هل تستعيد الدراما السورية رونقها القديم المفقود في رمضان 2024؟
21 د
لأعوام طويلة عانت الدراما السورية من تقلبات وظروف قاسية كادت أن تفقدها بريقها وسحرها الأخاذ الذي خلبت به ألباب العالم العربي وجعلها واحدة من أفضل أنواع الدراما.
الظروف القاسية التي مرت بها البلاد انعكست بالقطع على الدراما، فالفن في النهاية أصدق انعكاس لواقعه وتراجعت مكانة الدراما السورية كثيراً، حتى ظن كثيرون أنها النهاية وأن الدراما السورية أصبحت شيئاً من الزمن الغابر لكن ومنذ العامين الماضيين لاحظ المشاهدون وجود نهضة حقيقية للدراما السورية.
ظهرت بعض الأعمال السورية المبشرة بعافية مستعادة بعد طول تراجع، أعمال نجحت في أن تتصدر قوائم المشاهدة في أكثر من بلد إضافة إلى ترندات وسائل التواصل الاجتماعي كـ "كسر عضم" الذي شغل العالم العربي بقصته القوية الجريئة و"الزند ذئب العاصي" العمل الذي ترسخت أغنية المقدمة الخاصة به في عقل وقلب كل من شاهده.
الأمر الذي أثلج قلوب كل عشاقها بالتأكيد لكن ومع هذا لا يمكن لنا إنكار دور الدراما المشتركة في هذا التعافي، فهذه الأعمال كانت الملجأ لأهل الفن وأتاحت فرصة قوية لصناع البلدين الشقيقين لدعم بعضهما فنياً وتقديم أعمال قوية جدلية كـ "النار بالنار" الذي خلق حالة جدل واسع بسبب جرأة القضية التي استعرضها.
لقد كان تطور الدراما السورية واضحاً بحق، وفي هذا العام كان التطور أكثر وضوحاً فحتى قبل بداية الموسم الرمضاني استطاعت بعض الأعمال السورية والمشتركة لفت أنظار المشاهدين ونجحت منذ عرض أولى حلقاتها في استقطاب اهتمام جماهيري قوي.
واليوم نتساءل في "أراجيك فن".. هل استعادت الدراما السورية رونقها القديم؟ ما هي أوجه التطور التي طرأت على الدراما السورية والمشتركة هذا العام؟
قصة متجددة وحكايات جذابة
تعد القصة أول وأهم عوامل العمل الفني أياً كان نوعه، فهي صلة الوصل الأساسية بين بقية العوامل والمصدر الذي تتفرع منه خيوط الحبكة كما أنها عامل الجذب الأول للمشاهد.
كانت القصة هي البطل الحقيقي لأعمال هذا العام، حيث إنها كانت قصصاً متجددة غير المطروقة ولم تقدم مئات المرات من قبل.
فأولاد بديعة كان حكاية عن صراع الأخوة الدموي بين مختار الدباغ الابن الشرعي لكبير صناعة الدباغة عارف الدباغ وبين ولاد بديعة سكر اللقيطة التي لا تعرف لها أباً وشاهين وياسين التوأم الذي أنجبته بديعة المشردة شبه البكماء من عارف الدباغ.
منذ أول حلقة نجح العمل في جذب المشاهد إلى قصته التي احتوت كل ما يمكن لأي مشاهد طلبه دراما مؤلمة واقعية مؤسفة وبالطبع انقسام زمني جعل المتابع فضولياً لمعرفة ما الذي أوصل الأحداث إلى هنا، تسير قصة ولاد بديعة بسلاسة حقيقية فنرى الماضي والحاضر بشكل متواز.
ونرى الصراع المرير بين الأشقاء مختار الذي يرى نفسه الوريث الشرعي الوحيد لعارف وبين ولاد بديعة الذين عانوا الأمرين في طفولتهم يتصاعد شيئاً فشيئاً مع تقدم الأحداث المثيرة، فيما كانت قصة مسلسل تاج أكثر تجدداً وتنوعاً فهي تدور في فترة زمنية قتلتها أعمال البيئة الشامية قتلاً لكن الذكاء الحقيقي تجسد في طريقة تقديم القصة.
فنرى قصة تاج الدين الحمال الملاكم القوي الزوج والأب الذي تنقلب حياته رأساً على عقب بعد اتهامه بالخيانة والتعامل مع الفرنسيين فيتعين على تاج محاولة لملمة شتات حياته وإثبات براءته من التهمة القذرة التي أوقعه فيها خصمه اللدود الخياط رياض بك عميل الفرنسيين المتخفي.
