فيلم Shutter Island يلقّن المخرجين درساً قاسياً
7 د
سكورسيزي يحلق مع دي كابريو وكنغسلي في تحفة سينماية تحاكي تاركوفسكي، وهيتشكوك في
فيلم Shutter Island
خمسة أفلام جمعت المخرج الأمريكي الكبير ذي الأصول الإيطالية مارتن سكورسيزي، مع النجم ليوناردو دي كابريو، آخرها كان فيلم (The Wolf of Wall Street) عام 2013 الذي حصد 5 ترشيحات للأوسكار.
بداية الشراكة بين الاثنين بدأت عام 2002 عبر فيلم (Gangs of New York) الذي رشّح لعشر جوائز أوسكار، واستمرت الشراكة في تجربة ثانية عام 2004 بـ(The Aviator) الذي رشّح لـ11 جائزة حصد منها 5، وفي عام 2006 جاءت التجربة الثالثة عبر (The Departed) الذي رشّح لخمسة جوائز أوسكار حصد منها 4 بينها جائزة أفضل مخرج لـ(سكورسيزي).
ولكن أفضل الأفلام بين النجمين كان فيلم (Shutter Island) الذي أنتج في عام 2010، ورغم أنه لم يدخل في حسابات أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة التي تمنح جوائز الأوسكار لما يقدّمه من أجواء غير معتادة، إلا أنّ الفيلم اعتبر من أروع ما قدّم في السينما الأمريكية، لقّن خلاله المخرج ذو الأصول الإيطالية المخرجين في كل أنحاء العالم درساً قاسياً في السينما مستحضراً المبدع الروسي (أندريه تاركوفسكي)، فيما كان فسحة استثنائية لتفجير طاقات (ديكابريو)، فماذا عن هذا الفيلم؟
ملاحظة: المقال يحتوي على تفاصيل متعلقة بأحداث الفيلم
فيلم (جزيرة شاتر) المقتبس عن رواية للكاتب الاميركي دنيس ليهان تحمل نفس الاسم (ثالث رواية لهذا الكاتب تنقل إلى الشاشة الكبيرة) لم يحمل في حبكته الرئيسية الجديد على صعيد الأفكار المطروحة والمواضيع ولكن طريقة المعالجة التي قدمها (سكورسيزي) أفرزت العديد من الطروحات والتساؤلات المتجددة.
تدور أحداث الفيلم في عام 1954، حول تيدي دانيالز (ليوناردو دي كابريو) المارشال الأمريكي الذي يأتي إلى جزيرة (شاتر) برفقة مساعده شاك (مارك رونالدو) للتحقيق في هرب أحد نزيلات مشفى الأمراض العقلية الموجود على الجزيرة والذي يحوي أخطر المجرمين المضطربين نفسياً، وبإدارة مجموعة من الأطباء على رأسهم كالاوي (بن كينغسلي)، التحقيقات تزداد إثارة بهبوب عاصفة على الجزيرة التي تجبر المحققين على البقاء أياماً إضافية، مما يدفع بـ(تيدي) للعودة إلى ماضيه (وحشية الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها ومارس خلالها أبشع الجرائم منها قتل 500 نازي عزّل دون رحمة)، و(موت زوجته بسبب رجل مختل أشعل النار في المبنى الذي يعيش فيه).
