ظاهرة الانتحار عند الأدباء والفلاسفة… نظرة عن كثب وحكايات
7 د
تتعدّدُ الأسباب غالباً في الإفضاء إلى قرار الانتحار لدى أغلب الكتَّاب والمشتغلين في المجال الإبداعي، وهو كفعلٍ نفسيّ وكنتيجة، يتماهى مع أغلب ما كُتِب بأقلام هؤلاء، أي أنّ الإشارات الموجودة داخل المؤلّفات أو الأعمال تشير ببساطة إلى فعلٍ مستقبليّ، إن استثنينا الأوضاع الاقتصاديّة أو المعيشيَّة أو قصص الحب القاسية التي يتعرّض لها البعض وتدفعهم نحو قرار إنهاء الحياة.
الانتحار كفعل لتحقيق الطمأنينة
اختلفت الأسباب المودية إلى انتحار أغلب العاملين في المجال الفنّي والأدبي، على الرغم من انتهاء الأطباء النفسيين إلى نتيجة مفادها أنّ الانتحار ناجم في الدرجة الأولى عن اضطرابٍ عقلي، سوى أنّ المفكّر السوسيولوجي إميل دوركايم وفي كتابه (الانتحار) توصَّل إلى أكثرَ من شكلٍ أو دافعٍ أو مسببٍ للانجرار نحو فكرة الانتحار، رابطاً المفهوم بالبنية الاجتماعيَّة التي يعيش فيها المُنتحِر، إضافةً إلى البنية النفسيَّة الخاصَّة بالأدباء والفنّانين، وما تنطوي عليه من تعقيدات لكثرة المعرفة إن جاز التعبير.
تعدَّدت أشكال التعبير عن السّخط أو اللا طمأنينة في العالم لدى الكتَّاب والأدباء أو المشتغلين في المجال الفنّي أو الفلسفيّ، وبغضِّ النظر عن تعبيرهم عن ذلك في منتوجهم الأدبي، فقد تخطَّى التعبير لدى البعض منهم ليصل إلى تحقيقه فعليَّاً، وهو الانتحار، ربمّا كخلاصٍ من التوتر أو الظلم أو العذاب اليومي، أو ربمّا للتعبير بشكلٍ أدقّ عن حالة المعاناة، أو ربمّا في محاولةٍ لتحقيق الخلود كما جالَ ذلك في خاطر أغلب الفلاسفة المنتحرين!
وكُتِب عن موضوع الموت أو الانتحار وعلاقتهما بالإبداع مِراراً وتكراراً، ودائماً ما خَلُصَت البحوث والدراسات إلى نتائج متعلّقة برقَّة الإحساس لدى الأديب أو الفنّان، وعدم مقدرته الدائمة على التحمُّل أو المراوغة، فالانتحار لدى البعض كان بمثابة إعادة إحياء لشخصهم وفكرهم، وسنتعرّف في هذا المقال إلى أبرز حكايات هؤلاء على الرغم من أن القائمة تَطول إلى ما لانهاية.
يوكيو ميشيما
اعتُبِر يوكيو ميشيما 1925- 1970 من أبرز الروائييَّن اليابانيين ومن ثم العالميين على الإطلاق، لغزارة ما كتبه، وغرابة مواضيعه المطروحة ضمن أعماله الروائيَّة والقصصيَّة، واعتقاداته التي ضمّنّها بطبيعة الحال في مجمل أعماله.
أشار ميشيما في عديد المواطن ضمن أعماله إلى مسألة الانتحار، سواءُ على لسان شخصيَّاته الروائيَّة أو على صعيد تحوّلاتهم ضمن سياق العمل، ولعلّ أغرب أساليب الانتحار كانت لـ ميشيما، فإلى جانب عمله الأدبي كان ضابطاً في الجيش الإمبراطوري الياباني، ولعلّ كتاباته الدقيقة والمنضبطة ما هي إلا انعكاس لحياته المهنيَّة في السلك العسكريّ.
يُروى أنّ ميشيما ارتدى صباح يوم انتحاره بزّتهُ العسكريَّة وحمل مخطوط روايته الأخيرة مودِّعاً زوجته ومن ثمّ توجَّه إلى الناشر، ومن بعدها توجّه برفقة مجموعةٍ من رفاقه إلى ثكنةٍ عسكريَّة في محاولة انقلابٍ على إثر التدهور الاقتصادي الياباني والتوجّه نحو الغرب، وهذا ما كان يرفضه، سوى أنَّ الانقلاب فشَّل، فما كان من ميشيما ومساعدَين اثنين له إلا أن قاموا بالانتحار على طريقة الساموراي التي يطلق عليها تسمية: الهاراكيري أو السيبوكو، وهي شعيرةٌ تقليدية تعود إلى الساموراي أو فئة المحاربين، تتمثَّل ببقر البطن بالسيف ومن ثمّ قطع الرأس بالسيف ذاته على يد أحد المرافقين.
