عبادة نهر النيل لم تأتِ من عدم: قصص وأساطير، تاريخ وحضارات، وليالٍ شابت على أرضه ولم يشيب

نهر النيل
آلاء عمارة
آلاء عمارة

8 د

“مصر هبة النيل”

هيرودوت

بطل قصتي اليوم هو نهر النيل العظيم، أتذكر في صفوف المدرسة منذ الابتدائية إلى الثانوية، كان يطلب منا المعلمون كتابة موضوع إنشائي عن نهر النيل. كنت استخدم المعلومات البسيطة لديّ وأكون موضوعًا. عادةً ما كان يقرأ المعلمون فقط كتاباتي. لم أعرف أنه سيأتي يوم وأكتب لعدد كبير من القرّاء، لكن هذه المرة بمعلومات أكثر في إطار شيق بين التاريخ والعلم.

اقرأ أيضًا: هوامش المقريزي: التاريخ المصري أعقد من قصة زواج قطر الندى ومنع الملوخية


لماذا سُمي بـ “نهر النيل”؟

نهر النيل

صورة لنهر النيل

أتذكر في إحدى حلقات برنامج “العلم والإيمان” للراحل دكتور مصطفى محمود، قال:

“المصري هو أول فلاح في العالم”

بالنظر إلى الماضي، قبل آلاف السنين، نجد البشر هائمين ودائمي التنقل، بحثًا عن الغذاء والماء العذب. لم يكن هناك حضارة. لقد قامت الحضارة بالزراعة، وكانت بداية الزراعة في أرض مصر، حول نهر النيل. ما جعل المصري ينفرد بلقب أول فلاح في العالم. وهو كذلك فعلًا، فعلى عاتقه قامت أقدم حضارة في التاريخ. هذا ما قصده دكتور مصطفى محمود – رحمه الله – بشأن النيل.

أما عن لقب النيل، فهناك عدة احتمالات حوله، أشهرها أن أطلق عليه المصريون القدماء اسم “إيترو عا”، أي النهر العظيم. (توقف هنا قليلًا، لاحظ كلمة “إيترو-عا” وكلمة “ترعة”، أجل، إنه مجرى المياه الصغير المتفرع من النيل اليوم.. اعتقدت أنها معلومة ربما تهمك، وفي الحقيقة، إنها مهمة لموضوعنا أيضًا).

ويُعتقد أنّ هوميروس (شاعر إغريقي ومؤلف الإلياذة والأوديسة) أطلق عليه لقب “أيجيبتوس”. أود توضيح شيء.. هل تُذكرك كلمة أيجيبتوس “Aígyptos” بشيء؟ أليست قريبة من الكلمة الأوروبية لمصر “Egypt”؟ بالضبط، لنكمل حديثنا..

يتفق المؤرخ اليوناني هيرودوت أنّ نهر النيل كان يطلب عليه “أيجيبتوس”. بعد ذلك، أخذ لقب “النيل”..وهنا قصة أخرى. في إحدى المرات، اعتلى ملك يُدعى “نيلوس” عرش مصر، اهتم كثيرًا بحفر القنوات والترع ليصل الماء إلى أكبر عدد من المصريين. وتخليدًا لذكراه، أطلق المصريون اسمه على النهر الذي كان يغذي مصر. وأصبح نهر النيل العظيم. ومن هنا نلاحظ أنّ اسم النيل أتى من أرض مصر، بالرغم من أنّ منبعه ليس في مصر، بالعكس، إنه ينتهي هناك.


نهر النيل.. بين الأساطير والآلهة

تدور العديد من قصص الآلهة حول نهر النيل. سنتناول كل منهما الآن:


خنوم.. رب الماء

نهر النيل

صورة لـ “خنوم”

يُطلق عليه أيضًا “غنوم”، وهو على شكل رجل له رأس كبش. يعتقد بعض العلماء أنّ كلمة “الغنم” مشتقة من اسمه. كان يعتبره المصريون القدماء رب الماء ويجلب الخير والرخاء ويخلق البشر من الطمي الذي يخلفه فيضان النيل.


حابي.. المتحكم في الفيضان

كلمة “حابي” تعني في اللغة المصرية القديمة “سعيد”. كان يتميز حابي بالخصوبة، فقد كان له بعض سمات الذكور وأعلى الجسم أنثوي بعض الشيء. ما يرمز إلى أنه أب وأم النيل في نفس الوقت.


