ذكاء اصطناعي

البرغماتية: فلسفة التطبيق والنتائج في مواجهة التنظير

البرغماتية: فلسفة التطبيق والنتائج في مواجهة التنظير
لبنى الحسامي
لبنى الحسامي

تم التدقيق بواسطة: فريق أراجيك

تُعَدّ البرغماتية (Pragmatism) إحدى أبرز الفلسفات التي برزت في الولايات المتحدة أواخر القرن التاسع عشر، لتُحدِث تأثيرًا واسعًا في ساحة الفكر الغربي، فقد جاءت البرغماتية لتضع النتائج العملية في محور الاهتمام، مُعتبرةً أنّ الأفكار لا تكون ذات قيمةٍ حقيقية إلّا إذا أثبتت جدارتها ونجاحها في واقعٍ ملموس.

ومن هذا المنطلق، أصبحت البرغماتية منظورًا فكريًّا يجيب عن العديد من التساؤلات المتعلّقة بالعمل، والغاية، والحقيقة، ويُمثّل تيّارًا يعكس روح الحداثة الأمريكية.


البرغماتية والواقع المتغيّر

تقوم البرغماتية على فكرة أنّ الواقع متغيّرٌ باستمرار، وأنّ الحياة اليوميّة مليئةٌ بالمفاجآت والتحدّيات التي لا تقبل الحلول النظرية الثابتة، وتبعًا لقاموس كولينز الإنجليزي، يُفهَم هذا النهج الفلسفي باعتباره تعاملًا عمليًّا مع المشكلات، يركّز على النتائج المباشرة بدلًا من الاقتصار على المثاليات المجرّدة.، ولهذا ترفض البرغماتية فكرة وجود حقائق مطلقة؛ فصحّة أي مبدأ تتحدّد وفقًا لمدى إفادته وتكيّفه مع معطيات الواقع.


نشأة البرغماتية وأهم روّادها

البرغماتية: فلسفة التطبيق والنتائج في مواجهة التنظير

نشأت الفلسفة البرغماتية في أجواءٍ فكريةٍ تبحث عن بدائل جديدة للمدارس التقليدية كالمثالية والواقعية الصلبة، وقد أسهم الفيلسوف تشارلز ساندرز بيرس في صكّ مصطلح البرغماتية، ليكون من أهم المواضيع في الفلسفة، حين نشر مقالًا عام 1878 بعنوان "كيف نوضّح أفكارنا؟"، حيث طرح فيه ضرورة التركيز على اختبار الأفكار في التجربة الواقعية بدل الاكتفاء بالتأمّل الفلسفي، ويُنظر إليه بوصفه الأب الروحي للبرغماتية الحديثة، إذ مهدت أفكاره الطريق أمام تركيز هذا المذهب على المنهج العلميّ والبرهان العمليّ.

جاء بعد بيرس الفيلسوف ويليام جيمس الذي كان أول من أطلق مصطلح “البرغماتية” في المطبوعات، مؤكدًا أنّ الأفكار لا تكتسب قيمتها إلّا من خلال منفعتها لحياة الأفراد، من جهته، اهتمّ جون ديوي بالبُعد التربوي والاجتماعي للفلسفة البرغماتية، إذ نقل مبادئها إلى المناهج التعليمية، معتقدًا أنّ التعلّم ينبغي أن يرتبط بالممارسة ويستهدف تنمية مهارات التفكير النقدي لدى الطلبة.

وقد أشار الباحث دوغلاس ماكديرميد (Douglas McDermid) في دراسته عن البرغماتية إلى أنّ هذا التوجّه لم يقتصر على الفلاسفة فحسب، بل امتدّ إلى القانون وعلم النفس والعلوم الاجتماعية والطبيعية.


المبادئ الأساسية للبرغماتية

تمتلك البرغماتية مجموعة من المبادئ الأساسية التي تميز طريقة عملها، وهي:


الحقائق ليست ثابتة

تؤمن البرغماتية بأنّ العالم يتغيّر على الدوام، وبالتالي فإنّ ما نعدّه حقيقةً اليوم قد يفقد مكانته في المستقبل إذا لم يعد يلبّي متطلّبات الواقع، فالحقيقة هنا ليست غايةً نهائية، بل وسيلةٌ يجري تطويرها وتعزيزها أو تعديلها وفق مسار التجربة البشرية.


أولوية الاختبار العملي

لا قيمة لأي فكرة ما لم تخضع للتجربة وتُظهر نفعها، فالمعرفة برأي البرغماتيين وسيلةٌ لخدمة غاياتٍ إنسانية تتعلّق برفاهية الأفراد والمجتمعات، لا مجرّد ركامٍ نظريٍّ منعزلٍ عن التطبيق. ومن هذا المنطلق، يُعدّ البُعد العملي هو المعيار الأساس الذي تتحاكم إليه مختلف النظريات والمفاهيم.


