لماذا سوف يقضي الذكاء الاصطناعي على وظائف أكثر مما نعتقد؟
8 د
انطلق القطار ولا مجال للتراجع أو التوقف أو حتى التمهل قليلًا، ولا بديل إلا التكيف والتعلم والتعامل مع الوضع الجديد سريعًا دون تأخير، فمع وعود بزيادة الإنتاجية ونمو هائل في الاقتصاد العالمي فإن المزيد والمزيد من الشركات تتجه لاستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي يهدد وفقًا لمجموعة متنوعة من التقارير الاقتصادية ملايين الوظائف على مستوى العالم وأكبر بكثير مما كان متوقعًا من قبل، فلن يتأثر فقط بضعة آلاف أو حتى مئات الآلاف من أصحاب الوظائف المتنوعة، وهم ليسوا من العمال ولكن من أصحاب الياقات البيضاء وحاملي الشهادات المتخصصة.
فالأمر لن يكون مثل الإنترنت والذي تباطأ تأثيره بشدة على الإنتاج العالمي لنجد أنفسنا جميعًا في منطقة ركود عُظمى، ولكن الذكاء الاصطناعي والذي لم يكن متوقعًا له الانتشار قبل عام 2050 أصبح حقيقة واقعة الآن وقبل سنوات من الوقت الذي انتظرناه فيه مع وعود بطفرات كبيرة في كل ثانية.
فكيف نستعد جميعًا لهذه الموجة الهائلة من التغيير والتي قد تزيد بشدة من الاضطرابات المجتمعية، وهل سوف نشاهد زيادة هائلة في البطالة كما حدث وقت الثورة الصناعية في القرن الخامس عشر؟ أم سوف يأخذ الأمر شكلًا آخر؟
أهم التنبؤات الاقتصادية بشأن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والوظائف
كشف تقرير عن بنك جولدمان ساكس في شهر مارس 2023 أن أكثر من 300 مليون وظيفة حول العالم سوف تتعطل بسبب زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، كما أضافت شركة ماكينزي للاستشارات العالمية أن ما يقرب من 12 مليون أمريكي سوف يضطرون إلى تغيير مجال عملهم بحلول عام 2030.
كما توقع الخبير الاقتصادي والعالم جوزيف شومبيتر قبل أكثر من 50 عامًا وجود قفزات متقطعة واندفاعات غير متسقة في النمو الاقتصادي العالمي إذ تختفي مجموعة كبيرة من الشركات مقابل بث الحياة في صناعات جديدة.
ورغم هذا تشير بيانات الاقتصاديين إلى أن الأمر لن يكون قاتمًا تماما مع توقعات بأن الذكاء الاصطناعي التوليدي سوف يضيف ما بين 17 إلى 26 تريليون دولارًا إلى الاقتصاد العالمي، كما سوف تنشأ وظائف جديدة بالتأكيد بدلًا من التي أطاح بها.
الفارق بين ثورة الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية والإنترنت
في الواقع جاءت الثورة الصناعية فجأةً تقريبًا وكذلك كان الحال بالنسبة للإنترنت، فحتى عام 1995 كان الكثير من الخبراء يؤكدون بما لا يدع مجالا للشك أنه لن يمكن مطلقا حجز تذاكر الطيران أو شراء الكتب عبر الإنترنت، بل لم تكن التوقعات له تزيد عن أنه لن يكون أهم من جهاز الفاكس.
ولكن من الواضح تمامًا الآن الخطأ الفادح لهذه التوقعات والتي لم تأخذ في حسبانها قاعدة المنحنيات الرأسية والتي غيرت العالم ببطء في البداية ثم حدث الاندفاع فجأةً ليعتمد الناس الآن على الإنترنت في كل مجالات الحياة تقريبًا.
ولكن بالنسبة للذكاء الاصطناعي فالأمر كان متوقعًا منذ سنوات طويلة بفضل الأفلام وخيال الكُتاب، إلا أن التسارع في الظهور والانتشار كان أبكر بكثير من التوقعات أيضًا، فقد توقعت شركة ماكنزي عام 2017 أن النماذج اللغوية الكبيرة مثل GPT-4 لن تكون موجودة قبل عام 2027، وأنه سوف تنفيذ نصف المهام آليًا بحلول عام 2045 وربما تمتد إلى 2060.
ولكن هذه الأتمتة وتلك التقنية موجودة وواقعية الآن ويزيد استخدامها بسرعة خرافية على مستوى الشركات العالمية مثل مايكروسوفت وأمازون وجوجل و AT&T وSalesforce وCisco وغيرها.