مشاهد مسرحية هيتشكوكية
شخصيات (سكورسيزي) في هذا الفيلم لا تختلف كثيراً عن الشخصيات التي قدمها في أفلامه السابقة كـ(الثور الهائج) و(سائق التاكسي) فنراها شخصيات محملة بالغضب والثورة إلى أقصى الحدود وتحتاج لمتنفس لتحول هذا الغضب إلى أفعال، ولكن ما يميز شخصيات هذا الفيلم عن شخصيات أفلام (سكورسيزي) السابقة، هي حالة البعد الإنساني المفعم بالسوداوية، حيث استخدم أسلوب الخمسينيات السينمائي، والذي أطلق عليه الناقد الفرنسي الشهير (نينو فرانك) اسم (الفيلم الأسود)، وبطريقة (هيتشكوك) المرعبة يدخل (سكورسيزي) عوالم جديدة في هذا الفيلم، عن طريق شبكة معقدة من الأحلام المتسلسلة التي تسير للوراء والأمام منتقلة بين الواقع والخيال خالقةً مجموعة من الأدلة والبراهين حول الحقيقة وراء غموض الجزيرة والأحداث التي تجري فيها، ابتعاد المخرج ذو الأصول الإيطالية عن الخدع السينمائية المبتذلة المعتادة في السينما الهوليوودية واعتماده أساليب سينمائية قديمة في التعبير والمعالجة كان لها أثر كبير في الصراعات التي قدمها في الفيلم، خاصةً أن المشاهد السينمائية بدت في بعض الأحيان وكأنها مشاهد مسرحية من أحد الملاحم التاريخية، فالديكور المستخدم وحتى الخلفيات ظهرت وكأنها موجودة على خشبة المسرح وهو ما أضاف بعداً جديداً على الدراما السايكوباثية الداكن، وهو ما ترافق مع موسيقا تصويرية أنجزها رفيق درب (سكورسيزي) الكندي (روبي روبيرتسون) والتي أضافت للفيلم إثارة وتشويقاً بما تحمله من أبعاد نفسية تفرضها على المتلقي، لينتقل الفيلم إلى استكشاف عوالم النفس البشرية ونوازعها وأهوائها وانتماءاتها.
تاركوفسكي حاضراً
من الحاضرين في الفيلم كان أسلوب المبدع الروسي (أندريه تاركوفسكي)، والذي استخدمه (سكورسيزي) في عدة مشاهد، وربما أكثرها قرباً من أسلوب (تاركوفسكي)، مشهد نزول البطل (دي كابريو) إلى أحد الجروف الصخرية بحثاً عن صديقه، لتبدأ الفئران بالخروج من كل الفتح الصخرية في مقاربة لنزلاء المشفى (السجن) والذين يشابهون الفئران بنظر القائمين عليه، ومن المشاهد التاركوفسكية الأخرى الحلم الذي يراود (دي كابريو) ويرى فيه زوجته الراحلة بعد إغراقها أبناءهما الثلاثة في لحظة جنون، في مقاربة للجنس البشري ووحشيته.
العنف البشري
من المقاربات التي قدمها (سكورسيزي) في الفيلم الحرب العالمية الثانية، وما تمخض عنها من عنف وجرائم ضد الإنسانية، عبر الأحلام التي تراود (دي كابريو) وما ارتكبه في هذه الحرب، ويستخدم المخرج إضافة إلى الأحلام الحوار الذي كتبته (ليتا كالوجريديس) بأسلوبية مميزة، فنسمع في أحد الحوارات قول (دي كابريو) حول الحرب العالمية ووحشيتها لزميله في التحقيق: أزلنا خمس مئة روح عن وجه الأرض، قتلناها جميعاً، لم يكن ذلك دفاعاً عن النفس، ولم يَدخل ضمن الحرب، كان قتلاً، لم تكن هناك مساحة رمادية، كانوا يستحقّون الأسوأ، لكن، كيف يمكنك العيش مع هذا؟ كيف ستخبر زوجتك وابنك عما فعلت؟ إنك أعدمت أناساً عزلاً، قتلت صبية بملابس وأسلحة عسكرية، يستطرد: الجواب أنك لن تتجرّأ على إخبارهم، إنهم لن يفهموا الأمر، لأن ما قمت به هو نتيجة للسبب الصحيح، لكن أيضا ما قمت به خطأ لن تفلح في نسيانه. يعكس هذا الحوار استمرار (سكورسيزي) في تقديم قضيته الأولى في أفلامه السينمائية وهي (العنف البشري).
