أفضل الروايات التاريخية في 2020: حكايات آسرة من مجاهل الماضي

ساعة حاسوبي تقترب من الثامنة. قضيت الثواني المعتادة أحدق في مؤشر الوورد المراوِح بين الظهور والاختفاء يستعجلني، غلبته هذه المرة أيضًا وها أنا أكتب. لا أعرف لمَ أنقل لك الجو المحيط ببدئي المقال، ربما لأني افتقدت ما في كتابة القصص من حميمية وشخصنة. لكنك تعرف ما أنا هنا لفعله؛ مقال جديد من مقالات حصاد عامنا الاستثنائي الظريف. تحدثنا عن أشياء كثيرة وجمعنا ترشيحات في شتى المجالات، وما زال ينتظرنا المزيد. هذه المرة ننتقى من كومة الأصناف الباقية زاوية أدبية شديدة الثقل والجمال؛ نتحدث عن أفضل الروايات التاريخية في عام 2020 الداني من خاتمته.

ألا نتحدث عن عالم الروايات التاريخية؟ إنه ذاك العالم المهيب الفارُّ من يومنا وإليه، الذاهب للخلف والأمام في آن. عدسة فضولية تسترق النظر إلى ما خلا من الأيام، شيء وراء معرفة مسارات التاريخ وأشهر وقائعه ومراحله الأكثر إثارة للاهتمام، شيء بعد محاولة تخمين أي نقولات الماضي أصح وأولى بالثقة، وما الذي يمكن القطع به إذا كان المنتصر -وهو كاتب التاريخ أبدًا- غير جدير بالثقة بالضرورة.

يعمد كاتب الرواية التاريخية إلى أمرين: الأول تأسيس جو تاريخي مقنع يخلو من الافتعال والسذاجة، ويقنع الجاهل بالتاريخ -العام منه والخاص- والعالم به على السواء. أما الثاني فإنشاء قصص تلائم العالم الذي أسسه، وتثير الاهتمام بمفردها والجو المدمجة فيه، وتعبر -دون إفراط في الشرح والتوضيح والتوجيه- عن وجهات نظر الكاتب في اليوم والأمس، رابطة بين ما يحدث وما حدث وما سيحدث. المهم، والذي يجعل كتابة الرواية التاريخية الجيدة مهارة خاصة، ألا يكتفي الكاتب بترديد حقيقة تكرر الحوادث وتشابه الوقائع ودوران الزمن مطاردًا ذيله. لا بد من كشف المزيد وإبهار القارئ بما يفوق مستوى توقعه.

تنقُّل القارئ بين أنواع الكتب، الأدبي منها وغير الأدبي، غرضه التجديد وإبقاء هواية القراءة نابضة بالحياة موقظة. يحدث هذا بالتعرض للأشياء ذاتها -الحكايات البشرية المتشابهة والمواقف اليومية والخبرات المحفوظة- في سياقات مختلفة. فترى الرومانسية في عهد الحرب العالمية الثانية بدلا من رؤيتها في عصر الأيفون، وتقرأ الفنتازيا في العصور الوسطى بدلًا من مشاهدتها في فيلم معاصر الأحداث فاخر المؤثرات، وتتأمل الدراما البشرية في ظروف اجتماعية وثقافية وتاريخية مغايرة تمامًا لما عرفت حتى الملل.

هذا يوقد رغبتك في الاطلاع والاستمتاع، لكنه أيضًا يمدك بمنظور جديد يكشف لك خبايا اليوم وجذور ما ترى أمام عينيك. تطور السلوك البشري وقوة العادة وما تبدل من التفاصيل تبعًا لما تبدل من الخطوط العريضة. يُجدي هذا أكثر مع من يشدهم الجو التاريخي بطبعه، بروحه وأزيائه وطريقة حديث أهله واهتماماتهم ومشكلاتهم وعناصر حياتهم التي تبدو الآن غريبة بلا شك.

