باريس ولندن في قصة مدينتين .. ما أشبه اليوم بالبارحة
7 د
إن الثورة تأكل أبنائها
هكذا صرخ الثائر الفرنسى الشهير «جورج جاك دانتون» وهو يقف أمام مقصلة الإعدام، مبتسمًا بسخرية، ويلتقط أنفاسه الأخيرة، بعدما حكم صدر ضده من بعض رفقاء ثورته ممن اتهموه بأنه «خائن للثورة»، مستكملاً بذلك المثل الفرنسي القائل: «من السهل ان تبتدئ الثورات، ولكن من الصعب ان تنهيها بسلام»، ومن هذه الأجواء الثورية الملطخة بالدماء نستعرض اليوم واحدة من أهم درر الأدب الإنجليزي.
كان أحسن الأزمان وأسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وعصر الحماقة، كان عصر اليقين والإيمان، وكان عصر الحيرة والشكوك، كان زمن النور وزمن الظلمة، كان ربيع الأمل وشتاء القنوط..
بين أيدينا كل شىء وليس فى أيدينا أى شىء، وسبيلنا جميعًا إلى سماء عليين، وسبيلنا جميعًا إلى قرار الجحيم، تلك أيام كأيامنا هذه التى يوصينا الصاخبون من ثقافتها بأن نأخذها على علاتها، وألا نذكرها إلا بصيغة المبالغة فيما اشتملت عليه من طيبات ومن آفات..
هكذا افتتح الروائى الإنجليزى الأشهر «شارلز ديكنز – Charles Dickens» روايته الكلاسيكية الخالدة «قصة مدينتين – Tale of two cities»، والتى كتبها عندما كان في السابعة والأربعين من عمره.
ولعل «قصة مدينتين» الأشهر بين روايات «شارلز ديكنز»، مع أنها ليست أقوى تلك الأعمال، وربما تعود شهرتها إلى كونها تخرج موضوعاً وشكلاً، عن السياق العام للروايات الاجتماعية والتاريخية، كما أنها تبدو أقرب إلى أن تكون من كتابة واحد من الكتاب الفرنسيين، منها إلى أن تكون من تأليف كاتب إنجليزي.
وتعتبر تلك الرواية العظيمة، عين من عيون الأدب الإنجليزي، وهى العمل الثاني من عملين روائيين تاريخيين كتبهما، وهى النص الأدبى الأكثر مبيعًا فى التاريخ، بعد أن تخطت 200 مليون نسخة حول العالم، كما أنها الرواية الأكثر تدريساً فى المدارس الأمريكية وبعض دول العالم، وقد أنتجت فيما بعد للسينما والتليفزيون حوالي 13 مرة.
رابط الرواية على موقع Goodreads.
وككثيرٍ من قصص «ديكنز»، كتبت «قصة مدينتين» بالأصل وبيعت كأجزاء، جزء واحد كل مرة، حيث نُشرت على مقتطفات أسبوعية (ليس شهرية كما هي الحال في معظم الروايات)، الجزء الأول نشر في الدورية الأدبية «على مدار العام» في 30 ابريل 1859م، والجزء الواحد والثلاثون، والأخير نشر في 25 نوفمبر من نفس العام.
وتؤرخ الرواية لفترة قيام الثورة الفرنسية على الملكية، حيث تُعد هذه الرواية من أعظم الروايات التي تناولت الثورة الفرنسية، وقربت من خلال أحداثها إرهاصات الثورة الفرنسية، والأحداث التي تلتها من الهجوم على سجن الباستيل، فالرواية تصف أحداث الثورة الفرنسية ولكن بعيون أسرة انجليزية.
وقد استلهم «ديكنز» مصدره وتفاصيل الرواية التاريخية من الرواية العظيمة «الثورة الفرنسية – The French Revolution» لصديقه الكاتب «ثوماس كارليل – Thomas Carlyle»، وقد قام «ديكنز» بنفسه بعدة رحلات إلى باريس..
وزار مواقع الثورة التاريخية الباقية. وقد كانت بريطانيا في زمن «ديكنز» أقل استقراراً بكثير مما هي اليوم، وكان كثير من الناس يشعرون بأن انتفاضة شعبية ضد الطبقات الأغنى خطر قائم باستمرار؛ لذلك اهتموا اهتماماً عظيماً بالدروس التي سيتعلمونها من التجربة الفرنسية.