الارتباط بالحياة العملية

تُصرّ البرغماتية على ربط الفلسفة بشؤون الناس اليومية، معتبرةً أنّ الجدل الفلسفي العقيم لا يخدم الإنسان إلا إذا وُضع في قالبٍ تطبيقيٍّ واختُبرت نتائجه، لذا تميل البرغماتية إلى التركيز على حلّ المشكلات وتشجّع على الاستفادة من المنهج العلمي والمرونة في مواجهة التحدّيات المعاصرة.


أولوية العمل الإنساني على المعرفة النظرية

يرى البرغماتيون، انسجامًا مع ما طرحه ريتشارد شاسترمان في إحدى دراساته، أنّ الهدف من المعرفة لا يكمن في بلوغ حقائق مجرّدة فحسب، بل في استخدام هذه المعرفة في الواقع الملموس لمواجهة الأزمات والاضطرابات المجتمعيّة، ولتقديم أجوبة عمليّة تتكيّف مع الظروف المتغيّرة.


إيجابيات البرغماتية وسلبياتها

توفر البرغماتية حيّزًا رحبًا للابتكار، إذ لا يتردد أنصارها في إعادة النظر بأي فكرةٍ حين لا تُجدي نفعًا في التطبيـق، كما تمنح شعورًا بالتفاؤل إزاء قدرة الإنسان على صياغة مستقبله انطلاقًا من تطويع خبراته وعلومه، إضافةً إلى ذلك، فهي تقدّم إطارًا واقعيًّا لإدارة التحديات عبر اعتماد البحث العلمي والمرونة بدل الالتصاق بالنظريات المجرّدة.

في المقابل، قد تُتهم البرغماتية بـاللاأخلاقية لأنها لا تتعامل مع الفضائل كقيمٍ ثابتةٍ، بل قد تختزلها إلى مجرد وسائلٍ نافعةٍ لتحقيق غايات معيّنة، وقد يُفتح الباب أيضًا لبعض أشكال الانحراف في سبيل تحصيل المنافع الفردية أو الجماعية، متى كانت هناك مبرّرات برغماتية تبرُز من نتائجٍ مباشرةٍ قصيرة المدى على حساب القيم.


البرغماتية والوجودية

يميل المذهب البرغماتي إلى قياس الحقيقة بمدى قابليتها للتجريب ونجاعتها في الواقع، في حين تذهب الوجودية إلى جعل الإنسان ووعيه الذاتي محور الاهتمام، وهكذا يلتقي كلا المذهبين في رفضهما للحقائق الجاهزة، لكنّ كلًّا منهما يقدّم تفسيرًا مختلفًا لطبيعة الحقيقة وأدوات إدراكها: فالبرغماتية تتخّذ التطبيق العملي معيارًا، بينما تحصر الوجودية قيمة الحقيقة في معاناة الإنسان وسعيه لإثبات وجوده.


نسبية القيم في الفلسفة البرغماتية

تتجلّى فكرة نسبية القيم لدى البرغماتية من خلال تأكيدها أنّ الأحكام القيميّة تخضع للتجربة والنتائج المنعكسة على حياة الأفراد والمجتمعات، فمن وجهة نظر برغماتية، ليس هناك قيم مطلقة أو صالحة لكل زمانٍ ومكان، بل تتحدّد أهمية أي قيمةٍ بمدى ما تُحقّقه من منفعةٍ وإشباعٍ لحاجات الناس، وعلى هذا الأساس، تصبح الأخلاق لدى البرغماتيين متغيّرةً بتغيّر السياق التاريخي والمعطيات الاجتماعية.


نحو فهمٍ أشمل للبرغماتية

ما تزال البرغماتية تشغل حيّزًا مهمًّا من التفكير الفلسفي والعلمي الحديث، لا سيما في عالمٍ يشهد تحوّلات متسارعة وتطوّرات تكنولوجية واجتماعية معقّدة، فهي توفّر منظورًا واقعيًّا لإدارة تلك التحوّلات وإيجاد الحلول التي تفيد الأفراد والمجتمعات، من خلال اختبار الأفكار في مختبر الحياة اليوميّة، وعلى الرغم من الانتقادات التي توجّه إليها، يظلّ هذا المذهب قادرًا على التطوّر واستيعاب التنوع، مستندًا إلى اقتناعٍ عميقٍ بأنّ الحقيقة لا تُكتَشَف مرّة وإلى الأبد، بل تُخلَق وتُعاد صياغتها عبر التجربة العملية.

ذو صلة
    هل أعجبك المقال؟