فيلمٌ عن الآباء والأبناء… أطفالٌ تولد وتحبو على القسوة والعنف
6 د
بعد فيلمه السابق “العودة لحمص” يعود مرةً أُخرى المخرج السوري طلال ديركي لوطنه، ولكن لا يصحبنا هذه المرة لرحلة عبر النوستاليجا لبلدته القديمة، ولكن يأخذنا إلى جانب قاتم للغاية من حاضر سوريا، وذلك بعدما خاض مغامرة البقاء لمدّة تزيد عن العامين مع عائلة من المجاهدين السلفيين ليتعرف عليهم عن قرب، وينقل لنا تفاصيل حياتهم بعين واعية في فيلم عن الآباء والأبناء
فيلم عن الآباء والأبناء
فاز فيلم عن الآباء والأبناء بجائزة أفضل وثائقي من مهرجان صن دانس 2018، بالإضافة لعدّة جوائز أُخرى وترشيحات أكثر من أضعها هنا في فقرة واحدة، وعُرض في مهرجان الجونة السينمائي بدورته الثانية سبتمبر الماضي، ليحصل على جائزتين هما نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي طويل، والنجمة الفضية لأفضل فيلم وثائقي طويل.
وهي جوائز مستحقة بالفعل، ليس فقط لموضوع الفيلم الشائك، أو المخاطرة الكبيرة التي قام بها لتصويره، ولكن كذلك لقدرات المونتاج العظيمة التي استطاعت اختزال كلّ المادة الفيلمية التي صورها على فترات طويلة حتى يحقق في النهاية هذا النسيج المتماسك لفيلم يقدّم الحقائق بصورة ساحرة تجذب المشاهد من البداية وحتى النهاية.
“العائلة التي تصلي معًا تبقى معًا”
ذلك هو منهج الشخصية الرئيسية الذي استطاع المخرج طلال ديركي إقناعها بأن يظل معه ليصوّر حياته بهدف صنع فيلم تسجيلي عن حياة الجهاديين السلفيين، ليتعرف أكثر على هؤلاء المسلمين الذين قرروا الجهاد حتى بناء الدولة الإسلامية.
لم تركز كاميرا ديركي على العمل الحربي الذي يقوم به أبو أسامة، أو رحلاته للبحث عن الألغام، أو إطلاق النيران على أعدائه، قدر ما كانت تتابع بشغف قصة الصغيرين أسامة وأيمن. ولدان في بدايات المراهقة، أخرجهما والدهما من المدرسة النظامية، وفي طريقهما لأن يصبحا جهاديين بدورهما عندما يحين الوقت وينضجان بما فيه الكفاية.
أسامة الطفل الأكبر لا يصلي، فيعاقبه والده، ولكن عندما يأتي الأوان يصبح الأكثر تحمسًا لأن ينضم للقوات، بينما على العكس منه أيمن طفل أكثر حساسيةً، يفتقد الدراسة والتعليم.
لم يكن الغرض في صب انتباه المشاهد على الطفلين وأقرانهما استدرار عطف المشاهد قدر وضعه أمام مرآة تريه مستقبل هذه البلاد لو ظلت أجيال قادمة تكبر وهي تفطم على القتل، وتحبو على الألغام التي تنتزع الأطراف في ثانية، وعندما ترغب في اللعب تصنع قنابل مرتجلة من الملح والرمل والماء، وتقفز أعلاها حتى تنفجر بصوت عالي فتقفز فرحًا.
أطفال لم يفقدوا فقط طفولتهم بالعيش في هذه البيئة المشوهة، ولكن لا أمل لهم، لأنَّ بعد سنوات طويلة سيقدمون قربانًا لحرب طويلة لا ناقة لهم فيها ولا جمال، وينضمون ويصبحون جزءًا من قطيع مغسولة أمخاخهم.
يحكي الأب عن سببه تسميته لابنه باسم أسامة، وهو أنَّه رغب في أن ينجب طفلًا يسميه على اسم أسامة بن لادن ويولد يوم 11 سبتمبر، وقد تحقق له أمله هذا بعد سنوات قليلة، ليأتي له الصغير أسامة، ثم أيمن الذي أسماه على اسم أيمن الظواهري.
مخرج في منطقة الخطر
عند مشاهدة الفيلم تسأل نفسك لماذا أقدم المخرج على هذه المخاطرة، يترك منزله وطفله وعائلته، وحياته الآمنة في ألمانيا، ليعود إلى سوريا ليس فقط في زيارة أو حتى إقامة ولكن ليعيش تحت حد السيف لمدّة عامين، معرض لخطأ الموت لو بكلمة خاطئة، يخفي ثوابته وما يؤمن به، يمسح كلّ حسابات التواصل الاجتماعي الخاصة به، يخشى كلّ ثانية أن يعرف أحدهم أنَّ زوجته غير محجبة.
على الرغم من أنَّ فيلم عن الآباء والأبناء تسجيلي، ولكن الممثل الوحيد الذي به هو مخرجه طلال ديركي، الذي قدّم دورًا تمثيليًا بإتقان لمدّة عامين حتى يستطيع الاندماج في أوساط الجهاديين السلفيين، ويحصل على هذه الساعات الطويلة من التصوير قبل أن يقطعها ويشكله في هيئة العمل الفني المميز الذي شاهدناه.
يقول ديركي إنَّه صنع هذا الفيلم؛ لأنَّ دماء المقاتلين تجري في عروقه، ولكنه لا يحارب بالقنابل ولا البندقيات، وسلاحه هو الكاميرا الخاصة به التي يوضح بها وجهة نظره ومخاوفه حول مستقبل بلاده.