رفض (سكورسيزي) للنازية وممارساتها، استمر في (جزيرة شاتر)، عبر مقاربة الأحداث التي تجري على الجزيرة واعتقاد المحقق (دي كابريو) بأن القائمين على المشفى (السجن) يقومون بغسل أدمغة السجناء لإنتاج الرجل الشبح الذي لا يشعر ولا يتألم كما كان يفعل النازيّون سابقاً بأسراهم.
الدقائق العشرة الأخيرة
تحمل العشر دقائق الأخيرة من الفيلم الكثير من الغموض الذي يضاف إلى غموض الجزيرة والأحداث التي تجري فوقها، ورغم كثرة الغموض في هذه العشر دقائق إلا أن (سكوسيزي) استطاع فرض عدد كبير من الأسئلة على المتلقي، والتي تحتاج للتفكير والتمحيص، فالمتلقي يصل إلى مكان يصعب عليه التفريق بين الواقع والخيال وبين الأحلام والحقيقية.
فبطل الفيلم المحقق تيدي يدخل إلى المنارة الموجودة على الشاطئ ظناً منه أنها المكان الذي يصنع فيه الرجل الشبح ليتفاجأ بوجود الدكتور وزميله، اللذين يحاولان إقناعه بأنه نزيل في المشفى منذ سنتين نتيجة قتله لزوجته التي قتلت بدورها أطفاله الثلاثة، ليحاصر بالأدلة والبراهين على ذلك، ويوافق في النهاية على الوضع، ولكن المشهد الأخير يعيد الشك لذهن المتلقي، حين يعود (دي كابريو) لاقتناعه وإقناع المشاهد بأنه محقق يبحث عن الحقيقة، ليقول لزميله: ماذا تفضّل، أن تعيش وحشاً أو تموت بطلاً، لينتهي الفيلم دون إنذار للمتلقي، وليترك سؤالاً هاماً من المجنون ومن العاقل؟
في الأداء التمثيلي
يبدو أن إيمان المخرج الكبير (سكورسيزي)، بالممثل (دي كابريو)ً، كان في محله، فرغم أن (دي كابريو) ظهر في العديد من الأفلام دون السوية المطلوبة، ولكن على ما يبدو أن تجربته السينمائية نضجت وأصبحت في أوجها فما قدّمه في هذا الفيلم يعتبر استثنائياً وقد يكون الأفضل في تاريخه السينمائي الذي بدأ قبل عشرين سنة، وربما السبب الأبرز لهذا الأداء هو الشخصية التي سمحت له في إظهار كل مواهبه، وتفجير قدراته في الوقت المناسب، وربما الوحيد الذي يتفوق على (ديكابريو) من حيث الأداء التمثيلي المقنع والمميز، هو الممثل (بن كينغسلي) والذي يعتبر من أهم وأفضل الممثلين المسرحيين في العالم، واستطاع عبر أدائه أن ينقل المتلقي إلى عوالم مختلفة بإتقانه وحرفيته العالية في أداء دوره.
درس سينمائي
ما قدمه (سكورسيزي) في (جزيرة شاتر) درس سينمائي للعالم أجمع، بعيداً عن الصورة المعتادة من الأفلام الهوليوودية التي تعتمد المؤثرات والخدع البصرية، فرغم أن الكلفة التقديرية للفيلم 80 مليون دولار أمريكي ولكن على ما يبدو أن هذه الكلفة صرفت كأجور للمثلين والفنيين، حيث استطاع (سكورسيزي) أن يقدم فيلماً عالمياً دون أن يستخدم عناصر الإبهار المعتادة والمستهلكة في السينما الأمريكية، إضافة لتقديم أول فيلم جماهيري من حيث شباك التذاكر (فمعظم أفلامه السابقة لم تحقق إيرادات عالية لما تحويه من أبعاد نفسية وإنسانية ثقيلة)، ليحقق هذا الفيلم عائدات كبيرة، كما أنه اختير ضمن قائمة أفضل 250 فيلم في تاريخ السينما منذ انطلاقها.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.