ما المقصود بـ محاكم التفتيش
خلال 900-1000 عام ماضية، كانت قبائل الجرمان تحكم أوروبا وكانت فترتها مظلمةً وعنيفةً جدًا، لم تكن هناك بِدَعٍ عمليًّا (البِدعَة هي ابتداعٌ في الدّين، أي كلامٌ يُقال في الدين لتشويهه بلا مرجعٍ دينيٍّ شرعي)؛ إذ لم يكن هناك تواصل بشكلٍ كافٍ وتعليم في الأصل، لذا، لم تكن البيئة آنذاك مهيّئة لظهور محاكم التفتيش بعد.
كان القانون الجرماني أكثر وحشيةً من القانون الروماني القديم، حيث اقتضى مثلًا بوجوب تعارك الشخصين المختلفين على شيءٍ ما يميت أحدهما الآخر؛ بمعنى سيختار الله الفائز بينهما. على إثر ذلك، بدأ العمل بالقانون الروماني خلال العصور الوسطى عندما فشل الجرماني وتمّ غزو القبائل الجرمانية. في القانون الروماني، كان أي شخصٍ معارضٍ لمعتقدات الإمبراطور عدوًا للدولة، حيث لم يكن هناك فصلٌ بين الكنيسة والدولة، وبدأ التواصل بين الناس والتعليم؛ وهنا بدأ ظهور البِدَع التي تتعارض مع الكتاب المقدّس وتعاليم الكنيسة، وعلى إثرها ظهرت محاكم التفتيش.
مفهوم محاكم التفتيش
كانت محاكم التفتيش (بالإنكليزية Inquisition) مكتبًا قويًّا أُنشِئ داخل الكنيسة الكاثوليكية، والهدف منها معاقبة ومحاكمة أصحاب البِدع في جميع أنحاء أوروبا والأمريكتين. عُرفت محاكم التفتيش بالسمعة السيئة على مرّ السنين، بسبب شدّة تعذيبها واضطهادها لليهود والمسلمين، حيث كانت أسوأ أماكن ظهورها في إسبانيا؛ إذ كانت محاكم التفتيش الإسبانية قوةً مهيمنةً لأكثر من 200 سنةٍ، ونُفِذّت في تلك الفترة حوالي 32000 عملية إعدامٍ (حسب بعض المصادر). الجدير بالذكر وجود ثلاث محاكم تفتيش كاثوليكية رئيسية على مرّ العصور.
تاريخ محاكم التفتيش
- بدأت محاكم التفتيش في القرن الثاني عشر، واستمرّت لمئات السنين، وتعود أصول عملها إلى الاضطهاد المنظّم المبكّر للديانات المسيحية غير الكاثوليكية في أوروبا.
- عام 1184، أرسل البابا لوسيوس الثالث (Lucius III) مجموعةً من الأساقفة (الأُسقُف هو رتبةٌ من رتب الكهنوتية في الديانة المسيحية) إلى جنوب فرنسا لتعقّب الزنادقة المسمّين الكاثاريين (Catharists)، واستمرّ ذلك حتى القرن الرابع عشر، ولكن لم يتمكّن الأساقفة من تنفيذ المهام المطلوبة بجدارةٍ، ذلك بسبب الطبيعة الإقليمية لسلطة الأسقُف، ولكنهم بقوا في مركز القيادة في محاكم التفتيش.
- خلال الفترة نفسها، تتبعت الكنيسة أيضًا الولدينيسيين (Waldensians) في ألمانيا وشمال إيطاليا، وفي عام 1227، أفضى البابا غريغوري التاسع مهمة تعقب الزنادقة لعدّة قضاة وأولاهم زمام الأمور واعتُبروا بمثابة المحققين، وكان من بينهم الرهبان الدومينيكان (Dominican)، والرهبان الفرنسيسكان (Franciscan). كان للمحققين الأبويين سلطةٌ على الجميع باستثناء الأساقفة، حيث كانت لديهم مسؤوليات خاصة بهم، ولكن اعتمدوا فيما بعد على إجراء المهام بشكلٍ مشتركٍ.
- انتشرت بعدها محاكم التفتيش في عدة أماكنَ مثل البرتغال وجزر البليار، وكانت نهايتها في شبه الجزيرة الإيبيرية، حيث تضاءل نشاطها من خلال انتشار الأفكار المستنيرة، وكانت الضحية الأخيرة لمحاكم التفتيش هي معلّم مدرسة ربوبي (موحّد للربّ)، ولم يكن يهوديًّا كما شاع، لتقرّر عقب ذلك الملكة ماريا كريستينا (Maria Christina)، في 15 يوليو 1834، إلغاء محاكم التفتيش وجميع سلطاتها بعد حياةٍ دمويةٍ استمرت لثلاثة قرونٍ ونصف. .