إذن سأشرع الآن في تعديد أعمال من أفضل الروايات التاريخية في 2020، لن نذكر Deacon King Kong لأننا ذكرناها في قائمة سابقة، ولن نتحدث عن الرواية الموجعة Shuggie Bain لأننا أفردنا لها مقالًا عقب الإعلان عن فوزها بجائزة البوكر للعام. قد فرغت الآن من مقدمتي التي طالت عن اللازم وحان وقت الترشيحات.

هناك فيلم شديد التعقيد والقوة اسمه Cloud Atlas، قام ببطولته عدد كبير من النجوم منهم توم هانكس وهالي بيري وهيو جرانت، يعتبره البعض من أفضل أفلام الخيال العلمي والدستوبيا والخيال التاريخي رغم انخفاض تقييمه النسبي على IMDb. نذكر هذا الفيلم المهم لأنه مأخوذ عن رواية شهيرة تحمل الاسم عينه، كاتبها David Mitchell صاحب رواية Utopia Avenue الذي نبدأ معه قائمتنا لأفضل ما صدر في 2020 من الروايات التاريخية.

لم يفقد ذاك البريطاني مهارته مذ كتب Cloud Atlas قبل ست عشرة سنة، وها هو يعود برواية قوية مفاجئة تحوز كل عناصر الرواية التاريخية الناجحة. هل كتب غير هاتين شيئًا ذا قيمة؟ بالطبع، هاك بعضها بغية الاختصار لا أكثر: رواية The Bone Clocks ورواية The Thousand Autumns of Jacob de Zoet التاريخية التي تلقي النظر على الثقافة الآسيوية واليابانية خاصة، ثم رواية Black Swan Green الموجهة لجمهور المراهقين، وأخيرًا Slade House التي هي مشاركته الأهم في أدب الرعب والغموض. وقد بلغ قائمة البوكر القصيرة أكثر من مرة وفاز بأعرق الجوائز البريطانية.

روايتنا هذه سميكة تكاد تبلغ الستمائة صفحة. تدور أحداثها في سبعينيات القرن الماضي في وقت مضطرب بالاحتجاجات والمظاهرات في تاريخ إنجلترا وإحدى بلداتها بالتحديد. عن المخدرات والجنون والحب والجنس والجريمة والموت والفن، عن العائلات التي نختار والتي تختارنا، وعن الأوقات العصيبة التي نبذل طاقتنا لتغييرها فتغيرنا هي. رواية تستحق الانتظار الذي سبقها ومهد لها، تتخذ من الفنتازيا أرضية مسرح خفية، وتصب من التمجيد أنهارًا على الموسيقى وما تمثله للفرد والجماعة والعصور المختلفة. رواية ساخرة تثبت إبداعها من خلال فصول غاية في الذكاء والفرادة.

في عام 2016 نشرت الكاتبة الأمريكية Brit Bennett روايتها الأولى The Mothers، ومع ظهور الثقافة الأفريقية الأمريكية فيها فإنها لم تُبد تركيزًا على مشاكل العرق والعنصرية والاضطاد. مع ذلك بزغ نجم الرواية وتهافت القراء على قراءتها والثناء عليها، والتعبير عن عجبهم من كون هذا العمل المتقن روايتها الأولى. كانت تلك البداية التي احتاجت إلى أربعة أعوام إضافية حتى تصل إلى ذروة من النجاح تمثلت في رواية The Vanishing Half؛ روايتنا الثانية في أفضل الروايات التاريخية في 2020، وأفضل روايات العام في النوع طبقًا لقراء جودريدز المصوتين الذين فاق عددهم المائة ألف.