يقال أنّ آخر جملةٍ تلفَّظ بها: “أرجوك اضرب بدقّة وافصل رأسي عن جسدي فوراً، لا أريد أن أتعذَّب”، ميشيما لم يكتفِ بالرد على المخربين في أدبه بل أقدَم على الانتحار رداً على المستوى الرديء واللا أخلاقي اللذين وصلت إليهما السياسة والاقتصاد في عصره..
أوسامو دازاي 1909- 1948
أحد أكثر الروائيين اليابانيين الذين ضجّت حياتهم بغيوم الفضائح الشخصيَّة والإدمان على المواد المخدِّرة، ولعلّ حجب جائزة “آكوتاجاوا” للأدباء الشباب، والتي كانت جائزةً أدبيَّةً مرموقة في اليابان على خلفيَّة حياته الفوضويَّة، كان من أبرز الضربات الموجعة التي تلقّاها، وجعل منه دائم الرغبة في الثأر والانتقام لنفسه، لدرجةٍ نهض فيها من على كرسيه ضمن حفل تسليم الجوائز، موجِّهاً الكلام إلى الروائي الياباني المعلم ياسوناري كاوباتا قائلاً له: “أيَّها العجوزُ الخَرِفْ”! رداً على تعليل حجب الجائزة عن دازاي -الذي يستحقها- لولا أنّ فضائحه الشخصيَّة حالت دون ذلك.
أصيب دازاي بعد محاولة انتحاره الثالثة بالتهاب حاد في الزائدة الدودية وأدمنَ بعد ذلك على البابينال، إحدى تفرّعات مادة المورفين المخدِّرة.
دوّن دازاي أجمل القصص القصيرة وأبرع الروايات، كان من أهمّها: “سقوط رجل”، لكن حياته مع الغانيات اليابانيَّات وهو ابن عائلةٍ محافظةٍ ومعروفةٍ في اليابان سبّبت له المتاعب.
حاول أن ينتحر 6 مرات متتالية، بيد أنَّه كان يُنقَذُ بأعجوبةٍ، إلى أنّ تمكَّن في المرة السابعة من إلقاء نفسه بصحبة زوجته في النهر، حيث عُثر على جثّتيهما في 19 يونيو 1948 وهو ذات يوم ميلاده التاسع والثلاثين، لتُطوى بذلك صفحاتُ حياة أبرزِ روائيٍّ ياباني مثير للجدل.
ياسوناري كاواباتا
على الرغم من المكانةِ الرفيعة التي كان يحظى بها المعلّم 1899- 1972 -كما كان يُلقَّب في الأوساط الأدبيَّة اليابانيَّة- إلَّا أنّ حياته النفسية تدهورت في سنيّ حياته الأخيرة، بعد أن حصل على نوبل، واعتُبِر اليابانيّ الأوَّل الذي يحصل على هذه الجائزة المرموقة.
يُحكى أنَّه كان يعاني في أيَّامه الأخيرة من اضطراباتٍ نفسيةٍ مهولة، فما كان منه إلَّا أن وضع حدَّاً لهذه الماساة، أغلق أبواب الشقَّة خاصَّته وكل منافذها مطلقًا العنان لأسطوانة الغاز، ليموت اختناقاً.
اتّسمت أعمال كاواباتا بالدقَّة والعقلانيَّة -ونبذ الانتحار- واعتُبر من مؤسسي المدرسة التعبيريَّة التصويريَّة، وبرَع في صنفٍ حَكائيٍّ يابانيٍّ صِرف يطلق عليه مصطلح الـ شوسيتسو، أو القصة القصيرة جدَّاً، ولعلّ كتابه المعنوَن بـ “قصص بحجم راحة اليد” من أهمّ ما كُتِب في اليابان من هذا الصنف، حيث اعتبرت القصص فيها مسودَّاتٍ تحوَّلت إلى أجمل ما كتبه من روايات.