استطاع العمل تقديم قصة مثيرة قوية تجذب المشاهد بشكل فوري بطريقة تختلف تماماً عن كل الأعمال الأخرى التي تناولت ذات الحقبة الزمنية، لقد كانت حكاية تاج هي حكاية عن الحب الذي لا يموت والإخلاص لوطن تحبه مهما قسى عليك.
قدمت الحكاية ببراعة وجهد واضح برتم قوي متسارع يجعلنا متشوقين لنعرف ما الذي سيحدث بعد هذا هل سينجو تاج بسمعته ويستعيد حياته وشرفه؟ أمًا ع أمل فقد اتخذ منحى مختلفاً وكان حكاية عن الحياة بعد الموت فدارت أحداثه حول يسار الإعلامية التلفزيونية الحسناء الناجحة والقوية التي جعلت من منبرها الإعلامي صوتاً للواتي لا صوت لهن لكل امرأة معنفة مكسورة.
لكن وتحت كل قوة وعنفوان يسار يختفي ماض أليم قاس كشفته لنا الحلقات رويداً رويداً برتم قوي متصاعد، تتنقل الأحداث ببراعة بين عالمين متناقضين عالم يسار الثري المريح وعالم الضيعة حيث تعيش مجموعة من النساء تحت السلطة الكاسحة التي لا ترحم لرجل قاس هو سيف الذي يرى في النساء مشروع زواج وإنجاب لا أكثر.
لقد قدم ع أمل قصة جريئة غير المطروقة واستطاع جذب المشاهد إليه منذ اللقطة الأولى موضحاً أنه منافس قوي في السباق الرمضاني المزدحم بأعمال قوية بالفعل وأنه مختلف عن كل ما سبق تقديمه في عالم الدراما المشتركة من قبل.
لقد احتوى كل عمل من الأعمال الثلاثة التي ذكرناها قصة قوية مؤثرة لم تتطرق الدراما إليها قبلاً بهذا الشكل وقدمها بطريقة تلائم أصعب الأذواق وبأسلوب قادر على جعلنا متحفزين بشدة لمعرفة ما سيحدث كأبرز تطور طرأ على الدراما السورية خاصة.
فلفترة طويلة بقيت الدراما السورية حبيسة قصص مملة مكررة أو بعيدة للغاية عن الواقع، لكن ومما نراه الآن لم يعد موضوع القصة مصدر قلق بعد اليوم، لقد أصبحت الدراما السورية والمشتركة قادرة على سحرنا منذ أول حلقة بقصص غير المكررة ولم تقدم آلاف المرات من قبل.
طرح جريء لقضايا اجتماعية وتاريخية
إن الفرق الأساسي بين القصة والمسلسل أو الفيلم هو المعالجة الدرامية أي طريقة الكتابة التي تجعل المشاهد مشدوداً للعمل منسجماً مع أحداثه لكن ما يميز العمل ويجعله وبحق قوياً هو ما يعرف بالـ Plot Twist أو التواء الحبكة أي المنعطف القوي الذي ينقل الأحداث إلى مستوى مختلف تماماً.
ورغم أن تبني العمل لقضية معينة ليس شرطاً ضرورياً إلا أن وجودها يعكس صدقاً وأصالة ويضفي عليه عمقاً عاطفياً وإنسانياً فكانت معاناة النساء قضية أساسية لمسلسل ع أمل الذي تبناها منذ الحلقة الأولى بوضوح تام فتناولت أحداثه قضية ملّحة تعاني منها المجتمعات المحافظة حتى يومنا هذا.
إنها جرائم الشرف التي تحتمي بالقانون وتسمح بقتل مئات النساء كل عام بلا رادع أو رقيب، فعن طريق ربط خيوط القصة المنقسمة بين عالمين متنافرين استطاع ع أمل توضيح أنواع مختلفة من معاناة النساء كالقيود المجتمعية التي تضعهن ضمن تصنيفات وقوالب ظالمة فلو لم تتزوج فهي عانس ولو لم تنجب فهي عاقر.
أمًا لو كانت امرأة صلبة قوية فهي بلا أي شك امرأة وقحة ينبغي كتم صوتها، كانت الحبكة الدرامية أفضل ما في المسلسل فقد سارت أحداثه برتم سريع متصاعد تعرفنا فيه على يسار المرأة القوية مناصرة النساء وذات المنبر الإعلامي المسخّر لأجلهن وعلى ريّا الفتاة الطموحة التي تدرس في الجامعة بدون علم أهلها ولتحقيق طموحها.