هل سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى بطالة عالمية؟
يُقدِّر المنتدى الاقتصادي العالمي أن 83 مليون شخص على مستوى العالم سوف يفقدون وظيفتهم خلال الخمس سنوات المقبلة بسبب الذكاء الاصطناعي، إلا أنه سوف تظهر 69 مليون وظيفة أخرى، وهو أمر جيد بالفعل إلا أنه سوف يترك نحو 14 مليون شخصًا بلا وظيفة ما لم يطوروا أنفسهم الآن.
وحتى الأشخاص الذين سوف يحتفظون بوظائفهم فعليهم التطور المستمر وليس بنسبة 5 أو 10 أو 20% ولكن تؤكد التوقعات أن 44% من المهارات الأساسية للعمل سوف تتغير خلال سنوات قليلة.
لكن ماذا عن البطالة؟
أدت الأتمتة السابقة في القرن العشرين إلى تأثير سلبي على العمال ذوي المهارات المنخفضة لصالح أصحاب ذوي الياقات البيضاء أو الأشخاص الأكثر تعليمًا ومن يتمتعون بدرجة مرتفعة من المهارات.
ولكن هذا ليس الحال الآن، فهؤلاء العمال والذين كانوا محصّنين ضد الأتمتة لاعتمادهم المباشر على الذكاء والعقل والمهارات المرنة أصبحوا في وجه مدفع التغيير الآن.
تؤكد منظمة العمل الدولية أنه يوجد ما بين 644 إلى 997 مليون عاملًا في مجال المعرفة والمهارات حول العالم بما يتراوح بين 20-30 % من إجمالي العمالة العالمية والتي تشمل كل من التسويق والمبيعات وهندسة البرمجيات والمحاسبة والاستشارات المالية والكتابة والبحث والتطوير وقد أصبحوا جميعًا في توجس وحيرة من تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي عليهم وهل سوف تُستبدل وظائفهم به أم لا.
لكن يؤكد بعض الاقتصاديين مثل دكتور أريك برينجولفسون أننا لن نشهد طوفانًا من العاطلين عن العمل فورًا، إذ سوف يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى خلق فرص جديدة على المدى الطويل، كما أن بعض الأدوار التي قد يبدو أنها سوف تتأثر سلبا قد يزيد الطلب عليها مثلما حدث من زيادة الطلب على الصرافين في البنوك رغم الانتشار الكبير لأجهزة الصراف الآلي، ومثل ما نراه الآن من زيادة الطلب على وظائف البرمجة والترميز رغم القدرة الفائقة لـ CHATgpt على تنفيذها.
لكن هذا لا يعني أننا لن نشاهد اضطرابات اجتماعية ناجمة عن انخفاض أجور بعض الوظائف لصالح وظائف أخرى، وتحول الطلب إلى مهارات معينة وضرورة التدرب المُبكر عليها، ولا بد مساهمة الحكومات والشركات في هذا التدريب حتى لا تزيد حدة الاضطرابات الاجتماعية.
هل سيؤدي الذكاء الاصطناعي بالفعل إلى طفرة إنتاجية؟
جميع التوقعات تُشير إلى هذا حتى رغم المخاطر الاجتماعية على مجموعة لا يُستهان بها من الأفراد، فعلى عكس الإنترنت والذي لم يزد الإنتاجية بالفعل للعمال رغم الاستثمارات الضخمة في تكنولوجيا المعلومات والحوسبة، حتى أن البعض مثل روبرت جوردن الخبير الاقتصادي أكد أن اختراعات مثل السيارة وحتى المرحاض كان لها فائدة عن الإنترنت.
إلا أن الأمر من الواضح أنه سوف يختلف مع الذكاء الاصطناعي، أولًا تَطلب انتشار الإنترنت الكثير للغاية من التكلفة والبروتوكولات والبنية التحتية والأجهزة والتي حتى لم تنتشر بفاعلية في جميع دول العالم، ولكن مع الذكاء الاصطناعي فإن البنية التحتية موجودة بالفعل، ولا يتطلب نشره المزيد من التكاليف الباهظة.
كما أن الاعتماد الكبير لن يكون فقط على الذكاء الاصطناعي ولكن على دمجه مع التكنولوجيا الموجودة بالفعل سابقًا، فكما أدى الجمع بين الإنترنت وتقنية تحديد المواقع العالمي GPS والهواتف الذكية إلى تغيير عالمنا بالكامل، فإنه من المتوقع أن نشهد المزيد من التغيرات الجَذرية عند زيادة استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي مع التقنيات المتوفرة.
