم الوفرة، ستتحوَّل المنافسة ببطء إلى نقيضِ الحرية.
الحرية هي الاستغناء عما لا تريد
المُشكلة الأسَاسِية هي في الحَقيقة مُشكلة الاحتياجات. أنت حرٌّ عندما لا تحتاجُ إلى أيّ شيء ويُمكنك ببساطة متابعة ما تريد دون أي ارتباطٍ كبير بالأشياء، ربما بخلافِ السّعي لتحقيق النمو في هذه العملية. ومع ذلك، فأنت لست حرًا إذا كنت تعتقد أنّ هناك شيئًا آخر، سواء كان ذلك: مكانة معيّنة أو منزلًا أجمل، ضَرُوري لجعلكَ سعيدًا وراضيًا في العالم.
يبدو أنَّ الحياة والتطور تدفعُنا إلى درجاتٍ أكبر من التعقيد وهذا الفرقُ واضحٌ جدًّا من الإنسان البدائي إلى إنسَان هذا العصر، والتي يمكنُ الحُصُول عليها أحيانًا من خلال المنافسة، ولكن لا يمكن التحكّم فيها إلا من خلال الانسِجام. يتمتَّع الصياد بالانسجام الداخلي، والحرية الدّاخلية، التي يحتاجُها إلى زيادة تعقيدِ حياته الخارجية إذا اختار ذلك، ويمكنه بعد ذلك الحفاظ عليها بمرورِ الوقتِ إذا رغِب في ذلك.
يبدو أنَّ رجل الأعمال بهذا المعنى، لا يَرَى سِوى التعقيد الخَارجي، دون أن يكُون لديه الانسجام الداخلي لدعمِ هذا التعقيد على المَدَى الطويل. يمكن أن يؤدّي ذلك حتمًا فقط إلى تلك الدائرة من إدراكِ أنه كان دائمًا لديه ما كان يبحثُ عنه وأنه كان ينظر فقط في الاتجاه الخاطئ.
الحرية هي مفهومٌ مجرَّد مبنِي في أذهاننا، وهذا يعني أنه لا يمكنُ الشُّعور بها وتجربتها حقًا إلاّ إذا سمحتْ لنَا الارتبَاطَات التي لدينا بهذا المفهوم في أذهانِنا بالتوافق مع البِيئة التي نحنُ فيها.
نحن أحرارٌ عندما نكون نملك ما يكفي، والذي يملكُ ما يكفي قد يَرغبُ في التعقيد، لخلق شيءٍ ما في العالم، لكنّه لا يحتاجُ إلى المُنافَسَة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.