المعتزلة ودورهم في إعادة تشكيل تاريخ الإسلام والبدايات الأولى نحو نشوء الفلسفة الإسلامية
أصل تسمية المعتزلة
اختلفت المصادر حول سبب تسميتها، فبعض المصادر تقول أنّ سبب هذه التسمية يعود إلى بدايات الفتنة الكبرى التي حدثت بين صفوف المسلمين، وذلك عندما اعتزل عدد من الصحابة أحداث تلك الفترة ولم يشاركوا فيها، ومن أبرزهم عبد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأسامة بن زيد بن حارثة، وسعد بن أب وقاص، بالرغم من أن أغلب المصادر التاريخية تُجمع على أنّ هؤلاء لم يقوموا بأي نشاط فكري أو عقائدي. وفي مصادر أخرى وهي مرجحة لسبب التسمية، هي اعتزال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد حلقة الحسن البصري، وذلك بسبب نشوء خلاف فكري بينهم.
وكان ذلك بمطلع القرن الثاني الهجري، فيقول أحد المصادر التاريخية، أنَّ قتادة بن دعامة السدوسي البصري الأكمه -والذي توفي بين 117 و118 هجر- كان تابعيًا وعالمًا كبيرًا. دخل أحد مساجد البصرى مرةً، وكان في المسجد عمرو بن عبيد ونفرٌ من أتباعه فأمهم قُتادة وهو يظن أنهم حلقة الحسن البصري، فلمّا علم أنّها ليست له قال إنما هؤلاء المعتزلة ورحل عنهم.
نشأة المعتزلة
في الحقيقة لم تكن المعتزلة هي أول فرقة كلامية نشأت في الإسلام، فقد سبقتها فرق أخرى في ذلك كالجهمية والقدرية. ولكن سبب شهرة المعتزلة وانتشارها؛ هي أنّها أول فرقة صاغت موضوعات لها علاقة بعلم الكلام بشكل مذهبي فكري متكامل. بحيث أصبحت قضايا علم الكلام تناقش في إطار الحدود التي وضعها مفكرو المعتزلة، فقد وصفوا مفكري المعتزلة أنّهم أرباب الكلام وأصحاب الجدل، وهم المفرقون بين علم السمع وعلم العقل. وقد قال عنهم المفكر الإسلامي أبو المظفر طاهر بن محمد الأسفراييني، أنّهم أول فرقة أرسوا قواعد الخلاف.
اقرأ أيضًا: الصعلكة والفتوة: ظواهر لمعت واختفت في الثقافة العربية
لقد مثّل المعتزلة النزعة العقلية في الفكر الإسلامي، وكانوا من أشد المدافعين عن الإسلام فكرًا وجدلًا ضد كل من خالفهم من أبناء الديانات الأخرى. لقد ازدهر الاعتزال في أوج الحضارة الإسلامية وخاصةً في القرن الثالث هجري، وتقول بعض المصادر أنَّ قسمًا من رجال الاعتزال كانوا من الموالي ومن أصحاب الحرف، وإن دلَّ ذلك فإنّه يدل على أنَّ مبدأ المساواة قد تحقق في الحضارة الإسلامية.
تقول بعض المصادر إنّ الاعتزال كمذهب فكري عقائدي يعود إلى محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بمحمد ابن الحنفية، وأنّ محمدًا هذا قد أخذ الفكر عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد قد أخذ عن محمد بن علي. ويؤيد هذا الرأي عموم الشيعة الزيدية باعتبار أن أصولهم الفكرية والعقائدية تعود إلى المعتزلة، باستثناء فكرة الإمامة. وذلك باعتبار أن زيد بن علي كان تلميذًا لواصل بن عطاء.
أفكار المعتزلة
وهي خمسة أفكار رئيسية تمثل ركائز فكر الاعتزال بحيث لا يعد معتزلًا من لا يؤمن بها وهي:
التوحيد
أجمع المعتزلة أنّ الله واحد ليس كمثله شيء، وقد نفى المعتزلة الصفات الربانية ونزهوا الوحدانية. فالله هو السميع البصير ليس بجسم ولا شبح ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا جوهر ولا طول ولا عرض ولا عمق. ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا يوصف بصفة، وهو الأول متقدمًا المحدثات وموجود قبل المخلوقات إنّه القديم وحده ولا قديم غيره. لكن أهم ما طرحه المعتزلة هي قضية: هل القرآن مخلوق مرتكزين بذلك على نفي قدم القرآن؟ لأنه غير ذات الله بل هي كلمات الله المقولة في وقت معين.
العدل
هي أنّ الله سبحانه وتعالى عادلٌ بالمطلق، لا يصدر عنه ظلم ولا يجبر الإنسان على معصية ثم يعذبه عليها. ولا يمكن أن يأمر بما لا يطاق، ولا يمكن أن يفعل إلا ما هو الأصلح للعباد والأنفع لهم. لكن الله تعالى وضع قانونًا وسُنة في حياة البشر بحيث أن من ارتكب المعاصي، وتجبّر ولم يعد يرى الحق، فيؤدي به ذلك إلى الضلال فهو مسؤول عن عمله.
