Past lives.. كيف يظهر الحب والخطيئة في السينما الكورية؟
7 د
”كل حياة تحتوي على ملايين القرارات. بعضها كبيرة، وبعضها صغيرة. ولكن في كل مرة يُتخذ فيها قرار، تختلف النتائج وتظهر نسخة من الواقع غير قابلة للمحو.“
- مات هيغ
فور انتهائي من مشاهدة فيلم Past lives داهمتني ذاكرتي بمشاهد عدة من رواية مات هيغ الشهيرة (مكتبة منتصف الليل)، ربما لأن بطلة العملين تحمل الاسم ذاته.
وربما لأن في كلا العملين نشهد شخصيات تراودهم فكرة الحيوات الأخرى التي كان من المحتمل أن يعيشوها لو اتخذوا في فترةٍ ما من فترات حياتهم قرارًا مختلفًا عما اتُخذ، قرارٌ واحد قادر على تغيير كل شيء، وقلب موازين كل الأمور.
تبهرنا سيلين سونج بتجربتها الإخراجية الأولى بفيلم مذهل يحكي حكايةَ صديقين عزيزين تأخذهم دروبِ الحياة إلى أبعد ما يمكن عن بعضهما البعض، ولكنهما يجدان طريقةً في خضمِ الحياة لربطِ الوصل من جديد.
ولأنني أؤمن أنّ مدى تعلقك بأي عمل يعتمد على المرحلة الحياتية والحالة المزاجية التي تصاحبك أثناء تلقّيك إياه للمرة الأولى، فإن هذا الفيلم قد وجدني ووجدته في الوقت المناسب تمامًا، وأتمنى أن تكون تجربتكم مماثلة!
Past lives – حيوات سابقة
فيلم درامي رومانسي أمريكي يحكي الفيلم قصة نورا وهاي سونغ وهما صديقان يرتبطان بعلاقة صداقة عميقة في طفولتهما لكنهما يتباعدان بعد هجرة عائلة نورا من كوريا الجنوبية وبعد مرور 20 عاماً يجتمع الصديقان القديمان مجدداً لمدة أسبوع مصيري حيث يواجهان معاً مفاهيم الحب والقدر في أحداث درامية رومانسية.
عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان صندانس السينمائي وحقق نجاحاً قوياً ونال إشادات واسعة من النقاد الذين رأوا شبهاً جميلاً بينه وبين الفيلم الصيني الأسطوري In the mood for love
عرض المزيد
إنتاج
2023
إخراج
سيلين سونغ
بطولة
متاح على
دوامة الـ (ماذا لو)
”الفتاة التي كنتُ، تركتها معكَ هناك، أثناء طفولتنا.“
يبدأ الفيلم بمشهدٍ لثلاثة أشخاص، رجلين وامرأة، يجلسون في حانةٍ، تنفردُ المرأة مع رجل منهما بحوارٍ ما بالكورية، وأثناء انهماكهما التام في الحديث، يجلسُ الرجل الثالث إلى جانبهم غارقًا في صمته الخاصّ.
يبدو منفصلًا تمامًا عن الحديث الدائر إلى جواره بلغةٍ لا يستطيع فهمَها، فما بالُك بمشاركتهم الحديث بها. ورغم أنّ المشهد يبدو عاديا للوهلة الأولى، إلا أنك تشعر ببعض التوتر يطفو في الهواء.
مشهدٌ يكتنفه الغموض، وهذا تمامًا ما أرادته سونج، ألّا تدري العلاقة التي تجمعهم، هل هم جميعًا أصدقاء، هل اثنين منهم على علاقة ما؟ أم هم مجرد معارف والتقوا بالصدفة البحتة؟
نعود بعدها 24 سنة كاملة إلى الوراء، لنجد نورا وهي سونج مجرد طفلين في الثانية عشر من عمرهم، يلعبان يمينًا ويسارًا تحت سماءِ مدينة سيول، وسُرعان ما تفصلهم من بعدِ تلك الذكرى الكثير من السنوات والكثير الكثير من الأميال وذلك حين تقرر عائلة نورا الانتقال إلى كندا بشكلٍ جذريّ بلا وداعٍ يليقُ بتلك العلاقة الوطيدة التي جمعتهما.
