حارس سطح العالم: عندما تصير الكتب حرامًا!
4 د
رواية “حارس سطح العالم” للروائية الكويتية المتميّزة بثينة العيسى مختلفة تمامًا عن كلّ ما تعوّدتُ على قراءته؛ خيالها جذّاب كقصة “أليس في بلاد العجائب” وموضوعها ونسيجها ذكّرني قليلًا بكتب ألبيرتو مانغويل عن القراءة، لكن الرواية تبقى متفرّدة، وهذا أحد أسباب حبّي لها.
تعالج رواية “حارس سطح العالم” قضية الرقابة على الكتب التي تمارسها عدد من الحكومات حول العالم (مثل الكويت)، كما تتطرّق إلى دور الكتب في تشكيل فِكر القارئ وتوسيع مداركه، وتشير إلى أهمية الخيال في تكويننا البشري.. هذه النقاط قد تبدو منفصلة لكنّها متداخلة وتقود إحداها للأخرى، وسنحاول عرض خلاصتها دون حرق أحداث الرواية.
من هو حارس سطح العالم؟
يجب أن نبقى دائمًا على سطح اللغة.
هذا هو أهمّ قوانين رُقباء الكتب (الذين تسمّيهم الرواية: حرّاس سطح العالم): البقاء على السطح، الاكتفاء بالألفاظ والمباني، لا تأويلات، لا تفكير، لا محاولة لفك شيفرة أيّ معنى.
هيئة رقابة الكتب تعتمد على هذا المبدأ أثناء قراءتها للكتب بحثًا عن المخالفات: لا يهم ما الذي يريد أن يقوله الكاتب، المهم فقط ما يقوله مباشرة وفقط، إن كان الكتاب يحتوي على لفظ محرّم من طرف الهيئة، يُلعن تلقائيًا، أي يُمنع من التداول.. قالت بثينة العيسى لاحقًا أنّ هيئات الرقابة الحقيقية تعمل عموما بهذا القانون أيضا، وتصفّي الكتب حسب ألفاظها.
اقرأ أيضًا: روايات تدور بك حول العالم فيأخذك كاتبها إلى بلاد أخرى لتتعرف على تاريخها وعاداتها
حارس سطح العالم – رحلة إلى القاع
فكرة البقاء على السطح والطريقة التي تعاملت معها الرواية أعطتها بُعدًا أهم:
قرأ في الكتاب بأنّ زوربا “كسر صَدَفة الحياة”، ودخل مباشرة إلى جوهرها. وخطر له أنّ أشياء كثيرة تفوته بسبب وجوده على سطح العالم.
سطح العالم هو المكان الذي تعلَق فيه الكتبُ الاستهلاكية والأشخاصُ الذين لا يستخدمون عقولهم، ويرتبط بطريقة تفكير إنسان لا يطرح أسئلة ولا يبحث عن إجابات، مقتنع تمامًا بما يُخبره به الآخرون (السُلطة، الإعلام… إلخ).. سطح العالم هو المكان الذي لا تريد أن تكون من قاطِنيه، لأنّه بلا معنى:
یضع خطًا تحت أحد الأسطر ویدّون بالقلم الرصاص نوع المخالفة. یستجمع شجاعته ویقرّر أن یستمر على ھذه الشاكلة، سطرًا بعد آخر، سوف یحمي سطح العالم من المعنى.
القصة كلّها صراع دائم للحارس بين كره الكتب وحبّها، بين شغف القراءة والخضوع للقانون، بين التفكير بصوته الخاص والإيمان الأعمى العاجز بصوت الدولة.
في خضمّ صراعه مع ذاته، وأثناء رحلته من السطح إلى القاع ذهابا وإيابا، سلّطت الرواية الضوء على الفرق بين الكتب الإستهلاكية (أو كما تسمّيها: الكتب التي لا تقول شيئًا) والكتب الحقيقية:
لقد مرّ زمن طويل على آخر مرة شعر فيها بهذا القُرب المادّي من الكتب. رأى فيها هذا القَدر من الكتب، وليست أي كتب! بل الكتب الصحيحة؛ الكتب الممنوعة، المزعجة، المسيئة، التي تصنع المشاكل وتقلق النظام العام وتخدش آداب المجتمع وتزعزع طمأنينة العالم. (..) إنها كتب حقيقية، ذات تأثير كارثي، قادرة على الخلق والتدمير معًا.
في مكان تسيطر فيه الحكومة على أفكار السكان، وتمنع الإنترنت، وتقيّد الكتب وتجرّم الخيال، تتحكّم بالمواطنين كأنّهم دمى خشبية تتحوّل بمرور الوقت ومع كثافة الجهل والتعتيم إلى حمير بشرية -أكرمكم الله-.. في عالم كهذا، من الطبيعي أن تُحرّم الكتب التي تحرِّك الحياة وتشعل النور وتمسح الغبار عن الحقائق، أن تُستبدَل بما من شأنه إشباع شهية المستهلك بالوهم، بما يحرّكه كقطعة شطرنج نحو المربّع الذي تريد السلطات أن يصل إليه، وبما يخدّره تماما.
كل العناوين المرصوصة على الأرفف كانت من قبيل؛ “دموع أنثى”، و”قلبك لي”، و”لأنني أحبّك”، وكتب أخرى سبّبت له حموضة في المعدة، ناهيك عن مئات العناوين المتعلقة بجذب المال، والنجاح، والسعادة. كتب صالحة للتداول، موضوعة على الأرفف بقوّة القانون.
عندما يتحكّم الآخرون بما نقرأ، فإنّهم يعجنوننا على هواهم، ويصنعون منّا بشرًا يتناسبون مع احتياجاتهم، وهذا كارثة.
اقرأ أيضًا: ديستوبيا ظل التفاحة: أن تعيش على أنقاض أرضٍ ملعونة!
لماذا الخيال؟
– يجب أن تتأقلم مع الواقع، كلنا فعلنا.
– عندما يكون الواقع بهذا الانحدار، فإن أسوأ ما يمكن أن يحدث لك هو أن تتأقلم.
في عالم حرّاس السطح، الخيال جريمة، وتقوم الدولة بمصادرة الأطفال الذين يُبدون “أعراض الإصابة بالمخيّلة”، الذين يؤمنون بالقصص ويختلقون شخصيات خرافية ويصادقونها.. تتكفّل الدولة بعلاج هؤلاء الأطفال عن طريق حصص كثيفة من غسيل الدماغ، وإن لم تنجح في مسح الخيال من ذاكرتهم، تقتلهم ببساطة.
لماذا تخاف الحكومة من الخيال؟ ربّما لأنّه الباب الوحيد الذي يفتح مجالًا للاحتمالات المخالفة للواقع وطرح بدائل لما هو موجود، لأنّ الخيال هو الوحيد القادر على زعزعة السّطح المتعفّن واختراقه بفكرٍ إبداعي مليء بالفضول، لأنّه تهديد حقيقي لكل الركائز التي تقيم دولة فاشلة تخاف من الأطفال وتحرق الكتب:
معًا نواجه وحوش المخیّلة ونحرس سطح العالم من المعنى!
أليس هذا الشعار مثاليًا لحكومة استبدادية دكتاتورية؟
إنّ أقسى وأبشع ما يمكن أن يُقتل في الإنسان هو المعرفة والخيال، لأنّه دونهما يصير دمية خشبية، أو جحشًا فقط.. هذا ما تُعلِّمنا رواية “حارس سطح العالم”.
وأنتم، شاركونا في التعليقات أفضل ما قرأتم أثناء الحَجر الصحي!
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.