تشيزاري بافيزي
اعتُبِرَت حكاية انتحار الإيطالي تشيزاري بافيزي 1908 – 1950 بجرعةٍ زائدة من دواء عصبيّ، تلخيصاً لرغبةٍ في الخلاص من حبّه الفاشل للممثلة الأمريكيّة كونستانس داولينغ، وتدهوره في المجال السياسيّ عقب انضمامه لحركةٍ مناهضةٍ للفاشية آنذاك ومن ثمّ ظروف سَوقه إلى الجيش الفاشي وإصابته بالربو والاكتئاب، وقد وصف كل ما عاناه في كتابه المعنوَن بـ: “مهنة العيش”، وهو كتاب مذكّرات. قال فيما قاله واصفاً نفسه وحالته:
رجل لا يملك أدنى فكرة عن كيفية العيش، لم يتطوَّر أخلاقيَّاً، أبله لا طائل منه، داعماً نفسه بأفكار عن الانتحار، لكنه لا يُقدِمُ عليه.
كما وتغزَّل في حب الموت ذات مرة قائلاً:
سيجيءُ الموتُ وستكون له عيناكِ.
سيلفيا بلاث
تكاد تكون حكاية سيلفيا بلاث 1932 – 1963 مع الانتحار الأكثر غرابةً على الإطلاق، فعدا عن الأمراض النفسية التي كانت تعاني منها طوال حياتها، سوى أنَّها كانت شعلةً مُتّقِدة في المجال الكتابي، وبرعت في نشاطها الأدبي إلى أبعد حدٍّ ممكن، مركِّزةً على الكتابة حول الموت في تصوّرٍ طغى على مجمل أعمالها في الشعر والرواية والقصة القصيرة.
أنهت حياتها بأن وضعت رأسها داخل فرن الطبخ المنزلي، ليعثر على جثتها صباح 11 فبراير عام 1963.
إرنست همنغواي
تركت الحربُ آثارها على مجمل كتابات الأمريكي إرنست همنغواي 1899 – 1961 صاحب الرواية الأشهر: “لمن تقرع الأجراس” وغيرها من الأعمال الإبداعية المعروفة، لتتّسم أعماله بالمسحة السوداوية الطاغية.
على الرغم من قوة شخصيّته وصبره في الحياة، إلَّا أنّ شبح الموت لم يغادره، فعمد إلى إطلاق طلقةٍ في فمه وإنهاء حياته في إحدى صباحات العام 1961.
يروى عنه أنَّه كان يعاني من أمراض عقليَّة في نهايات أيَّامه، كما ويروى كذلك أنّ لعائلة هيمنغواي تاريخاً طويلاً مع الانتحار، ما يزيد الشكوك حول أن يكون الأمر وراثيَّا وعلى علاقةٍ وثيقة بأمراض الاكتئاب الحادَّة.
فنسنت فان غوخ
اعتُبِر فنسنت فان غوخ من أشهر الرسَّامين المثيرين للجدل، فحياته لم تخلو من المعاناة، وباتَ مضرب المثل في أنّ الفنان التشكيلي يبقى طوال حياته في رحم المعاناة دون أن يخرج منها، وفي نظرةٍ سريعةٍ على ما كُتِبَ عنه أو روي، سنلحظُ مدى البؤس الذي عاشه هذا الفنان، وكثرة التنقّل على خلفيَّات الفقر والعازة، إضافةً إلى تعرّضه لنوباتٍ عديدة من الإضطرابات العقليَّة، وربّما السنوات الخمس الأخيرة من حياته كانت الفيصل في اعتباره من أشهر الفنانّين حول العالم على الإطلاق، حيث رسم ما يربو فوق الـ 700 لوحة، هي كل ما نعرفه عن فان غوخ، متوِّجاً كل ذلك بطلقةِ مسدَّس، منهياً حياة البؤس والحزن الذي يدوم.
جيل دولوز
تحولُ الأمراض المزمنة أغلب الأوقات، بين الفيلسوف وتحقيق ما يصبو إليه، كما حصل مع الفرنسي جيل دولوز 1925-1995، الذي عانى طوال حياته من أمراضٍ تنفسيَّة وخضع لعملية إزالة الرئة، ما جعل من الكتابة المستمرَّة عملاً شاقَّاً بالنسبة إليه، ما دفع به إلى الانتحار، بأن رمى نفسه من نافذة غرفته، وتنتهي بذلك رحلة المرارة والصراع مع الموت، وليخلَّد اسمه بالعديد من البحوث والدراسات الفلسفيَّة والأدبيَّة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.