باللعب مع شريطِ الزمن، ينتقل بطليْ فيلمنا بدورِهم بين الماضي والحاضر، ويجدان بعضهما البعض مرةً أخرى ويلتقيان بعد مرورِ 12 عامًا منذ سفرِها، ولكن هذه المرة يفصلُ بينهم شاشةَ كمبيوتر وليس بضعة خطوات.
تبدأ من هنا دوامة الـ(ماذا لو) في الحومِ حولهما، ماذا لو لم تسافر نورا أبدا إلى كندا؟ ماذا لو سافر هو وتركها خلفه؟ ماذا لو التقيا قبل ذلك بسنوات؟ ماذا لو التقيا على أرضِ الواقع؟ ماذا لو أمهلتهما الحياة فرصةً حقيقية واحدة لاختبار مشاعرهما؟ الكثير من الأسئلة التي تبدأ جميعها بـ(ماذا لو)
والكثير من الأجوبة بـ(ربما) وبين هذا وذاك، فيضٌ من الندم.
بالنسبة لنورا، فإنّ هي سونج يحملُ معه نسخةً منها كانت ذاكرتها على وشكِ محوِها تمامًا، يحمل معه كل سنوات طفولتها التي تغمرها البساطة والمرح، يحدثها بلغةٍ من المفترضِ أنها لغتها الأم، ولكنها صارت مع مرورِ الأعوام تنطقها مثل طفلٍ يحاول جمعَ حرفٍ من هنا وهناك لتكوين كلمة واحدة، تخيل أن يصبح موطنك بكل ما فيه غريبًا عنكَ، وأن تحاول جاهدًا للتعرّف على ملامحه من جديد.
هو فيلمٌ ببساطةٍ عن اختيار نسخة منكَ لتكمل بها حياتك وترك النسخ الأخرى خلفك، لأنّ في كل مرةٍ تقول لا لشيءٍ ما فإنك في المقابل -ودون أن تشعر- تقول نعم لشيءٍ ٱخر.
ثقبٌ قابل للرتق
”أنتِ تحلمين بلغةٍ لا أفهمها“
ينقطع الاتصال بين نورا وهي سونج مرةً أخرى، يمضي كلٌ منهما في الحياة وجزءٌ من الماضي متأصّلٌ داخلهم، يمضي معهم أينما ذهبوا، وكأن مستقبلهم يقبع في ماضيهم بشكلٍ أو بٱخر. تلتقي نورا بٱرثر، ويقع كلٌ منهما في شِباك الٱخر، وينتهي بهم الأمر إلى الزواج، في حين يسافر هي سونج إلى الصين لإكمال دراسته ويقابل هو الٱخر فتاةً تخطف أنظاره.
ويفعل الزمن فعلته من جديد، ينسحبُ بساط العمر من تحت أقدامهم وتمر اثنتا عشر سنةً أخرى، وحينها يقرر هي سونج أخيرًا عبورَ المحيط للالتقاء بنورا وجهًا إلى وجه.
حين يعلمُ ٱرثر بقدومِ هي سونج، يداهمه القلق من أنّ الفجوة التي بينه وبين نورا في طريقها للاتسّاع، يصارحها أنها تثرثر في بعض الأحيان بالكورية أثناء نومها، وأنها تحلم بلغةٍ لا يفقه هو عنها أي شيء، وتطمئنه بدورها أن الأحلام لا يعيرها أي أحد اهتمامًا، وأن هي سونج مجرد صديق من الطفولة ليس إلا، وأن الثقبَ الماكث في علاقتهما قابل للرَتق. وتلقي لنا سونج هنا سؤالًا خفيًا، هل يمكن للمرء حقًا أن يشعر بالسعادة في حياته الحالية حتى وهو يعلم أن هناك قطعة ما من الأحجية مفقودة؟
حين يلتقي كلٌ من نورا وهي سونج أخيرًا، يشعران أنهما قد عادا عشرين عامًا للوراء، طفلان يضحكان من قلبهما، لا يحملان أدنى همّ، يملكان تصورًا مثاليًا عن العالم، وحفنةً هائلة من الأحلام، يشطحان بخيالهما، يتقاسمان اللهوَ وشطيرةَ جُبن، ويمضيان دون أن يلتفتوا إلى الوراء.
بدأ هي سونج رويدًا رويدًا في تقبّل أن الانجذابَ الذي يشعر به تجاه نورا نابعٌ من السبب نفسه الذي فصل بينهما كل هذه السنوات، إن نورا شخصيةٌ متطلعة، تطمح دومًا لما هو أبعد، حتى لو تطلّب منها الأمر أن تعبر إلى الضفة الأخرى من العالم وتترك كل ماضيها خلفها، ولكنها لم تكن تعلم أن ماضي المرءَ يظلّ يلاحقه مهما ابتعد. تقبّل هي سونج أخيرًا أن نورا قد رسمت لوحةً دقيقة للغاية لحياتها وأنه ليس له مكان ولو في أي ركنٍ منزوٍ فيها.
المشي والصمت، ثنائي بديع
”أكملنا مسيرنا في صمت تام، صمت غاضب وصاخب، صمت منفعل وعنيف، صمت يكاد يصمّ الآذان.“
- أحمد عبد المنعم
من صديقيْ طفولة اعتادا المشي سويًا كل يوم مِن وإلى المدرسة، إلى غريبيْن لا يعرفان شيئًا عن بعضهما البعض، يسيران جنبٍ إلى جنب، يحاولان تبادل أطراف الحديث عن أي شيء وكل شيء، وحين ينفذ رصيد الكلام من الطرفيْن يبدأ الصمت في الامتداد، ولكنه صمتٌ يحوي الكثير من الكلام الذي لم يُقال، صمتٌ بحجمِ الأحاديث التي لم تُفتح طوال تلك السنين التي فصلت بينهما.
واستطاعت سونج أن تبرزَ هذا العنصر بمهارة، لأن قوة هذا الفيلم -في رأيي- تكمُن في فواصل الصمت بين المشهد والٱخر، حيث تلعب لغة الجسد والتمثيل القويّ دورَ البطولة بجدارة، فالأهم في هذا الفيلم فيما لم يُقال بينهما وليس فيما قيل.
العلاقة التي تجمعهما لم تعد مفهومة، غارقةٌ في الغموض، لا يمكنك أن تقول أنهما حبيبيْن، لأن طرف منهما في زواج مستقرّ، ولا يمكنك أن تقول أن نوعًا ما من الصداقة يجمعهما، لأن الأصدقاء يكونون أقل غُربة، ولا يمكنك أن تطلق عليهما غرباء تمامًا، لأن كل منهما يتشابك ماضيه مع الٱخر. لذا، فنحن أمام علاقةٍ فريدة من نوعها، لا تزال تحاول أن تجدَ لنفسها اسمًا يناسبها.
يقول الناقد السينمائي John Serba:
”إن التجربة الأولى لسيلين سونج في الإخراج من التجارب النادرة، حيث تقدّم دراما للبالغين مكتوبةً وممثلة بذكاءٍ وحرفية، تقدم حوارًا لا يُنسى، وأداءً يستحق المشاهدة لٱخر لحظة في الفيلم.“
نحن أمام فيلم عاطفيّ من الدرجة الأولى، يملك طبقات عدّة تنتظرك لسبرِ أغوارها، ويقدم حكايةً صادقة يتمّ حكيَها ببراعة وسلاسة، لا وجودَ للخير والشر والصراع الأبديّ المحتدم بينهما، مجرد شخصيات يختبرون الحياة بطرقهم المختلفة، يجربّون مختلف نكهاتها، الحب، النجاح، الطموح، الفشل، اليأس، بعض الندم وأطنانًا من الحيرة.
ما يجعل هذه الحكاية توصف بالصدق وقادرة على وطءِ قلبِ المُشاهد، هو أن سيلين سونج استلهمت أحداث الفيلم من حياتها الشخصية، حيث وجدت في يومٍ من الأيام نفسها في حذاءِ نورا، تجلس في موقف لا تُحسَد عليه بين زوجها وصديق طفولتها وتقول عن ذلك الموقف:
”أدركتُ في لحظةٍ من اللحظات أنني لم أكن أترجم بين لغتيهما وفقط، ولكن الأمر كان أشبه بترجمة جزأين مني، أحدهما قد تركته خلفي وكدت أنسى أمره، والجزء الآخر لا يزال يحاول تبديدَ غربته بشتى الطرق.“
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.