ويوجد الكثير من التقارير المُشجعة بالفعل، إذ تؤكد دراسة حديثة زيادة إنتاجية الموظفين في خدمة العملاء بنسبة 14%، كما حدث تحسن بإنتاجية العمال الأقل خبرة بنسبة 30%، كما أضافت دراسة أخرى من معهد ماساتشوستس أن إنتاجية مطوري البرامج ارتفعت بنسبة 56%، وأن مهارة كتابة المستندات الاحترافية ارتفعت بنسبة 40%.
وتعد التأثيرات الصغيرة شديدة الأهمية في نمو الاقتصاد العالمي والذي يمكن أن يزيد بنسبة 7% سنويًا بما يتراوح بين 2.6 و 4.4 تريليون دولارًا أو ما يعادل اقتصاد المملكة المتحدة البريطانية.
لكن هل سوف ينعكس نمو الاقتصاد العالمي الناجم عن استخدام الذكاء الاصطناعي على الأفراد العاديين؟
من المعروف تمامًا أن نسبة فاحشي الثراء حول العالم قليلة للغاية مقارنةً بالطبقة المتوسطة، ومما يثير الخوف بشدة أن تتجه نسبة الزيادة في الاقتصاد العالمي إلى الطبقة شديدة الثراء تاركةً فجوة عميقة في الطبقات الأخرى.
فكيف يمكن تجنب هذه الفجوة الاقتصادية الكبرى والتي سوف تنذر بانهيارات اجتماعية متنوعة؟
في الحقيقة تكمن الإجابة في التعليم والتدريب فقط لا غير، ففي حين تُشير بعض التوقعات المتفائلة إلى أن زيادة الإنتاجية سوف تزيد من طلب الشركات على العمال لمواكبة الطلب المتزايد، وأن حتى العمال الذين طُردوا من وظائفهم سوف يجدون غيرها، وإلى أن نمو إنتاجية العمل سوف تزيد من الدخل الحقيقي للأسر، إلا أن هذا كله لن يحدث دون التدريب والتعليم وزيادة الكفاءة.
وللأسف الشديد فإن مستويات التعليم الحالية في الكثير من دول العالم، لا تُؤهل العمال من جميع الفئات إلى مواكبة القفزات الهائلة في ثورة الذكاء الاصطناعي، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا وعلى الرغم من وجود 43 برنامجًا فيدراليًا للتدريب على التوظيف وبميزانية 20 مليار دولارًا، إلا أن هذا فعليًا لا يصل إلى أقل من 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه بالطبع نسبة شديدة الضآلة مع ناتج محلي إجمالي بلغ 25 تريليون دولار وأكثر من 150 مليون عاملًا، وليس الحال أفضل كثيرًا في مجموعة متنوعة من دول العالم.
ولكن توجد نماذج ملهمة على مستوى العالم بالفعل في مجال تأهيل وتدريب القوى العاملة، فنجد النموذج الدنماركي لتجنب البطالة مع إعانة لمدة عامين واستشارات وظيفية مع فرص إعادة التدريب، ونتيجةً لهذا يظل الدنماركيون عاطلين لفترة أقل عن العمل مقارنةً بالعمال في بلدان مماثلة.
كما أن في سنغافورة نموذج أكثر من رائع يمنح اعتمادًا ماليًا بقيمة 500 دولارًا للعمال أقل من 25 عامًا للوصول إلى 24000 دورةً في أي شيء بداية من علوم البيانات إلى الأعمال التجارية ويستفيد منه أكثر من 660 ألف شخصًا بالتعاون بين القطاعين العام والخاص مما أدى إلى زيادة نمو إنتاجية العمل السنوي بنسبة 3% وهي نسبة قوية للغاية.
ومن خلال تشجيع الشركات الخاصة على تدريب العمال مقابل الإعفاء الضريبي مثلًا كما هو الحال في نيويورك وجورجيا، فإنه من المتوقع أن تتراجع بشدة مخاطر الذكاء الاصطناعي على العمال من جميع الفئات، وهذا سوف يزيد من ربحيتها وعدم تعرضها لركود نتيجة البطالة وعدم وجود دخل حقيقي للأفراد.
وفي النهاية، فمن الواضح لكل فرد الآن أن تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي تتطور بسرعة فائقة، وأنها أدت إلى اضطرابات فعلية في سوق العمل والاقتصاد العالمي، صحيح أن هذه التحولات قد لا تكون مدمرة تمامًا كما حدث في أعقاب الثورة الصناعية وصعود الإنترنت وأن تأثيرها في تحسين الإنتاجية وتسريع النمو الاقتصادي سوف يكون أفضل، ولكن هذا المستقبل الوردي في الحقيقة ليس مضمونًا تمامًا، وإن لم يستعد الأفراد والحكومات وأصحاب الشركات بطريقة ملائمة لهذه التقنية والتحسب لها والتكيف معها، فإن ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي قد تكون مؤلمة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.