الوجود الإنساني بين الفلسفة المجردة والتطبيق التربوي
10 د
مع بداية النطق، نبدأ بطرح التساؤلات الوجودية، محاولين البحث عن تفسيرات توضح سبب وجودنا وكيفيته. نبذل قصارى جهدنا في استكشاف المجهول الذي يتحول إلى هاجس مستمر في السؤال طوال حياتنا. لذلك يبدو لنا الحديث عن الوجود الإنساني هاماً جداً، خاصة وأن هناك نظريات متعددة فسرت هذا الوجود. ومنها الفلسفة الوجودية التي أعطت للوجود معنىً خاصاً فجعلته يقال على الموجودات الواعية على حد تعبير معن زيادة، وهذا طبعاً جعلها تقدم جملة من التساؤلات التي عملت من خلالها على تفسير طبيعة الوجود الإنساني ومكوناته.
ولأن الفلسفة الوجودية جاءت في أساسها كرد فعل على ويلات الحرب العالمية الأولى والثانية، فإن تسليط الضوء عليها يعد هاماً وضرورياً، لأنها قد تعطينا بعض الأجوبة عما يختلج دواخلنا في ظروف الحروب. فما هو معنى الوجود الإنساني في الفلسفة الوجودية؟ وما هي مكوناته؟ كيف وظفت الفلسفة الوجودية هذه الفكرة في المجال التربوي؟
اليوم سوف نتحدث عن الوجود الإنساني يا رفاق، ونُجيب عن العديد من الأسئلة الهامة. وسنستعين في مقال اليوم بمجموعة من الكتب الفلسفية الهامة مثل (الموسوعة الفلسفية العربية – الوجود والعدم – تعالي الأنا موجود – خوف ورعدة).
الوجود الإنساني وعلاقته بالفلسفة الوجودية
ارتبطت نشأة الفلسفة الوجودية بالحربين العالميتين اللتين هددتا قيمة الإنسان وحياته، وقد نشأت هذه الفلسفة باعتبارها بديلاً للانحطاط الذي وصلت إليه الذات الإنسانية نتيجة الحرب. فكان هناك نوع من الإعلاء للوجود الإنساني من حيث أن الإنسان موجود قبل أن يكون ذاتاً مفكرة. ونتيجة الحرب ومجرياتها ومساسها لكل إنسان تحت وطأة الظروف التي أحاطت أوروبا في ذلك الوقت، مثلت الوجودية الأسلوب الوحيد في محاولة لإعادة بناء الوجود الإنساني بالاعتماد على الإنسان ذاته؛ فكانت مذهباً إنسانياً بامتياز.
واتخذت الفلسفة الوجودية من الوجود الإنساني محوراً للتفكير، وانتقل الوعي الإنساني من خلالها ليكون وعياً يعتمد على التجربة العينية الحية المباشرة، فالوجودية بهذا المعنى تنظر لمفهوم الوجود الإنساني على أنه يسبق ماهيته. وتبدو التجربة العينية الحية المباشرة التي يعانيها الإنسان بمثابة نقطة البداية، فالذات بالنسبة للوجودية ليست هي الذات المفكرة، وإنما هي الذات التي تأخذ المبادرة في الفعل، وتكون مركزاً للشعور والوجدان.
وانطلاقاً مما سبق ركزت الفلسفة الوجودية على جملة من الموضوعات التي ترتبط بمفهوم الوجود الإنساني العيني، المباشر؛ كالحرية والمسؤولية والاختيار والقلق والموت والتفاؤل، إلخ. ولا يمكننا هنا إغفال الارتباط الوثيق بين الفلسفة الوجودية وميدان التربية. فالتربية تهتم بتكوين الإنسان أولاً، محاولة إخراج طاقاته وإبداعاته على نحو عيني، مباشر في محاولة لتحقيق الوجود الإنساني في صورته العليا. والفلسفة الوجودية هي فلسفة إنسانية بامتياز تعنى بالإنسان الفرد وتسعى لتحريض إمكاناته على الخروج.
هنا لا بد أن نسلط الضوء على فيلسوفَين وجوديين درسا مفهوم الوجود الإنساني مجملاً، وهما الفيلسوف سورين كيركيجارد، والثاني هو الفيلسوف جان بول سارتر. محاولين التعرف على وجهة نظرهما في كيفية تحقيق هذا الوجود في صورته المثلى. وذلك بهدف الكشف عن الأبعاد التربوية لهذا المفهوم وإمكانية التطبيق الإيجابي لأفكار هذه الفلسفة في ميدان التربية فيما يتعلق بتحقيق الوجود الإنساني بشكلٍ عام.
الوجود الإنساني وعناصره عند كيركيجارد
كان كيركيجارد معجباً بسقراط، وكان في ذلك يتحدث عن سقراط الإنسان، منطلقاً من فكرة أساسية، هي الإنسانية فيقول: “أنا أطلب من كل إنسان ألا يفكر في نفسه تفكيراً لا إنسانياً”. ويرى كيركيجارد أننا لا نستطيع أن نتكلم عن ذواتنا كثيراً لأننا سنحولها لموضوعات، فالمهم أن نتصل بالواقع في لحظات وجودنا، وتبدو مهمة الفيلسوف في هذه اللحظة في استخراج عناصر الوجود الإنساني وهي:
التفرد والسرية
يؤكد كيركيجارد أن كل فرد هو نسيج وجوده الخاص. فالحياة تجربة فردية معاشة، وعلى الفرد أن يثبت أنه ليس من الفئة التي تنغمس في الشهوات والأنانية، وهذه التجربة لا تكتمل إلا إذا اتصفت بالسرية، فكل فرد مغلق على نفسه ويحتوي في ذاته على سر ما.
الاختيار والحرية
تبدو الحرية عند كيركيجارد أساس تكوين الذات، فوجود الإنسان بدون حرية أشبه بوجود الجماد الذي يسير وفق قوانين لا يحيد عنها ولا يمكن أن يسير إلا بمقتضاها. وتمنح الحرية الفرد الصفة المتميزة التي تجعل من وجوده وجوداً إنسانياً، وبواسطة الحرية يصل الإنسان في النهاية للاختيار وهو مخاطرة دائمة وهو مصحوب دائماً بألم. ورغم ذلك فإننا نحيل العدم إلى وجوده. وفي هذه المخاطرة يترافق الحماس الذي تدفع الإنسان للحظة الاختيار، وعلى هذا النحو تعبر الشخصية عن لا تناهيها الداخلي لأنها في الحقيقة تمتلك إمكانات لا متناهية.
القلق
تتسم الحرية والمسؤولية بقلق عظيم يسميه كيركجارد بدوار الحرية. وطالما أن الحرية هي ركن الوجود، والقلق يرافقها؛ فالقلق ليس فردياً آنياً إنما هو قلق وجودي يرافق الوجود الإنساني نفسه. إذاً يذهب كيركيجارد إلى أنه في القلق يتولد شعور الإنسان بحريته ومسؤوليته، وهذا القلق هو ضرب من عدم الاتزان يسبق الفعل، ولكن الحرية في النهاية تعني الإمكان وهذا الإمكان يعني الحرية.
وبما أن حياة الإنسان في تحولٍ دائمٍ، والإنسان يحاول دائماً تحقيق الأنا من خلال أفعاله، تبدو الحرية أساسية في ذلك، وتبدو الذاتية طابعاً أخلاقياً عند كيركيجارد. إن الحرية عند كركيجارد هي أساسٌ لتكوين الذات وبدون الحرية يكون الإنسان أشبه بالجماد. فالحرية هي الصفة التي تجعل من وجود الإنسان وجوداً متحققاً، وبالحرية فقط نحيل العدم إلى وجود.
الصيرورة
تمتاز حياة الإنسان لدى كيركيجارد بالتغير والصيرورة، فهي في تحول دائم، والأنا هي مشروع يحاول الإنسان تحقيقه. وفي الحقيقة يحاول الإنسان من خلال هذه الصيرورة أن يحقق ذاته، والذاتية لدى كيركيجارد ذات طابع أخلاقي، وهي موجودة في مرحلة عليا. مما سبق يمكننا القول أن أهم ما امتازت به فلسفة كيركيجارد أنها دعت للذاتية، وجعلت الحرية ركناً أساسياً فيها.
فالفرد هو أساس أي فلسفة، وكما كل الفلسفات الوجودية (الوجود يسبق الماهية) ولذلك عدت الوجود مشروعاً بحد ذاته، وهذا التشريع قد يتحقق وقد لا يتحقق. والذات الإنسانية تمتلك الحرية بالمطلق، وعلى هذه الذات أن تمضي في مسيرتها ضمن طابع أخلاقي إيماني.
الوجود الإنساني وعناصره عند سارتر
تمتاز فكرة الحرية عند جان بول سارتر بأنها جمعت بين الثنائيات المتناقضة. فهي من جهة تعني الوجود الإنساني ومن جهة أخرى تعني العدم. وتمتاز كتابات سارتر الفلسفية بأنها جاءت في أغلبها على شكل نصوص أدبية، ويعود ذلك إلى نظرته للفن على أنه بكل مستوياته، إنما يكاد يلامس الذات الإنسانية.
وينطلق سارتر في فلسفته من فكرة أن الفلسفة ليست مجرد تفكير نظري لإبداع نظرة شاملة لكل الوجود، وإنما هي حياة فاعلة إبداعية، وهي ما نسميه وحدة النظر والممارسة. وقد استطاع سارتر في ذلك أن ينقل الفكر الأنا أفكر إلى الأنا موجود. ويؤكد سارتر عدم اعترافه بماهية ثابتة للفرد، ويرى أن الفرد هو الذي يخلق الوجود الإنساني نفسه. ورغم أننا لا نستطيع أن نختار نوعنا الذي ننتمي إليه ولكننا نستطيع أن نختار حدود إنسانيتنا؛ فالإنسان عنده هو ما يفعل.
وهنا تبدو فرصة الاختيار كبيرة جداً مع التأكيد على أن الاختيار لا يمكن أن يكون إلا مرافقاً للوعي، فنحن نستطيع أن نختار بين أن نكون شجعان أو جبناء، بين أن نكون صادقين أو كاذبين، إلخ. ويذهب سارتر للتأكيد على أن الحرية تعني الوجود الإنساني ذاته. فنحن لا يمكننا أن نميز بين الحرية والوجود، لأن الحرية هي بنية الوجود الإنساني وحقيقته، فالإنسان يقاس بأفعاله وليس بأقواله. ويبين سارتر بوضوح دور الوعي في تحقيق حرية الإنسان. فالكائن الواعي هو الوحيد الذي يعي حريته، ورغم ذلك فإن وجود الإنسان ضمن منظومة اجتماعية مع الآخر تجعله يخضع لها أحياناً وهنا تظهر الضرورة.
وتبدو الحرية لدى سارتر معارضة للضرورة، وهنا يخطئ سارتر إذ يعتبر أن وجود نظام أخلاقي ثابت هو أمر خاطئ، لأن مستوى الوعي ليس واحداً لدى جميع الناس. وحتى لو أن الإنسان يصنع ذاته والوجود الإنساني الخاص به لملء حريته؛ إلا أن درجة الوعي تختلف بين فرد وآخر. وهذا يجعل من وجود النواظم الأخلاقية والتربوية أمراً ضرورياً.
والحرية لدى سارتر حالة معاشة، فهي أساس وصلب الوجود الإنساني كله. وترافق الحرية حالة من القلق، وهو شعور نبيل يطال الذات التي تريد أن تكون على غير ما هي عليه. وطالما أن الحرية هي أساس الوجود الإنساني واختيارنا وشعورنا بمسؤولية هذا الاختيار؛ يعني أن أفعالنا ستطال الآخرين وبذلك ستكون مصدر القلق. وتبرز العلاقة بين الحرية والمسؤولية لدى سارتر، ليؤكد أن المسؤولية هي الموقف الذي تتخذه الذات من الأحداث الجارية بالنسبة إليها. فأنا أصبح مسؤولاً عن الرسوب عندما أتخذ منه موقف اللامبالاة وعدم الاهتمام.
وتبدو المسؤولية لدى سارتر مسؤولية جماعية وليست مسؤولية فردية، فكل ما نقوم به نقوم به للبشرية جمعاء ونقدم من خلال صورة للإنسان الذي يجب أن يكون. مع سارتر يبدو الإنسان مسؤولاً عن أفعاله، فأنت ما تفعل وليس ما تقول. فالشجاع مسؤول عن شجاعته، والإنسان بأفعاله فقط يستطيع تحقيق حريته ووجوده.
الأبعاد التربوية لفكرة الوجود الإنساني في الفلسفة الوجودية
تعد التربية بكل ما تحتويه من مفاهيم وأفكار وتطبيقات هي (العمل المتناسق الذي يهدف إلى نقل المعرفة، وإلى تنمية القدرات وتدريب وتحسين الأداء الإنساني في كافة المجالات وخلال حياة الإنسان كلها). أما الفلسفة فهي (ميدان يثابر في صياغة النظريات التي تهدف إلى بلوغ مثل عليا).
وقد تبدو أفكار الفلسفة الوجودية لبعض القارئين صعبة التطبيق في المجال التربوي، ولكن القارئ المتمعن والدقيق سيعرّف جيداً أننا من الممكن أن نوظف أفكار هذه الفلسفة بما يتناسب مع فلسفتنا التربوية، وبما يخدم بناء الإنسان. مع ضرورة إبعاد بعض النقاط السلبية التي قد لا تكون ذات أثر إيجابي في العملية التعليمية. وترتكز التربية على مجموعة ركائز متلازمة.
منها الأطر المعرفية الموروثة وتُعد الفلسفة أحد الأطر المعرفية الموروثة، التي أسهم في إنتاجها الفلاسفة عبر التاريخ؛ ومنهم الفلاسفة الوجوديون. والتربية منظومة متكاملة تتفاعل مكوناتها ضمن المجتمع وتتأثر بكل المتغيرات التي تحصل وتتغير وفقاً لها، وهذا ينطبق على التغير الفكري والتربوي الذي نشأ بعد ظهور الفلسفة الوجودية.
ومن الممكن تلخيص أهم الأبعاد التربوية لما جاء به كل من كيركيجار وسارتر بما يأتي:
- انطلق كيركيجارد في فلسفته من تبجيله الشديد للفيلسوف البطل سقراط، ومثّل التهكم السقراطي أساساً في التفكير لديه. وليس غافلاً لأي باحث تربوي أن الطريقة السّقراطية تعدّ من أفضل طرق التدريس حيث أنها تدفع الطالب على أن يسأل نفسه، وبذلك يبحث عن الحقيقة ومفهوم الوجود الإنساني الخاص به. إضافة إلى أنها تنمي في المتعلم القدرة على التفكير وحرية التعبير والابتكار.
- حرية الإنسان هامة جداً لأنها وسيلة لبلوغ وجود شخصي أصيل، وهذا الوجود الشخصي الأصيل تهدف إليه التربية وتسعى لتحقيقيه، من خلال تفعيل الطريقة التي تعتمدها الفلسفة الوجودية في التدريس وهي الطريقة الحوارية لما لها من أثر هام جداً في تحقيق الفرد لذاته.
- اهتمت الفلسفة الوجودية بالوجود الإنساني، وتحديداً بوجوده العيني المباشر. وهنا يبدو ضرورياً الاستفادة من فكرة الوجود الإنساني في الفلسفة الوجودية في المجال التربوي. لأنه من الضروري تربية المتعلم على فهم طبيعة وجوده الإنساني.
- تؤكد الفلسفة الوجودية على دور الإنسان الفرد في الوصول إلى الجوهر الأساسي للمعرفة عن طريق عملية البحث والتحليل. وعلى أهمية صقل خبرة الفرد الشخصية، مع الإشارة إلى أن الوجودية تغرق في الذاتية وتهمل أحياناً وجود الفرد ضمن الجماعة في مقابل تأكيدها على الفرد. ولذلك من الممكن في المجال التربوي الاستفادة من فكرة تعزيز الفردية مع عدم إغفال وجود الفرد ضمن الجماعة وأهميته ليكون الوجود الإنساني جزءاً من الصورة الكاملة.
- ترفض الفلسفة الوجودية مبدأ التلقين، وتبدو تجربة الفرد لديها أفضل وسيلة للوصول للمعرفة. وفي هذا تأكيد على ضرورة صقل الفرد الإنساني ومواهبه عن طريق منح الفرد الحرية المطلقة في التفتيش عن والبحث للوصول لحقيقة المعرفة. وهنا تبدو الحياة بكل ما فيها بمثابة المدرسة التي يتعلم منها الإنسان كل شيء، والتركيز على قدرات الفرد وإبداعاته أمر يعد من أهم ما تركز عليه النظريات التربوية.
ويمكننا تلخيص كل ما سبق بأن فلسفة الوجود الإنساني ترى أنه علينا في التربية أن نراعي ما يأتي:
- تبتعد الفلسفة الوجودية في أفكار عن التلقين كآلية في الحصول على المعرفة، وتبدو المناهج الثابتة مرفوضة بالنسبة إليها، إذ يبدو ضرورياً أن تكون المناهج قابلة للتطور الدائم وأحياناً يكون هاماً الخروج عن إطار المناهج الدراسية في العملية التعليمية.
- تؤكد الوجودية من خلال أفكارها على أهمية الوجود الإنساني، وتساعد التربية في جعل المتعلم يقدر قيمة الوجود الإنساني وأهميته.
- ضرورة التأكيد على الذاتية لدى المتعلم ودورها في العملية التربوية، وتنمية الفردية وتقدير الذات لديه.
- تربية الفرد الحر الواعي، القادر على الاختيار وممارسة حريته بمسؤولية.
- تدريب الفرد المتعلم على ممارسة النقد بحرية وتلقائية.
إن ما سبق يؤكد على أهمية البحث الدائم والدؤوب في الفلسفة، في سبيل الاستفادة من الأفكار الفلسفية في بناء فلسفة تربوية هادفة إلى بناء الإنسان الواعي القادر على النهوض بالمجتمع. مع الإشارة إلى أهمية الحذر في انتقاء الأفكار الفلسفية ونبذ السلبيات كي لا تؤثر في سير العملية التربوية.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.