هذا تتزوج بهارون حبيب أختها كطريقة مضمونة لتحقيق حلمها والحفاظ عليه لأجل شقيقتها الصغرى هديل، كان عالم ريا وهديل عالماً مختلفاً بالكامل عن عالم يسار فهما تعيشان تحت سلطة كاسحة لا ترحم لأبيهما سيف الذي يسيطر بيد من حديد على كافة أفراد عائلته.
ومع تقدم الأحداث يبدأ المسلسل بكشف أسراره الصادمة بالتواءات قوية في حبكته فنكتشف أن فرح صديقة يسار الصغيرة هي ابنتها كما تكشف لنا الأحداث أن يسار تخفي تحت قوتها وصلابتها سراً أخطر من كل الإشاعات التي نالت منها فيسار كانت ضحية جريمة شرف وشقيقها الذي حاول قتلها هو سيف نفسه والد ريا وهديل الذي لا يبدو أنه يعلم أن أخته ما زالت حية.
أمًا أكبر الصدمات حتى الآن فكان حقيقة أن يسار هي أم لابنتين لا لواحدة التواءات كثيرة تمتعت بها حبكة المسلسل والتي قدمت بطريقة قوية بارعة تجعل مشاهدته متعة حقيقية، أمًا ولاد بديعة فقد اتخذ منحى آخر وكان تقديم الأحداث مشوقاً بحق حيث أن أحداثه تسير في خطين زمنيين الماضي والحاضر تبدأ الحلقة دومًا باستعراض الماضي الخاص بالشخصيات.
وفجأة وفي ذروة الأحداث نجد أنفسنا أصبحنا في الحاضر ليتركنا العمل في حيرة ماذا حدث في الماضي كي يكون الحاضر بكل هذه القسوة؟ تسير حبكة ولاد بديعة بسلاسة حقيقية فالأحداث ليست سريعة وليست بطيئة لكنها متلاحقة قوية تنجح في ربط الزمنين بخيط يزداد قوة مع كل حلقة.
فرأينا كيف عاش أولاد بديعة المسكينة على هامش الحياة تحت رحمة عارف الدباغ الذي لا يجرؤ ولا يرغب في إعلان أبوته للتوأم ياسين وشاهين فيكتفي بإطعامهم من فتات مائدته لا أكثر.
لكن في الحاضر أصبح أولاد بديعة شديدي الثراء ونال شاهين شرف وراثة أبيه واسمه فيما خسر مختار أكثر مما يظهره الأمر الذي يجعلنا شديدي الحماسة لمعرفة السر الذي جعل ولاد بديعة يرثون عارف عوضاً عن أخيهم وسبب موت بديعة في حبكة بارعة تنسج وببطء حكاية مؤلمة عن الصراع بين الأخوة والاستغلال القذر من الإنسان لأخيه الإنسان.
وبالطبع الطبقية وتأثير ماضي الإنسان على حاضره، كل هذا جعل من ولاد بديعة عملاً قوياً يستحق المشاهدة بدون أي شك، أمًا تاج فقد عاد بنا في الزمن إلى الأربعينات لكنها ليست أربعينات مسلسلات البيئة الشامية التي لا يمل صناعها من تكرار نفس الحبكة مرة تلو مرة بدون تغيير ملموس إلا في أسماء الشخصيات.
حبكة تاج خارجة من قصص الأبطال الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم لأجل الاستقلال، فنرى كيف انقلبت حياة تاج رأساً على عقب في لحظة لأنه فقط أراد حماية رفيقه من العسكر فوجد نفسه مفلساً متهماً بالخيانة خاسراً لعائلته ولحب حياته.
ترتكز حبكة تاج على نوعين رئيسيين من الصراع بين تاج ورياض بك الذي ألبس تاج تهمة العمالة، رغم أنه هو الخائن الذي لا يرى غضاضة في منح الفرنسيين معلومات حساسة عن أهل بلده والصراع السوري الفرنسي الذي عرضه العمل بطريقة تختلف تماماً عن كل التدليس الذي أتخمتنا به الأعمال الأخرى.
ففي عالم تاج لا يوجد مختار وحارة وحلاق بخبرات طبية تفوق الواقع إنما هو صراع بين عاشقي الحرية ومحتل مصرّ على أنه يعرف مصلحة البلد أكثر من أبنائه!
لقد نجح العمل في استعراض الأجواء السياسية والاجتماعية لسوريا في تلك الحقبة الزمنية المضطربة بشدة ووضح الخريطة السياسية للعالم في ذلك الزمن فكانت أحداثه خارجة من عوالم الجواسيس المثير الذي أعاد لأذهاننا مسلسل رأفت الهجان الشهير بكل التشويق والإثارة والتوتر الذي حملته.