هاهنا دراما عائلية تمتص قارئها لعالمها فلا تتركه إلا فارغًا من القوة قد روته المشاعر. حكاية أختين توأمين نشأتا في مجتمع للسود هربتا منه في سن السادسة عشرة، ليتغير تبعًا لذلك كل شيء تعرفان؛ العائلة والهوية العرقية والمجتمع. تقفز بنا القصة إلى ما تلا ذلك بأعوام، حيث عادت إحداهما لتعيش في بلدتها الجنوبية القديمة مع ابنة أنجبتها، بينما تعيش الأخرى مع زوج أبيض فيما تسميه “حياة بيض البشرة”. برغم الافتراق تبقى قصتا المرأتين متصلتين، فما الذي سيحدث حين تلتقي ابنتاهما بعد سنوات؟

ترينا الرواية أثر الماضي على الحاضر وتناقش مشاكل العرق بالأمس واليوم، بين خطين زمنيين يجريان في الخمسينيات والتسعينيات من القرن السابق. شخصيات عميقة وحكايات تضيء وعي القارئ وتعلو على توقعاته. لا تخلو الرواية من مشاهد قد لا تحتملها نفوس كثير من القراء، لما فيها من إغراق في ابتذال الواقع وصدماته الأليمة.

روايتنا الثالثة في قائمتنا بأفضل الروايات التاريخية في 2020. تلك إنجلترا في مايو من عام 1536، حيث تقع أحداث رواية The Mirror & the Light للكاتبة Hilary Mantel. من أشهر روايات السنة فلا يضاهي شهرتها سوى طولها المتجاوز 750 صفحة، ولعل علينا بدء الحديث عنها بذكر أنها تنتمي إلى سلسلة روايات بدأت في 2009، وصدر منها قبل هذه روايتان هما Wolf Hall وBring Up the Bodies. تشترك الروايات في الشخصية الرئيسية لكن لا بأس في قراءتها من غير ترتيب.

للكاتبة خارج السلسلة أعمال مهمة أقل تألقًا، منها A Place of Greater Safety الدائرة أحداثها في فرنسا القرن الثامن عشر، وThe Assassination of Margaret Thatcher التي هي مجموعة قصص لذيذة قصيرة، وBeyond Black وFludd. كلها تدور بين عناصر التاريخ والفنتازيا وأحيانًا الغموض. روايتها الأخيرة التي بين يدينا رشحت في العام الحالي لجائزة البوكر، ولا عجب فقد فازت بها مرتين من قبل، فضلًا عن ترشحها المستمر وفوزها بشتى الجوائز الرفيعة.

كما هي عادة السلاسل، تحلق هذه الرواية على ارتفاع أخفض قليلًا من سابقتيها، خاصة الأولى. لكنها تملأ الفراغات بشخصيتها الخاصة، وبما فيها من دراما وشخصيات محكمة تطورت مع تصاعد الحبكات المتعاقبات. تحدثنا عن مملكة صاعدة وعن الماضي المنعكس أبدًا على وجه الحاضر. حكاية عاتية التأثير عن علاقة المفترس بالفريسة في تفاعلنا البشري عبر التاريخ وتجلياته اليوم.

هل ما زلت معي أم سئمت؟ سأفترض أنك هنا كما لم أزل أنا. حديثنا عن أفضل الروايات التاريخية الصادرة في عام 2020 لم ينته بعد، والحق أن استكشاف هذه الأعمال يفتح لنا الباب على عوالم كتاب في غاية التأثير والأهمية الأدبية والتاريخية، يثرون بجهودهم النوع والأدب عمومًا، ويعرضون على الراغب خيارات تبدو لأول وهلة بلا نهاية. هذه روايتنا قبل الأخيرة هنا، عنوانها The Book of Lost Friends، وكاتبتها Lisa Wingate التي تعرف أنني سأقضي الفقرة التالية أتحدث عنها وأهم كتبها، صحيح؟

أنت على حق، والحديث عن كتب هذه المرأة ليس مهمة سهلة، لكن يمكن تعبيد الطريق بقول إنها ترشحت لجوائز متنوعة فازت ببعضها، كذا حققت مبيعات يصعب حصرها، وبقيت إحدى رواياتها على قائمة نيويورك تايمز للأعلى مبيعًا أكثر من عام (أعني رواية 2017 التاريخية الفائزة بجائزة القراء على جودريدز لعامها؛ رواية Before We Were Yours). لها ثلاث سلاسل شعبية هي Carolina Heirlooms وTending Roses وDaily, Texas، أصغرها من ثلاث روايات. هي مؤمنة بأن القصص قادرة على تغيير العالم، وهي تمارس صنعها بشغف وغزارة إنتاج هما من حسن حظ محبيها الذين لعلك تغدو منهم سريعًا.