فالمدينتين هنا فى الرواية هما «باريس» ونقيضها «لندن» في نفس الفترة خلال عام 1775م، حيث قدم «ديكنز» من خلال روايته «قصة مدينتين» صورة عن الواقع وتناقضاته فى المدينتين بين رعب باريس وبؤس لندن فى أفضل الأوقات وأسوأ الأوقات فى القرن الثامن عشر، في زمن الأنتفاضة الاجتماعية الكبرى للثورة الفرنسية (1789م : 1799م).
انكسر برميل مملؤ بالنبيذ الأحمر في أحد شوارع حي (سانت انطوان)، الذي يعتبر من أفقر أحياء مدينة باريس وأكثرها بؤساً، وعلى الفور ترك جميع الناس أعمالهم، وأسرعوا إلى حيث تحطم البرميل، وأخذوا يحاولون شرب قطرات النبيذ قبل أن تبتلعها الأرض، وخلع بعضهم ثيابه، وأخذ يغمسها في النبيذ المسكوب، ثم يعصرها في فمه
هكذا صوّر «ديكنز» حياة البؤس والشقاء في الأحياء الفقيرة في مدينة باريس، فالرواية تلاقى الضوء على اضطهاد ومحنة الطبقة العاملة الفرنسية تحت القمع الوحشي للأرستقراطية الفرنسية خلال السنوات التى قادت إلى الثورة الفرنسية.
كما تكشف الرواية أيضًا عن أزمة الوجه المظلم للثورات، بحيث أن مفاهيم العدالة والحرية التي تنادي بها قد تكون قناعاً لعمل انتقامي وحشي ضد الإنسانية، عبر التركيز على الممارسات الوحشية التى مارسها الثوريون ضد الأرستقراطيين فى السنوات الأولى للثورة، من نهب وقتل وإبادة والهجوم على قصور النبلاء والعمل على إحراقها وهدمها..
وبما حدث في هذه الفترة الرهيبة بين أبريل 1793 ويوليو 1794 حين مات 40.000 إنساناً، فيوضح الكتاب أسباب الثورة وتأثيراتها على حياة الناس اليومية.
ثم يمضى «ديكنز» فى الوصف، فيقارن في المشهد الافتتاحي بين الأحوال في المدينتين، فيقول : «كان على عرض إنجلترا ملك ذو فك عريض (جورج الثالث 1760م – 1820م)، وملكة ذات وجه قبيح، وكان على عرش فرنسا ملك ذو فك عريض (لويس السادس عشر 1774م – 1792م)، وملكة ذات وجه جميل».
ويستمر ديكنز فى مقدمته الاستهلالية الرائعة فيقول: «فى كلا البلدين كان السادة المهيمنون على مخازن الدولة الخاصة بالخبز والسمك يرون بوضوح البلور، أو أوضح، أن الأشياء ستظل على حالها الراهن أبد الدهر».
ومن هذه المقدمة التى تؤهل القارئ لمتابعة رواية جسدت أحداث الثورة الفرنسية، بشعاراتها عن الإخاء والحرية والمساواة، والهجوم على سجن الباستيل من خلال قصة حب رومانسية مشوقة، تشهد كل الأشياء تغيراً وتبدلاً بسرعة منقطعة النظير، وتنتهي بدحض رؤية وإيمان واقتناع القائمين على الدولة فى فرنسا وبريطانيا بأن شيئاً لن يتغير.
فالرواية تدور بشكل رئيسى حول رجلان -أحدهما فرنسي والآخر إنجليزي، لكنهما متشابهان في الهيئة والمظهر إلى حد بعيد، وهما يحبان السيدة نفسها، والشخصيات الثلاث، شأنهم شأن شعب فرنسا، يواجهون مخاطر الحياة في زمن لا تستريح فيه المقصلة عن حصاد الرؤوس.
فهي رواية تعتمد اعتماداً أقل على الشخصية، فاهتمامها كان على إثارة الحكاية التي تتطور، حيث تتبع الرواية حياة بعض الأشخاص خلال تلك الأحداث، أشهرهم فى الرواية هو «تشارلز دارنى» أحد الأرستقراطيين الفرنسيين، الذى يقع ضحية للثورة العمياء، التى لم تميز بين الخير والشر..