أوزوريس.. موته وقيامه

ارتبط اسم أوزوريس بإيزيس في الأساطير المصرية القديمة. وهذه قصة أخرى، لأرويها سريعًا. كانت إيزيس زوجة أوزوريس، وكان له أخ يدعى ست. حقد ست على أخيه وقتله وقطع جسده 40 قطعة وألقيت في النيل ثم وصلت إلى البحر الأبيض المتوسط. استطاعت إيزيس بقوتها السحرية تجميع هذه القطع وأعادت زوجها إلى الحياة مرة أخرى، وعاشا معًا في جزيرة بعيدًا عن أعين الأخ الشرير “ست”. أنجبا صبيًّا يدعى “حورس”، الذي انتقم لوالده وقتل عمه ست.

نهر النيل

صورة لـ”حورس”

ترتبط هذه الأسطورة بفيضان النيل وانخفاض منسوبه، حيث يعبر فيضان النيل عن دموع إيزيس على رحيل زوجها. قد يعرف المصريون من قراء الموضوع أنّ هناك يومًا يسمى “وفاء النيل”. إنه يرتبط بهذه الأسطورة، وعادةً ما كان يحتفل به المصريون بدءًا من 15 أغسطس من كل عام لمدة أسبوعين. بالمناسبة، يُعتقد أنّ حابي هو ابن حورس.

تشير بعض الشائعات إلى تقديم المصريين القدماء فتاة عذراء كل عام لـ “حابي”..هل هذا صحيح؟


بخصوص عروس النيل

هناك قصة شائعة أو أسطورة بأنّ المصريين القدماء كانوا يقدمون فتاة عذراء جميلة للنيل كل عام كقربان. تعود هذه الأسطورة إلى ملك كان يحكم مصر في فترة ما اسمه “إيجيبتوس”، ضحى بابنته للنيل خوفًا من غضب الآلهة، وحزن عليها ثم انتحر. يُقال أنّ المصريين القدماء استخدموا هذه العادة بعد ذلك، وكل عام يقدمون فتاة عذراء. وعندما جاءت المسيحية إلى أرض مصر، استنكروا ما يفعله الوثنيون من المصريين، ولم يمارسوا هذه الطقوس.

بعد دخول الفتح الإسلامي على يد القائد المسلم “عمرو ابن العاص”، تقرب إليه المصريون ليستأذنوه بإقامة الطقوس، حتى لا يغضب النيل. رفض ابن العاص هذا التصرف بشكل قطعي، وأرسل للخليفة “عمر ابن الخطاب”، فما كان من أمير المؤمنين إلا أن أرسل ورقة فيها دعاء، عندما تلقاها ابن العاص ألقاها في النيل، وفي نفس الليلة ارتفع منسوب النهر لنحو 16 ذراعًا، ما طمأن المصريين بشأن الفيضان.

حسنًا، هذه هي الأسطورة الشائعة، لكن يجادل العلماء والمؤرخون بشأن هذا الأمر، فلم تذكر أي من البرديات أو الكتابات المصرية القديمة شيئًا بخصوص تقديم قرابين من البشر، ربما من الحيوانات أو الذبائح، لكن بشر لا لم يحدث. كما يشكك العلماء في مسألة إرسال الخليفة عمر هذا الخطاب لابن العاص ليلقيه في النيل، قصة غير منطقية.

إذًا، من أين أتت هذه الأسطورة؟ يقول السياح الأوروبيون الذين أتوا إلى مصر خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد أنهم رأوا المصريين يلقون تمثالًا من طين في نهر النيل، وعندما سألوا المصريين عن هذا التصرف، ردوا بأنّ هذا التمثال يرمز إلى نهر النيل، وهذه عادة مصرية قديمة، وعندما جاء الإسلام، حرم التضحية ببشر. بعبارة أخرى، كان هذا التصرف بهدف جذب السياح إلى مصر ليس إلا.


في مدح النهر العظيم.. ترانيم النيل

الترانيم عبارة عن نصوص أدبية في صورة أناشيد، كتبها الكهنة القدماء. كان لنهر النيل قدسية عظيمة عند المصريين القدماء، وألفوا الترانيم للفيضان الذي كان يلعب دورًا مهمًا في السنة الزراعية. وخلاله يمتليء النهر بالماء، ما يساعد الفلاحين على الزراعة، كما يترسب الطمي الناعم فوق الحقول التي فاضت عليها مياه النهر.

نهر النيل

عند حدوث الفيضان، كانت تُقام المهرجانات والاحتفالات التي قد تمتد لأسبوعين، وخلالهما تُتلى ترانيم النيل، وتبدأ من منتصف أغسطس. إذا لم يحدث فيضان النيل، لا يستطيع الفلاحون ري أراضيهم، وبالتالي قد يموتون جوعًا. وقد وضعوا التقويم النيلي الذي يبدأ مع الفيضان.