هذه من نوع الروايات التي تختار حدثًا تاريخيًّا حقيقيًّا وتحكيه من منظورها وبتصورها عن تفاصيله. الحكاية عن ثلاث نساء باحثات عن عائلاتهن في الخراب الذي عقب الحرب الأهلية الأمريكية بالجنوب في 1875. ليس هذا فقط، بل تحكي لنا أيضًا قصة مدرِّسة شابة تعيد استكشاف هذه القصة في عام 1987 وتأثيرها وارتباطها بحيوات طلابها. تناقش الرواية الحرب والعبودية وكثيرًا من القضايا التي تسمح بها الفترة الزمنية، مبينة الاختلاف بين عصرين يختلفان بعد ذلك عن عصرنا نحن. كيف نتخطى عجزنا عن تغيير التاريخ، كيف نفهمه ونتقبله ونفيد منه عمليًّا بعد الكلام النظري السهل؟

تلجمني الحيرة عند بلوغ الترشيح الأخير في كل قائمة، لكن الحسم هذه المرة كان سهلًا نسبيًّا، فكيف نتجاهل إيزابيل الليندي – Isabel Allende المحبوبة بإخلاص في وطننا العربي، والتي اعتنى المترجمون بنقل أعمالها فلم نعانِ نقصًا في إبداعها المتاح الملبي لكل مطالب القارئ وأكثر. رواية A Long Petal of the Sea هي روايتها الجديدة الصادرة في يناير الماضي، وإن كانت صدرت قبل ذلك فإنها لم تترجم إلا في عامنا الجارى فجاز اعتبارها من رواياته التاريخية. وقد أفردنا لها مقالًا مطولًا عقب نشر الطبعة المترجمة من الرواية بعنوان سفينة نيرودا – بتلة بحر طويلة.

سنذكر من أعمالها -لئلا نكسر العادة- رواية The House of the Spirits المترجمة بعنوان بيت الأرواح، ورواية Daughter of Fortune المعروفة عربيًّا بابنة الحظ، ورواية The Japanese Lover أو العاشق الياباني، ثم إيفا لونا وباولا ودفتر مايا وما وراء الشتاء، ولا داعي لذكر الأسماء الإنجليزية عند هذا الحد. هي من أهم كاتبات جيلها وقارتها وأكثرهن مبيعًا على قائمة نيويورك تايمز، لا تكف حكاياتها الإنسانية نادرة المثل عن إبهار القارئ والتأثير به.

إن لها خلطة شبه جاهزة لا تخيب أبدًا: العنصر التاريخي والحكاية الرومانسية والثقافة الأمريكية اللاتينية وأجواء الواقعية السحرية التي لا تخطئها أنف الخبير. ذكية وأنيقة ومسلية، كلها صفات تنطبق على هذه الرواية كما انطبقت على ما سبقها. رواية ملحمية طازجة تسلط الضوء على إسبانيا التاريخية هذه المرة، وفرار شابين من الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي، في محاولة ظاهرية للعثور على وطن وباطنية للعثور على سكون. رواية ممتعة مرضية تذكرك بقوة وثراء أعمالها الأولى.

ها قد بلغنا النهاية. بحوزتك الآن خمس روايات من أفضل الروايات التاريخية الصادرة في عام 2020. تحظى روايات النوع بتقدير النقاد ويميزها الثقل الأدبي الإنساني بخلاف كثير من الأنواع، كما تركز عرضها على أهم مشاكل العائشين وأكثرها حساسية. لا تفوتها إذن فهي تستحق المحاولة.

لك أيضًا:

سلطة الكتب: تطبيق عملي مع كونديرا والعلاج النفسي الوجودي!