ليقع تحت وطأة العنف غير المميز من جانب الثورة على الرغم من طبيعته الفاضلة وشخصيته الطيبة، فيحاكم بتهمة التجسس، ويطلق سراحه، لأنه جزئياً شبيه جداً في المظهر من المحامي «سيدني كارتون»، وهذا الشبه يصبح حتى أهم فيما بعد في القصة.
هل أنت كاتب مبتدئ؟.. كيف تختار بين الرواية القصيرة والطويلة والفرق بينهما
ومن أبرز الشخصيات في الرواية شخصية «مدام ديفارج» الثورية، التي تحقد على عائلة دارني الأرستقراطية لما فعلته بعائلتها في الماضي، كما تروي القصة أيضاُ الحكاية الأكثر خصوصية لـ«سيدني كارتون»، المحام الإنجليزي السكير، الذى يضحى بحياته لأجل حبه لـ «لوسي» زوجة «دارني»، وقراره النهائي أن يضع خير الآخرين أمام شعوره الطبيعي في حفظ الذات، وقد أصبحت القطعة في نهاية الكتاب التي يوضح فيها قراره أحد أشهر القطع في الأدب الإنجليزي.
فيقع كلا من الرجلان في حب «لوسي»، في الوقت نفسه تندلع الثورة في فرنسا، ويضطر «دارني» أن يعرض حياته للخطر بعودته إلى هناك ليساعد جابي الضرائب «جابيل»، وتلحق «لوسي» بصحبة والدها الطبيب الفرنسي «د. ألكساندر مانيت» بـ «دارني»، فتدركهما الأحداث المثيرة التي تلي حجز «د. مانيت»، في سجن الباستيل الرهيب لسنين عديدة، لتحسبه ابنته ميتاً.
وتمر الأحداث الى أن تتفاجأ «لوسي» بأن والدها مسجون في الباستيل، ولا تعلم بوجوده إلا بعد إطلاق سراحه، واجتماعه بها في لندن، حيث تجده «لوسي» والسيد «لوري»، اللذان ذهبا إلى باريس للبحث عنه، ووجداه نصف مخبول، فيأخذانه عائدين إلى لندن..
حيث تتحسن صحته وذاكرته تدريجياً، وتنتهى الرواية بقتل «كارتون» على المقصلة، ليقوم الكاتب بعرض أفكاره في تلك اللحظة، بشكل تنبؤي نوعاً ما، فيرى كارتون بعين الخيال أن العديد من الثوريين سيتم إعدامهم بنفس المقصلة.
ونلاحظ مع توالي الأحداث تجلي ظاهرة تغيير البطل والشخصية الرئيسة للحكاية، ففي البداية يكون الضوء مسلطاً على شخصية «د. ألكساندر مانيت», ثم تنتفل دائرة الضوء لتحيط بشخصية «تشارلز دارنى» ليتسلم راية بطولة الرواية..
روايات رائدة فتحت الباب للأدب النسوي
وفي النهاية تستقر البطولة عند شخصية «سيدني كارتون» الشخصية المهملة خلال كل أحداث الرواية، لتتصاعد أهميتها عند الخاتمة الملحمية للأحداث؛ لتصبح تضحية «كارتون» هي أهم ما يلبث بذهن القارئ بعد اتمامه قراءة هذه الرواية الرائعة.
وينهى «ديكنز» روايته بجملة ختامية تقول: «إن ما فعلته أفضل بكثير جداً مما فعلته على الإطلاق، وأنها لراحة أفضل بكثير مما عرفت على الإطلاق».
واليوم وإن كان العالم المعاصر مكاناً مختلفاً، فهو يحمل التناقضات نفسها، وبعضها أكثر حدة، لا بل أكثر تعقيداً، مما يعطينا أملاً في أن حالنا الذى تسوده المتناقضات سوف يتحول إلى استقرار نتمناه، ونتمنى معه ألا تطول فترة الانتقال إليه من نزيف الدم والدموع…
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
العفو.. تُرجمت الرواية لعدة لغات من بينها الفرنسية…
العفو.. تُرجمت الرواية لعدة لغات من بينها الفرنسية…
شكرا على المقال . كيف حال لغة الكتاب لأني أريد أن أقرأه باللغة الفرنسية