لقد جعل الله الناس أحرارًا مختارين، فالله ليس خالقًا لتلك الأفعال، فالإنسان هو المسؤول عنها بخيرها وشرها، والله يثيبه لفعل الخير ويعاقبه لاقتراف الشر. إنّ أفعال الله تعالى كلها معللة بالأغراض الحكيمة أي الأهداف المحمودة، معتمدين على الآية الكريمة “قُل إنَّ الله لا يأمر بالفحشاءِ أتقولون على الله ما لا تعلمون”.
المنزلة بين منزلتين
وتعني أنّ مرتكب الكبيرة هو بمنزلة وسط بين الكفر والإيمان، وهي منزلة تسمى منزلة الفسق. وقد اختلف المعتزلة مع عدد مع الفرق الإسلامية الأخرى حول هذه الفكرة، فقد كفّر الخوارج مقترف الكبيرة بينما اعتبره المرجئة مؤمنًا. فقد قال واصل بن عطاء أنّه إذا مات مقترف الكبيرة من غير توبة فهو من أهل النار لكن يخفف عنه العذاب.
الوعد والوعيد
وهما أمران نافذان من الله تعالى فوعد الله بالثواب ووعيده بالعقاب ووعده بقبول توبة التائب هي نافذة ولا بدّ من الإيمان بها، وبالتالي لا يتم العفو بغير توبة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كان المعتزلة من أكثر الناس الذين سارعوا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الأمر بالمعروف فهو الدفاع عن الإسلام ومنافحة عنه، والنهي عن منكر بمحاربة الفساق والزنادقة. فقد انتشرت الزندقة بتلك الفترة انتشارًا كبيرًا وأصبح أمر الدين والعقيدة في خطر؛ لذلك تحتم على المعتزلة أن يحملوا لواء الدفاع عن الإسلام فكريًا وعقائديًا بوجه تلك الأفكار ومروجيها التي انتشرت تلك الفترة.
اقرأ أيضًا: فرصة لنفهم مع كتاب هادي العلوي: هل الاغتيال السياسي في الإسلام سياسي أم عقائدي؟!
لقد كان للمعتزلة شروطًا للأمر بالمعروف وهي أن يُعلم أن ذلك لا يؤدي لمضرة أعظم منه. فمثلًا لو أن نهيه عن شرب الخمر يؤدي لقتل جماعة من المسلمين لم يوجب الأمر بالمعروف، وذلك بحسب قول أحد شيوخهم وهو القاضي عبد الجبار الهمذاني. كما أنّه إذا غلب على ظنّه أن يؤدي الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر لمضرة في ماله أو نفسه وهو ليس له قدرة على ذلك فإنه؛ لا يجوز. وإن كان له القدرة على احتمال ذلك الضرر واعتباره إعزازًا لدين الله فإنه يحسن ويثاب.
كما ترى المعتزلة أنَّ النهي عن المنكر يكون باللسان واليد والسيف، وتقول بعض المصادر أنّه كان لهم يدًا بمقتل الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بعد أن جهر بالفسق ورمى المصحف. وقد فرَّ الشاعر بشار بن برد للبصرى خائفًا منهم بعد أن هدده واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وذلك بسبب إفساده الشباب. كما نصح المعتزلة الخلفاء، ومنهم الخليفة العباسي المنصور عندما قال لعمر بن عبيد أعني بأصحابك فأجابه الأخير: “ارفع علم الحق يتبعك أهله”.
لقد كان للمعتزلة دور رئيسي في الحياة الفكرية والسياسية في صدر الحضارة الإسلامية وذلك منذ أوائل القرن الثاني هجري حتى القرن الخامس هجري، ومن ثم تواروا عن المسرح الفكري بالرغم من تبني بعض المذاهب الإسلامية الأخرى لبعض من أفكارهم. لقد اختلف الباحثون في أفول نجمهم، فالبعض فسّر ذلك بسبب معاداة الدولة لهم منذ بداية عهد المتوكل العباسي، والبعض قال بسبب أنّ فكر المعتزلة هو فكر نخبوي لم يصل لعامة الشعب، بينما قال البعض أنّ السبب استقواء المعتزلة بالسلطة العباسية في بداياتها، على خصومهم الفكريين.
وأخيرًا نرى أنَّ المعتزلة استطاعوا من خلال منهجهم العقلي ونسقهم الأخلاقي أن يكونوا ممثلين للنزعة العقلية في أوج ازدهار الحضارة الإسلامية، كما حاولوا تنقية تصور الإنسان للألوهية من شوائب الحس المادي، وكان لزامًا على ذلك أن يستخدموا منهجًا عقليًا لتنزيه الذات الإلهية من كل شوائب التصور الإنساني.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.