التحقيق في محاكم التفتيش
تميّز التحقيق مع المتهمين بعدة أمور:
- عند إجراء تحقيقٍ في منطقةٍ ما، عادةً يعلن المحقق عن تخفيف الحكم عن أولئك الذين يعترفون طواعيةً باشتراكهم في الهرطقة (بمعنى الزندقة أو البِدَع في الدين)، بغية أخذ المعلومات منهم عن الآخرين المشتبه بهم.
- يحضر التحقيق أيضًا كاتب العدل، وهو صاحب سِجلات إجراءات التحقيق، والشهود المحلفون الذين يشهدون على دقة المعلومات في السّجل.
- لا يحق للمشتبه فيهم تعيين محامي دفاع عنهم، إذ قد يُعتبر هذا المحامي مُحرّضًا على البِدَع. لا يتم في الأصل إخبار المشتبه بهم بأنهم متّهمون.
- للمتّهم حقّ مناشدة البابا أو الاستعانة به قبل بدء إجراءات التحقيق، ولكن هذا الأمر ينطوي على مسؤولياتٍ ونفقاتٍ مُعتبَرة.
الحكم على المتهمين
بعد التشاور مع محامي الشريعة، يكون هناك أنواعٌ من المتّهمين، وعلى إثر ذلك هناك عدّة أحكامٍ:
- سيحكم المحقق على الذين تثبت إدانتهم بالعِظة العامة (خطاب ديني يلقيه الكاهن من الكتاب المقدّس للتنشئة الروحية).
- وأما الذين ثبتت عليهم التهمة ثم تراجعوا عن فعلتهم، فتُفرض عليهم عقوباتٍ قضائيةً. كانت العقوبات الأكثر شيوعًا هي حجّ التوبة، وارتداء الصّلبان الصفراء فوق ملابسهم (كانوا يخشون هذه الحركة لأنها عادةً ما أدت إلى النبذ)، والسَّجن.
- شملت محاكم التفتيش نوعين من السجون يعمل في كليهما رجال عاديون (من العامّة)، وهما:
- النوع الأول هو السجن المفتوح، ويتألف من زنزاناتٍ مبنيةٍ حول فناءٍ واسع، حيث يتمكن السجناء من التمتّع بقليلٍ من الحرية فيه، ولكنّه شديد الحراسة أيضًا.
- النوع الآخر هو السجن الانفرادي، يُحتجَز السجناء بشكلٍ انفراديٍّ ويُقيّدون بسلاسلَ.
- شملت محاكم التفتيش نوعين من السجون يعمل في كليهما رجال عاديون (من العامّة)، وهما:
- أما الذين اعترفوا بخطئهم، وأنهم مذنبون، ولكن لم يتراجعوا عن الخطأ، أولئك كان مصيرهم الموت بطريقةٍ مريبةٍ، يتم تسليمهم للسلطات المدنية، التي تتخذ إجراءاتٍ تقتضي بتقييدهم على أعمدةٍ خشبيةٍ وإيقاد النار من حولهم ليحترقوا حتى الموت..
عدد القتلى في محاكم التفتيش
غالبًا ما تضخّم الصحافة الشعبية عدد الوفيات إلى 9 ملايين دون أي بحثٍ دقيقٍ عن الموضوع، هذا الرقم غير صحيحٍ. درس مجموعةٌ واسعةٌ من العلماء ـ وغالبيتهم ليسوا كاثوليك ـ محاكم التفتيش بعنايةٍ، واطّلعوا على السجلات الموجودة وتمكّنوا من استقراء عدد القتلى في محاكم العصور الوسطى وفي المحاكم الإسبانية:
- في محاكم التفتيش في العصور الوسطى، كان برنارد غوي (Bernard Gui) أحد أشهر المحققين، والذي حقق مع 930 شخص أعدم منهم 42، كما كان هناك محققٌ شهيرٌ آخر، جاك فورنييه (Jacques Fournier)، الذي حقق مع 114 شخصًا وأعدم 5 منهم فقط. بالتالي تمكّن العلماء من تخمين موت ما يقارب 2000 شخصٍ في العصور الوسطى.
- أما محاكم التفتيش الإسبانية، حققت مع حوالي 125000 شخص، تم إعدام 2250 منهم، في البرتغال، من بين 13000 تمت محاكمتهم، حُكم على 5.7% منهم بالإعدام.
هل من وجود لمحاكم التفتيش في عصرنا الحالي؟
توجد لدى معظم الطوائف الإنجيلية مجالس لحماية رؤيتهم والحفاظ على شهادات إيمانهم، حيث لا تزال تعمل محاكم التفتيش في الفاتيكان كمؤسسةٍ باعتبارها تضم جماعة عقيدة الإيمان. ولكن ليس هناك مجال للتعذيب أبدًا، ببساطةٍ يحاول هؤلاء تعزيز رؤيتهم والترويج لإيمانهم، ومع ذلك، تحتفظ الكنيسة بحقها في مطالبة الناس الذين ينشرون تعاليم مخالفة للكنيسة، بالمغادرة من منطقتها..