هناك ترنيمة باقية، لا يعرف أحد متى أُلفت بالضبط أو مَن ألفها. المؤكد أنها كُتبت لتُحفظ خلال عصور الدولة الحديثة بين عامي (1550-1069 ق.م)، لكن يجادل العلماء بشأن وقت تأليفها، بعضهم يعتقد أنها أُلفت خلال الدولة الحديثة، وآخرون يجادلون بشأن أسلوب اللغة والاستشهادات والرثاء، كل هذا يعبر أكثر عن حقبة الدولة الوسطى بين عامي (2025-1700 ق.م). وأغلب الظن أنها تعود للدولة الوسطى حقًا.


لماذا نهر النيل مهم للمصريين إلى هذا الحد؟

تأمل الصورة التالية لمصر، لقد التُقطت من داخل محطة الفضاء الدولية ثم أخبرني ماذا تلاحظ؟


نهر النيل من محطة الفضاء الدولية

ربما تلاحظ أضواءً على طول منحني. هذا المنحني هو نهر النيل. وبقية المساحة باللون الأصفر هي صحراء مصر. وهذا ما يميز بلادنا، حيث كانت صعبة المنال بسبب الصحراء الشاسعة التي تُهلك الغزاة قبل الوصول إلينا.

تتميز الأرض حول نهر النيل بالخصوبة، وهذا هو السبب الرئيسي وراء قيام الحضارة المصرية القديمة حول النيل، وتجمع السكان حول النيل الآن. لقد كان يفيض كل عام ويلقي الطمي على الأراضي حوله، ما يزيد خصوبة الأرض. أطلق المصريون القدماء على هذا الطمي “هدية النيل” أو “هبة النيل”..

من ذلك نخلص إلى أنّ النيل كان مهمًا لقيام واحدة من أعرق حضارات العالم. إضافة إلى أنه كان يمثل مصدر الشرب وصيد الأسماك والاستخدامات اليومية للمياه، كما كان طريقًا تجاريًا في الماضي. بمرور الوقت، ومع تقدم البشر، أصبح النيل مصدرًا للكهرباء، وهي واحدة من أهم الاكتشافات في القرن الماضي، واعتمد عليها البشر في الكثير من مجالات الحياة.

اقرأ أيضًا: اكتشاف المدينة المصرية المفقودة.. ما علاقتها بديانة التوحيد لدى المصريين القدماء؟ 


كم يبلغ عمرك أيها النيل؟

تأتي دراسة علمية بإجابة هذا السؤال، بالطبع لن ننظر إلى الأساطير لتحديد عمر النيل. قبل طرح الدراسة، أريد الإشارة إلى أنّ نهر النيل هو أطول نهر في العالم بطول 6650 كم. وهذا ما أثار جدل حول عمره، فدائمًا ما كان يعتقد العلماء أنّ الأنهار الطويلة، تأخذ وقتًا طويلًا حتى تستقر في مسارها، لكن هناك دراسة بين يدينا تضرب بهذه النظرية عرض الحائط، أو ربما نهر النيل حالة خاصة، لا أعلم.

نهر النيل

صورة توضح طول نهر النيل على امتداد قارة أفريقيا.

في نوفمبر 2019، نُشرت دراسة في مجلة “Nature Geoscience”، أجراها عدد من الباحثين في جامعة تكساس، تقترح بأنّ النيل استقر في مساره منذ نحو 30 مليون عام، وهو ما أثار جدلًا بين العلماء، فقد كان الاعتقاد السائد أنه يبلغ من العمر 6 ملايين سنة فقط! حيث وجدوا أنّ النهر يستقر حسب التدرج الطبوغرافي تحت مسار النيل، وكان تحت المسار حمل حراري كبير أدى إلى ارتفاع في الأثيوبية وانخفاض في البحر الشامي (وهو شرق البحر الأبيض المتوسط) وشمال مصر، ما ساعد في ضبط حركة النيل بسرعة من الجنوب إلى الشمال.


شريان الحياة السائل

ذو صلة

لا يغذي النيل مصر فقط، لكنه كان نقطة فارقة في تاريخ مصر، حتى إنّ اسمه جاء من أرض مصر. مع ذلك، إنه يغذي الكثير من البلاد وهي: تنزانيا وأوغندا وبوروندي والكونغو وكينيا وإثيوبيا وإرتيريا والسودان ومصر.

كان وما زال نهر النيل هو الحياة بالنسبة لسكان قارة أفريقيا، وله منزلة خاصة عند المصريين، فالنيل مرتبط باسم مصر دائمًا. فقط اذكر لأي شخص ليس مصري كلمة “مصر” سيأتي على باله صورة النيل والأهرامات والمعابد وغيرها. وعمر النيل أقدم من عمر مصر، لكن المصريين على مدار الزمان، مهما حدث لا ينسون فضله. ربما انتزعوا منه ألقاب الآلهة المبالغ فيها، لكنه يظل شريان الحياة لنا.

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة