Anatomy of a Fall.. فيلم فرنسي يطرح سؤالًا لا يملك إجابته!

 يوجد جثة. يوجد بقع دم متناثرة تخرّب اللوحة الساحرة للثلج الأبيض. وهناك بالتأكيد غموض يكفي لإقامة فيلم. يبدأ فيلمنا اليوم بالأجواء المعتادة عندما تسقط جثة في الدقائق الأولى من أي عمل، تشوش وارتباك ومشاعر مضطربة.

 ولكنه ينحدر بنا هذه المرة إلى تشريح نوعٍ ٱخر من السقطات، بعيدًا عن تلك التي نراها في اللحظات الأولى من الفيلم، يتطرقّ إلى سقطةٍ يسقطها البطل ببطء على مدارِ أعوام، وفجأة يصطدم بالأرض، ويموت. 

وقد فاز فيلم الدراما والإثارة الفرنسي الذي نتحدث عنه اليوم في "أراجيك فن" Anatomy of a Fall بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي في دورته الـ 76، ولا يزال حتى الاَن أحد أهم أفلام العام الحاضرة بقوة ضمن فعاليات الأنشطة السينمائية بالمهرجانات الفنية على المستوى العربي والعالمي.

هل سقط الحبّ من تلقاء نفسه أم قفز؟ أم أنه قد دُفع من العُلية مرتطمًا بكل ما في طريقه قبل أن يصل للأرض؟ 

يبدأ الفيلم بشاشة سوداء وصوت امرأة تسأل بصوتٍ رشيق: 

”ماذا تريدين أن تعرفي؟“

ومن ثمً تبدأ الألوان في بث روحها في الفيلم، ونستنتج من السيناريو الدائر أن ساندرا كاتبة روائية ناجحة وتجري مقابلة في صالةِ بيتها. وفجأة، تبدأ نغمات موسيقى صاخبة في التسلل إلى كل أركان البيت، موسيقى تجعلك غير القادر على سماعِ صوت أفكارك، ناهيكَ عن التحدث مع شخص ويسمعك وتسمعه. 

في زواجٍ يدفع صموئيل دومًا إلى سؤال نفسه إن كان المجهود الذي يبذله كافيًا أو إن كان حقًا أبًا صالحًا، يجد نفسه عالقًا في شِباك الاكتئاب بينما تشق زوجته -ساندرا- طريقها منتقلةً من نجاح إلى ٱخر.

يظلّ صموئيل عالقًا في نقطة واحدة من الماضي وعاجزًا عن المضيّ قدمًا، عاجزًا عن منع نفسه من الشعور بالذنب، وغير القادر على إنهاء روايته التي عكف على كتابتها، عاجزًا عن مسايرة نجاح زوجته الكاسح، ولا تستطيع هي أو أي شخص ٱخر أن تنتشله من كل ذلك، وحده القادر على مقاومة تلك العتمة ومنع جسده من التهاوي.

وكأن فقدان زوجها لم يكن كافيًا، تضطر ساندرا أن تشرح تعقيدات علاقتها المضطربة مع زوجها أمام العالم وابنها المصاب بالعمى البالغ من العمر إحدى عشر عامًا فقط. ولم يكن التحدي الأصعب الذي يواجه ساندرا هو تبرئة نفسها من تلك التهمة التي وجدت نفسها متورطة فيها، ولكن كان التحدي الحقيقيّ هو أن تفعل ذلك بفرنسية سليمة.

بفرنسية مهزوزة تقف ساندرا أمام القاضي بوجهها الخالي من التعابير وتحاول تنزيه صورتها أمام المحكمة والأهم، أمام ابنها. ولأن مشهد السقطة يخلو هو الٱخر من أي أدلة أو تفصيلة مهمة.

كان على المدعّي العام أن ينبشَ في ماضي ساندرا وصموئيل، دون تركِ أي تفصيلة قد تكون ذا فائدة، مشاجراتهم، الكبير منها والصغير، علاقتهما بابنهما، علاقتهما الجنسية، وحتى الاستشهاد ببعض الفقرات من روايات ساندرا - التي يُكتب على غلافِها بالخطّ العريض من وحي خيال المؤلف- ومحاولة عكسها على موقفها في القضية.  كان عليه أن يفتشّ جيدًا ليجدَ أمامه حائط مثقوب وزواج ٱيل للسقوط.

نرشح لك: ما الذي يجعل الفيلم كلاسيكيًا؟.. النقاد يجيبون لـ “أراجيك فن”

 بدايةً من الملابسات حول دخول صموئيل في اكتئاب مدقع والعلاقة المباشرة أو غير المباشرة لساندرا بذلك، مرورًا بكل الأفكار التي تجتاح عقل دانيال الصغير حول العلاقة التي كانت تربط بين والديه، يجد نفسه عالقًا بدوره بين احتماليْن كلاهما مروّع بالقدر ذاته.

إما أن والدته وحشًا مرعبًا ودفعت والده من الشرفة أو أن والده الذي أحبّه كثيرًا لم يحبّه هو بالقدرِ الكافي وتركه بمفرده في منتصفِ الطريق، تنهمر الموسيقى من بين أصابع دانيال الضئيلة ومفاتيح البيانو وتنهمر معها كل أسرار البيت الذي كان يزداد برودةً كل يوم، إلى أن تجمّد تمامًا.

تسجيلٌ صوتيّ لم تكن تعلم ساندرا بوجوده، طبيب صموئيل النفسي يقرّ بأن ساندرا شخصية متحكمة ومتبلدّة المشاعر، إدانة ساندرا بنهب أفكار صموئيل وكتابة رواية تحمل اسمها، إلقاء ساندرا اللوم على صموئيل بعد الحادث الذي تسبب في فقدان دانيال لبصره؛ جميعها قطع مبعثرة من أحجية لا يعلم أحد متى وكيف تكتمل، كلها تفاصيل مكتوبة بعناية لتلتقط صورة رجلٍ يسقط على مهلٍ، ولا ينتبه أحد إلا بعد مفارقته الحياة.

يركز فيلم Anatomy of a Fall على إلقاء السؤال أكثر من إيجاد الإجابة، لا يكترث بإيجاد حل لمعضلة مَن المذنب ومَن البريء، بل يدرسُ برويّة جزءًا صغيرًا من علم النفس البشري وكيفية تشييد البشر لرواياتهم الخاصة بناءً على معلومات مجتزأة ومتحيزة.

هل يمكنك أن تثبت مشاعرك الصادقة أمام شخص يتهمّك بقتل زوجك؟ هل يمكنك أن تقفَ أمامه وتخبره عن قصة حبكما التي ليس لها مثيل؟ وكيفَ يمكن لك أن تثبت لابنك أنك لستَ الوَحش الذي يدعّي كل من حولك أنك عليه؟ وربما لو كان دانيال مبصرًا لَرأى والدته وَحشًا أيضًا، ورأى المشهد مكتملًا دون أي قطع مفقودة.

تقول الناقدة السينمائية كلاريس لوغري: 

”من الصعب ألا تجد نفسك منغمسًا حتى أخمص قدميك في هذا الفيلم الذي تقف بطلته في منتصف قاعة المحكمة مثل صندوقٍ غامض تُفرَغ محتوياته أمامنا على مهل“.

بينما يقول براين تاليريكو (رئيس جمعية نقاد السينما في شيكاغو):

”يطرح فيلم Anatomy of a Fall أسئلة عميقة حول شخصياته المعدودة ويبقى مكمن قوته في أنه لا يملك كل الإجابات“.

نرشح لك: فنانون في مرمى الانتقادات.. مطرقة الأخطاء أم الضغط الإعلامي؟