كما أظهر ثواراً ومناضلين من نوع مختلف إنهم الشبان المثقفون الطامحون لرؤية وطنهم حراً مستقلاً صراع دامٍ استعرضه المسلسل بوتيرة متسارعة تجعلك تلهث خلف الأحداث متشوقاً لترى ما الذي سيحصل الآن.
لقد كان تاج مختلفاً أكثر واقعية ودقة واستطاع أن يعرض الشام في أوج عزها بكافة تفاصيلها خاصة الترام الشهير الذي كان حلقة وصل في العاصمة ومصدر فخرها.
لا شك أن تاج كان البلسم الشافي لكل من أراد أن يرى سوريا الأربعينات كما هي لا كما يرغب الآخرون في تخيله وهو ما نجح العمل في تقديمه بطريقة تترافق مع حبكة جذابة ذكية تسير بوتيرة متصاعدة تدمج التاريخ بالحب بالقوة مع بعض لمسات الكوميديا التي تضيف رونقاً مميزاً بلا أي شك.
إن الحبكة هي طريقة رواية القصة وهي عامل أساسي في أي عمل درامي أو كوميدي أو حتى تاريخي وبما أن الفن انعكاس لواقعه فإن وجود أعمال تسلط الضوء على قضايا شائكة وحقائق لم تعرض من قبل هو أمر يسعد قلوبنا بالتأكيد.
خاصة أن الدراما السورية في أيامها الذهبية تفننت في عرض قضايا اجتماعية مصيرية محاولة تسليط الضوء عليها قدر الإمكان وقد كانت الحبكة أكثر تطورًا لاحظه المشاهدون الذين تاقوا بحق لعمل يرضي شغفهم وفضولهم بشكل حقيقي.
شخصيات جدلية
تعد الشخصيات العماد الذي تقوم عليه القصة، فمهما كانت قصة العمل جذابة مثيرة فإن الشخصيات القوية المتجددة هي تلك التي ينسجم معها المشاهد ويتأثر بها متفاعلاً مع كل ما يطرأ عليها وفي الأعمال الفنية لا تكتمل الشخصية إلا بوجود ممثل متمكن موهوب قادر على نقلها إلى الحياة واقناع المشاهد بها مهما كانت شريرة أو خبيثة أو حتى طيبة.
الممثل هو الأساس هنا والذي ينبغي عليه وبشكل دائم أن يطور من نفسه وموهبته وأن يتحدى نفسه مراراً وتكراراً خاصة لو أنه نجح في شخصية معينة فعندها ينبغي عليه الإنسلاخ عن القديم وبذل كل ما بوسع موهبته لإقناع المشاهدين بشخصيته الجديدة.
في حال كنت تظن الأمر سهلاً فتذكر أن نصف ممثلي السيت كوم الأمريكي الشهير Friends لا يزالون أسرى شخصياتهم التي قدموها لعقد كامل ولم ينجحوا في الخروج منها على الإطلاق، فهذا الأمر يتطلب من الممثل جهداً جباراً وموهبة قادرة على تقمص أي دور وبالطبع شخصية قوية مكتوبة بدقة وحرفية.
كان أبرز ما في ولاد بديعة هو الشخصيات التي لم يسبق لها مثيل فالقصة والحبكة في أساسها ترتكز على الصراع بين أربعة أخوة فرقهم المال والظلم.
ومنذ أول حلقة نجح كل منهم في جذب اهتمام المشاهد بشكل شبه فوري ذلك بفضل التقديم المتقن المعقد للشخصية والذي ترافق مع أداء تمثيلي استثنائي من كافة طاقم العمل فجسدت الرائعة سلافة معمار دور سكر ابنة بديعة التي لا تعرف لها أباً.
تعود سلافة للوقوف أمام كاميرا المخرجة رشا شريتجي بعد غياب 14 عاماً طويلة في ولاد بديعة خلعت سلافة ثوب الدكتورة أسيل حداد الذي أمتعتنا به لتسعين حلقة في مسلسل الخائن المعرب.
فعلى عكس أسيل المهذبة الأرستقراطية كانت سكر ابنة شوارع طفلة مشردة عاشت طويلاً على هامش الحياة ووجدت فرصتها الذهبية في العالم السفلي في الديسكو والرقص.
إن كل من يعرف سلافة معمار يعرف موهبتها الفذة وحضورها القوي المميز لكن سكر كان دوراً مختلفاً بحق وقد استطاعت سلافة إذهالنا بتقمصها لهذه الشخصية المعقدة الغريبة التي يصعب حقاً ألا تحبها وتشفق عليها والسبب يعود إلى إتقان بناء الشخصية وقدرة سلافة على بث الحياة فيها بشكل مثالي.