في لقاء معه أوضح ديركي أنَّه خلال تصويره المشاهد الأخيرة من فيلمه السابق رغب في أن يفهم أكثر لماذا هؤلاء الناس الذين كانوا يهتفون بالديموقراطية والحرية الآن أصبحوا يؤمنون بمبادئ راديكالية إسلامية؟ وخلال هاذين العامين من معاشرة أبو أسامة وأهل منزله فهم أكثر عن الجهادية السلفية، وهي العقيدة الأكثر تشددًا في أفكارها من السلفية العادية.
هل هناك أمل؟
أبو أسامة في الفيلم يرى أنَّ الحرب لا نهاية لها حتى الوصول إلى الدولة الإسلامية من وجهة نظر الجهادية السلفية، وفي سبيل ذلك لن يفني فقط نفسه، ولكن سيقدّم أولاده ليكملوا هذا المشوار من بعده، وأنَّ من أهم مهامه إعدادهم لذلك وليس لهم الحق في الاعتراض، وما أن يتعدوا عمر معين سيرسلهم للقتال.
بطلا الفيلم هما الصبيان أسامة وأيمن، أحدهما اختار الحرب، بينما الآخر يشتاق لمدرسته، يعامل أخوته الأصغر برقة، في عالم آخر كان من المكن لأيمن أن يمتهن مهنة التدريس أو الفن، أن يحقق أيّ مستقبل يحلم به، ولكن حتى لو عاد لمدرسته لبعض الوقت فلا مهرب من المصير المحتوم بالنهاية.
في لقاء مع المخرج بعد عرض الفيلم بمهرجان الجونة سُئل هل هناك أمل؟ هل لهذا نهاية، وكان رده أنَّ ذلك سيحدث لو اهتمت الأمم المتحدة بعملية التعليم بسوريا، ولو بدأ بناء وعي جديد بين الآباء والأبناء فلا تعود القسوة والعنف هي الأمر السائد في هذه العلاقة.
هل حاول فيلم تلميع الجهاديين؟
اتهم البعض الفيلم ومخرجه بأنَّه محاولةٌ لتلميع او إضفاء التعاطف على شخصية الجهاديين، وذلك بالتركيز عدّة مرات على مشاهد الأب مع أبنائِه، حيثُ يظهر حنونًا مهتمًا، يداعبهم طوال الوقت، ثم يظهر متألمًا بعدما فقد قدمه، فهل بالفعل قام ديركي بذلك؟
في الحقيقة المشاهد السابقة طبيعية في سياق الفيلم، فالجهادي السلفي في النهاية بشر مثلنا، ليس شريرًا خالصًا خارج من قصص الرعب التقليدية، هو شخص لديه مبادئ يؤمن بها، تقوده في اتجاهات ذات تأثير مرعب عليه وعلى مجتمعه ومن حوله، لكن من الطبيعي أنَّه في منزله شخص عادي لا يعذب أولاده لمجرد أنَّه متشدد دينيًا.
وقد ركّز الفيلم على شخصية أبو أسامة في المنزل عدّة مرات، ودوره في إدارته، فغير مشاهده مع أطفاله نتعرف على دور المرأة في حياته، والتي لم تظهر نهائيًا أمام الشاشة، ولم نعرف بوجودها إلَّا عندما علا صوتها بالبكاء بعد عودة الزوج مقطوع القدم محمولًا ليصرخ في نساء المنزل بالصمت، وإلَّا سيدمر المنزل فوق رؤوس الجميع؛ وذلك لأنَّ صوت المرأة عورة لا يجب أن يسمعها رجال غرباء.
لا يحتاج المخرج لأن يظهر أبو أسامة شرير تخرج النار من عينيه حتى لا يقول أحد إنّه يضلل المشاهد، فهو قدّمه كبشر بعيوب ومميزات وتوجهات، وأفسح له المجال ليتحدث عن آرائه والمستقبل الذي يرغب فيه، وتتبعه في لقطات متعددة وهو يقوم بأحد عملياته، أو يفكك لغم، ثم يرسل ابنه ذو الثلاثة عشر عامًا لمعسكر التدريب على القتال.
اعتبر مشاهد إلباس الصغار لبس الحرب، وتغطية وجوههم بالأقنعة السوداء هي الأكثر قسوةً طوال الأحداث، فانتزاع هذه البراءة، وتشويهها وطمسها لأغراض حتى يصعب على ذهنهم الصغير استيعابها قمةً في السوداوية والرعب، ذلك الرعب الذي استطاع رسمه ديركي على الشاشة بكلِّ صراحة ووضوح.
طلال ديركي وعن الآباء والأبناء
كرّس ديركي حياته لأكثر من عامين حتى يتعايش مع هذه العائلة التي تخالفه في المبادئ والأفكار، صوّر مئات الساعات الفيلمية، وفي النهاية استطاع استخلاص منها هذا الفيلم الرائع بمدة تقل عن الساعتين من التكثيف لعالم مرعب. كثيرون وأنا منهم لم نكن نعلم بتفاصيله الحقيقية الصريحة حد الوجع، وعدد من المشاهدين لم يستطيعوا إكماله وخرجوا باكيين حزنًا على مستقبل مرعب رأوه بأعينهم.
المخرج الذي عمل سابقًا كمصور حرب، وكاميرا مان في السي أن أن ورويترز يخطط للتوجه في مشروعه القادم للسينما الروائية، وهي خسارة كبيرة لعالم السينما التسجيلية الذي سيفتقد مخرج جريء ذو رؤية واضحة للعالم، وصانع أفلام مقتدر بحق.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.