أمًا محمود نصر فارس أحلام نصف الفتيات الذي أغرمنا به منذ أعوام طويلة والذي قدم دور الدكتور جواد فياض في مسلسل كريستال المعرب فقد كان في ولاد بديعة مختلفاً للغاية فجسد دور مختار الدباغ الابن الشرعي لعارف الدباغ الذي ظلمه أبوه والحياة ووجد نفسه خاسراً لكل ما يملك بعدما سلب أخواه ورثته.
شخصية مختار غريبة بحق ويبدو واضحاً أن هناك خللاً عقلياً معيناً يعاني منه كما أنه عاش حياة صعبة فرغم ثروته الكبيرة إلا أنه كان دومًا خيبة أمل أبيه مما جعله شخصاً مهزوزاً بشدة تفاصيل نفسية كثيرة أبدع محمود في تجسيدها وأضفى على شخصية مختار لمسة جدلية حقيقية فالمشاهد وحتى الآن لا يعرف إن كان مختار شخصاً طيباً أم شريراً أهو صاحب حق أم أنه رجل جشع.
تناقض حقيقي أبرزه الأداء الملفت لممثل أبرز موهبته منذ أعوام طويلة هو محمود نصر، فيما كانت ثنائية سامر اسماعيل ويامن الحجلي من أفضل ما حصل في المسلسل إذ يجسد سامر دور شاهين ابن بديعة الذي أنجبه عارف منها مع توأمه ياسين الذي يجسده يامن كشاهين كان سامر رائعاً بكل تأكيد واستطاع بالقطع الخروج من شخصية ريان التي أذهلنا فيها في مسلسل كسر عضم.
فقدم شخصية أبعد ما تكون عنه يبدو شاهين غامضاً بحق، لكنه نجح في أن يكون وريث أبيه وأن يصبح سيد كار الدباغين بعدما كان مجرد عامل بسيط لكن أجمل ما في شخصية شاهين كان ذلك التناغم والكيمياء اللطيفة التي خلقها سامر مع يامن الحجلي الذي جسد دور ياسين البخيل بشكل مضحك والذي اختار طريقاً مغايراً لطريق أخيه.
فافتتح مكتباً للسياحة لكن الكسب السريع جذبه وتحول إلى مهرب، كانت ثنائية يامن وسامر مذهلة بحق إذ استطاع كل منهما إضفاء مسحة كوميدية جذابة على الأحداث التي تتحول إلى القسوة أحياناً، لكن كل هؤلاء الممثلين الرائعين تخطتهم إمارات رزق التي استطاعت أسر قلوبنا وإثارة تعاطفنا بكلمتين لا أكثر "يا كريم".
لقد كانت إمارات وبحق مذهلة وتمكنت من إيصال المشاعر القوية والعواطف الجبارة لشخصية بديعة عن طريق تطويع ملامح وجهها خاصة في المشهد الذي تسمع فيه ولديها يتناقشان حول أبوة عارف لهما فبدموعها وابتسامتها المتألمة كسرت قلوبنا وأوصلت لنا الألم الكبير الذي تعيشه بديعة المسكينة البريئة التي لا تعرف لنفسها في هذا العالم سوى أولادها وعارف الذي أبدع فادي صبيح في أدائه بكل تفاصيله.
فكان الأب القاسي على ابنه مختار والرجل العاشق لامرأة مسكينة مشردة كما أن مشاهد عارف وبديعة وبالنسبة لعدد كبير من المشاهدين كانت أفضل ما في العمل بكل العواطف الصادقة الحقيقة والكيمياء الرائعة بينه وبين إمارات وبين أبطال العمل بأكمله.
أمًا ع أمل فامتلك بدوره طاقماً تمثيلياً مذهلاً فجسدت ماغي بو غصن دور يسار الإعلامية التي تخفي ماضياً شنيعاً قاسياً خلف قوتها وصلابتها تعد ماغي من الممثلات الموهوبات القادرات على تجسيد أي دور ينسب إليها بحرفية عالية ويسار هو أول دور لها بعدما جسدت دور سحر في ثلاثية للموت.
لذا فقد كان أمام ماغي تحد صعب إذ كان عليها أن تنسلخ من سحر وتدخل في يسار دون أن تفقد رونقها المميز وهو ما نجحت فيه بالقطع فنجحت في تصوير الانقسام الذي تعيشه يسار بين ماضيها وحاضرها والألم الدائم الذي تعاني منه بسبب انفصالها الإجباري عن ابنتها ملاك.
لم تكن يسار مجرد إعلامية أخرى تتبنى قضية معينة لاستقطاب المشاهدين، بل كانت ضحية للعنف والجهل امرأة تخفي هشاشة لا تظهرها إلا في أقسى لحظات الضعف مزيج غريب من العواطف، نجحت ماغي ببراعة في عرضه وتجسيده حتى تشعرك أن يسار ليست مجرد شخصية تجسدها.
فيما جسد عمار شلق واحداً من أصعب وأعقد أدواره، فجسد دور سيف الرجل العنيف القاسي الذي لا يتوانى عن قتل نساء عائلته لو خالفن أوامره، إنه شقيق يسار الذي حاول قتلها من قبل ولا يعلم أنه فشل كان عمار مقنعاً بحق حتى أنك تكرهه بكل جوارحك وإن دل هذا على شيء فهو دليل على براعته وتمكنه من أداء دوره بأفضل شكل ممكن.
أمًا مهيار خضور فقد جسد دور نبال الدكتور الجامعي الذي يخفي أكثر بكثير مما يظهر ورغم غموض شخصيته إلا أن مهيار تمكن من سحر قلوبنا بدوره منذ ظهوره فهو فارس الأحلام المثالي الذي تتمناه كل فتاة.
لكن العمل ما زال في بداياته ولا شك أن هناك المزيد من الشخصية لا يزال مخفياً عنا، أمًا تاج فقد كان عودة متجددة للتعاون المستمر منذ أعوام طويلة بين تيم حسن وسامر البرقاوي فبعدما نجح تيم حسن في خلع ثوب جبل شيخ الجبل عن كاهله.
عاد هذا العام وخلع ثوب عاصي الزند الدور الذي تألق فيه العام الماضي، مثبتاً مرة أخرى أنه ممثل من الطراز الرفيع كان تيم في تاج مختلفاً عن أي دور آخر ونجح في تقمص الشخصية بكافة تفاصيلها فكان صاحب الحق المظلوم والملاكم الذي خرج صراعه إلى خارج الحلبة والذي خسر كل شيء في لحظة واحدة.
كانت شخصية تاج عميقة متعددة الطبقات إنه أب طيب وعاشق مجنون ورجل يحب وطنه كما أنه مظلوم يسعى لتبرئه اسمه شخصية معقدة، نجح تيم حسن في تجسيدها بطريقة تختلف عن كل الشخصيات السابقة التي اشتهر بها ببراعته المعهودة التي اعتدنا عليها منه منذ أعوام.
إضافة إلى كل تعقيدات شخصية تاج، كانت المسحة الكوميدية المحببة التي أضافها تيم للشخصية أفضل ما في العمل ونجح في جعلها الشخصية الأكثر شعبية رغم عرض عدد قليل من الحلقات لكن سحر تيم حسن الطاغي جعل شخصية تاج تدخل كل بيت وإلى روح كل مشاهد بموهبة أصيلة وأداء تمثيلي مميز.
يتقاسم تيم البطولة هذا العام مع الجوكر السوري بسام كوسا الذي تألق بدور رياض بك الشرير الكريه والذي تعجب به رغم كل شره هذا الأمر هو ما يجعل بسام كوسا أحد أفضل ممثلي جيله فقدرته على تقمص الأدوار معروفة لكل من تابع أعماله قديمها وجديدها فقط بسام كوسا يمكنه تجسيد شخصيتين متناقضتين تماماً دون أن تطغى أي شخصية على الأخرى.
وببراعة فائقة تثير الإعجاب لقد أثبت بسام أنه ممثل لا يتكرر في الزمن نفسه مرتين وأن العمر لا سلطة له عليه ولا يزال حتى اليوم قادراً على منافسة النجوم الشباب بموهبته الرائعة وحضوره الطاغي، أمًا فايا يونان ففي تجربتها الدرامية الأولى قدمت أداء لا بأس به على الإطلاق كما سحرتنا بجمالها الطبيعي الذي أصبح نادراً هذه الأيام رغم الانتقادات التي طالت أدائها إلا أنها وكممثلة مبتدئة تقف أمام عملاقين من عمالقة الدراما كانت مقنعة بما يكفي.
إن وجود مواهب قوية ليس بأمر جديد على عالم الدراما السورية والمشتركة على حد سواء، لكن تطور الأداء التمثيلي كان واضحاً بحق هذا العام فقد أثبت كل من الممثلين في الأعمال المذكورة قدرة واضحة على تقمص شخصيات صعبة غريبة بعيدة تماماً عما قدموه من قبل بطريقة تجعلها شخصيات محببة مسلية.
وهذا تطور ملحوظ سيضيف رونقاً مميزاً لأعمال هذا العام خاصة أن معظم الممثلين يقعون في فخ التكرار ويستمرون في تقديم الشخصية نفسها مراراً وتكراراً لكن الموهبة الاستثنائية عندما تضاف إلى كتابة وتقديم متقن للشخصية لهو أمر قادر على إخراج طاقات تمثيلية لا يمكن توقعها أحياناً.
نظرة مختلفة للعالم الدرامي
إن المخرج هو المسؤول الأول والأخير عن العمل الفني فهو صاحب الرؤية الفنية وهو الآمر الناهي عن كل ما يمت بصلة للعمل ونظرته هي الوحيدة القادرة على تطويع العمل الفني.
تمتلك سوريا مخرجين رائعين من الطراز الرفيع بلا شك؛ مخرجون موهوبون بارعون في إيصال رسائلهم ونظرتهم الخاصة باستخدام كافة الوسائل المتوفرة لكن وكالممثل ينبغي على المخرج أن يستمر في تطوير نفسه باستمرار وتقديم جديد مختلف عوضاً عن البقاء في منطقته الآمنة المضمونة.
ولا يمكن الحديث عن مخرجي سوريا الرائعين دون التطرق إلى الموهوبة رشا شربتجي التي أثبتت أن فرخ البط عوام بارع في العوم فهي ابنة المخرج الاستثنائي الراحل هشام شربتجي الذي أغنى الدراما السورية بأعمال لم تمح من ذاكرة الدراما السورية حتى بعد أعوام طويلة على عرضها.
تمتلك رشا نظرة إخراجية مميزة تجعلها في مصاف المخرجين السوريين في كافة أنواع الدراما؛ فرشا المشاكسة في إخراجها لا تشبه أي مخرج آخر إنها جريئة شبابية متمكنة لا تخاف من تجاوز أي حدود اجتماعية لقد أخرج لنا إبداعها أعمالاً أسطورية لا تنسى مثل تخت شرقي والولادة من الخاصرة وغيرها الكثير لكن أفضل ما في رشا أنها مخرجة متجددة ذكية تدرك تماماً كيف تدير ممثليها بطريقة تحترم النص المكتوب.
وفي ولاد بديعة أبدعت رشا في حبك قصة معقدة أليمة تقتحم ادغال النفس البشرية بكل تعقيداتها واستطاعت منذ أول حلقة إدخال المشاهد في الأجواء الخاصة بكل شخصية من شخصياتها التي قدمتها بطريقة تجعل لكل واحد منها مساحتها الخاصة.
عادة ما تكون رشا جريئة لكن وفي ولاد بديعة فاقت جرأتها الحدود فقدمت تصوراً واقعياً لمجتمع قائم على الاستغلال دون الإكتراث بتجميله أو تحسينه، ورغم انقسام العمل إلى زمنين منفصلين نجحت رشا في جعلنا مندمجين فيه بقوة فطريقة سردها للأحداث، كانت ذكية خلاقة تربط الماضي بالحاضر الأمر، الذي أضفى متعة تشويقية للمشاهد المتحفز لمعرفة ما حصل وما سيحصل.
كما أن رؤيتها الدرامية للقصة كانت مميزة فلم يكن ولاد بديعة مجرد صراع آخر على المال، إنما كان قصة معقدة تتنقل بين الأزمان تتعقد خيوطها حلقة تلو الأخرى بلمسات واضحة من مخرجة موهوبة مبتكرة أثبتت تطوراً ملحوظاً هذا العام وقدمت عملاً نجح في تحقيق نسب مشاهدات فاقت التوقعات.
لقد منحت رشا المشاهد تجربة ممتعة وحافظت على عامل التشويق والإثارة بتعاون رائع مثمر مع نخبة من ممثلي سوريا المميزين الذين نجحت في خلق انسجام لا مثيل له فيما بينهم، لا يزال العمل واعداً بالكثير ولا تزال قصة ولاد بديعة في بداياتها لكن ومما نراه فإن أمامنا عملاً رائعاً سيشكل نقلة نوعية في عالم الدراما السورية بلا أي شك.
أمًا في عالم الدراما المشتركة فقد عاد رامي حنا بعد غياب ليقف خلف الكاميرات وليظهر لنا أنه عاد عودة ميمونة وأن رؤيته الإخراجية تطورت كثيراً منذ آخر أعماله مسلسل البريئة، يعرف كل من تابع أعمال رامي أنه كمخرج فإن أعماله تتسم بالقسوة الواقعية التي تدمج الإثارة بالغموض بالدراما.
إنه مخرج فذ قادر على إخراج أفضل ما في الممثل وجذب المشاهد إلى العمل عَبر تقديم القصة بطريقة متواترة تفصح شيئاً فشيئاً عن أسرارها، بالنسبة للسوريين سيظل رامي حنا هو مازن الجوربار الفتى الثري المدلل في الفصول الأربعة لكن وعلى حد تعبير الشاعر العظيم سليمان العيسى مازن ليس صغيراً لقد كبر مازن وأصبح مخرجاً رائعاً استطاع تطويع أدواته.
والمواهب التمثيلية لطاقم مسلسل ع أمل لحكاية قصة مفعمة بالأمل والشجن والدراما بحبكة متسلسلة ببراعة تجعلك تتحفز باستمرار لمعرفة ما الذي قد يحصل لاحقاً، فيما جدد سامر البرقاوي تعاونه مع تيم حسن ويبدو أن هذه الثنائية مضمونة النجاح بحق خاصة أن رؤية سامر وموهبته الإخراجية تتطور عاماً بعد عام بشكل ملحوظ فمن الهيبة إلى الزند إلى تاج يمكن لنا ملاحظة التطور الواضح في الأسلوب الإخراجي الخاص به.
لقد قدم سامر البرقاوي نظرة مختلفة غير المطروقة لدمشق في أحرج فترات تاريخها؛ فترة الأربعينات قبيل الاستقلال الفترة الثرية تاريخياً والتي لم تستثمر بشكل صحيح منذ أيام حمام القيشاني، لقد رأينا الشام كما ينبغي أن تظهر جميلة أنيقة عظيمة مليئة بالمثقفين الطامحين لوطن خال من الاحتلال.
لقد كانت لمسات سامر الإخراجية واضحة من خلال زوايا التصوير المتنوعة والتفاصيل الدقيقة للديكورات الخاصة بدمشق الأربعينات والتي لفتت أنظار الجمهور منذ اللحظة الأولى.
إضافة إلى تفانيه الواضح في طريقة تصوير الأحداث المتلاحقة القوية التي سردت بطريقة سريعة قوية مفعمة بالإثارة والحماس الممزوج بإتقان إخراجي لا يوصف، كما أنه قدم بالتعاون مع المواهب التمثيلية التي طوعها رؤية متجددة غير المطروقة للثوار السوريين بطريقة مزجت ببراعة الإثارة بالدراما بدقة تصويرية مذهلة بحق كل هذه العوامل جعلت من تاج عملاً قوياً لا يفوت.
لقد قدم كل مخرج من المخرجين المذكورين سالفاً كل ما في جعبتهم من مواهب ودقة وتفان ليخرجوا لنا أعمالاً تليق بأسمائهم مبرهنين أنهم مستمرون في تطوير أنفسهم وتقديم أعمال متجددة غير المطروقة بطرق خلاقة متجددة مثبتين أن أي موهبة أصيلة ببعض الصقل تخرج لنا كنوزاً ثمينة بلا شك.
نرشح لك: ثلاثية مسلسل ولاد بديعة.. دراما رمضانية جدلية أم صراع طبقي مُحكم؟
كانت هذه أبرز التطورات التي لاحظناها على الدراما السورية والمشتركة في العامين الماضيين، تطورات أتاحت لنا رؤية أعمال قوية مؤثرة ذات شعبية كاسحة، الأمر الذي يطرح في ذهنك تساؤلاً مهماً بلا شك؛ هل يعني هذا أن الدراما السورية استعادت رونقها القديم المفقود؟
في الحقيقية من المبكر للغاية طرح افتراض كهذا فالدراما السورية لا تزال في مرحلة التعافي لكن ما نراه منها في العام الماضي والعام الحالي مبشر بحق فقد تزايدت الإنتاجات تزايداً ملحوظاً عن الأعوام السابقة، ومن يدري قد تعود الدراما السورية تلك التي تحاكي الواقع بأفضل صورة ممكنة وتلك التي سحرتنا لأعوام طويلة.
لقد سلطنا في هذا المقال الضوء على أبرز عوامل التطور الذي طرأ على عالم الدراما السورية والمشتركة فرغم الإمكانيات الهائلة إلا أن التطور هو أمر ضروري لأي نوع من أنواع الفنون فكما أن اللغة الميتة هي تلك التي لا تتطور ولا تقتبس من اللغات الأخرى؛ فالدراما الميتة هي تلك التي علقت في مرحلة واحدة لا تخرج منها والدراما السورية أبعد ما يكون عن الموت؛ إنها الحياة بأجمل صورها وتفاصيلها ونأمل من كل قلوبنا أن نرى المزيد من الأعمال الرائعة التي ترضي ذائقتنا كمشاهدين عاشقين للدراما!
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.