من أرض زيكولا إلى مخطوطة ابن إسحاق: لماذا يعشق الشباب الأدب الرخيص؟
6 د
لذلك يأتي السؤال: ما الذي يجعل الأدب جيدًا أو رخيصًا؟ أي بمعنى أصح، ما العوامل التي تجعل رواية ما صامدة أمام وجه الزمن، وأخرى تُنسى بعد عامٍ واحد من إصدارها؟
الإجابة فعلًا تحتاج إلى مقالات ومقالات، لن نستطيع شملها في مقال واحد أبدًا. لكن سوف نجيب عن سؤال آخر يأتي تبعًا لما سبق: لماذا يقرأ الشباب الأدب الرخيص؟
أجل، نحن اخترنا الأدب الرخيص كمثال في حديثنا اليوم، نظرًا لكون الشباب هو المحرك الرئيس لأي موجة تنوير أو إظلام لأي شعب، وللأسف اختار شبابنا الرخص، فلماذا؟
اجلبوا مشروبكم المفضل، واستمتعوا بما أتينا اليوم للـ (رغي) حوله.
ما معيار القيمة الأدبية؟
لتعريف (رخيص)، يجب أولًا وضع معيار نقيس بفضله جودة الأعمال الأدبية. المعيار الذي استخدمه هنا ينقسم إلى جزأين، الأول: هو احترام عقلية القارئ، والثاني: هو عدم الهبوط بالمستوى السردي.
أن تقدم رواية، هذا عمل يحتاج منك إلى فترة طويلة جدًا للتحضير، وإذا كانت لديك الموهبة الفطرية في السرد والإخراج الفني، لا فائدة لها على الإطلاق بدون أرضية صلبة تستطيع تحريك قطع الشطرنج عليها بحرية.
في عالم الأدب، الأرضية الصلبة هي قواعد العالم الذي تقوم بنسج مفرداته للقارئ من العدم. إذا كانت رواية فانتازية مثلًا، يجب أن تنسج العالم كله من الصفر كأنك الإله ذاته، ولا يجب أن يخلق الإله عالمًا به نواقص أو قواعد متضاربة، الكمال صفة حتمية من صفات الإله.
تفاصيل العالم الفانتازي تنطوي على الشعوب، الحضارات، المباني، الملابس، الأسلحة، التاريخ، الدوافع، الصراعات السياسية والعقائدية، مستوى التحضر المدني، مستوى التدهور الأخلاقي، وبالطبع كل التفاصيل الدقيقة التي تجعل العالم متكاملًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى. التفاصيل هي الملكة دائمًا وأبدًا، وتتبعها مباشرة العلاقات الإنسانية في الأعمال الفنية.
لا توجد رواية تستطيع مجابهة الزمن عن طريق علاقة عاطفية هزيلة يسهل تكرارها في الكتب وشاشات السينما والتلفاز، ولهذا سلسلة سيد الخواتم قائمة حتى وقتنا هذا، وأرض زيكولا نادرًا ما يُسمع عنها. لهذا السبب روايات مثل: زقاق المدق أو يوميات نائب في أرياف قائمة حتى وقتنا هذا، بينما روايات مثل: إذما ومخطوطة ابن إسحاق طواها الزمن طيًّا.
هذا كله كان تبعًا للجزء الأول من المعيار للحكم على الأدب مجملًا، أما الثاني فهو آفة هذا الجيل، وبالتبعية آفة كتّابه. هذا الجيل يستقي معلوماته كلها تقريبًا من الإنترنت، وعلى وجه التحديد من مواقع التواصل الاجتماعي. في تصنيف مصادر المعرفة، تأتي (بوستات الفيس) و (تويتات تويتر) في المرتبة الدُنيا، وبها دائمًا أعلى نسبة خطأ.
وبجانب تدهورها معلوماتيًّا، فهي أيضًا مكتوبة بأكثر طريقة ركيكة ممكنة، وهذا مبرر لكون القارئ في الأساس يستقي معجمه اللغوي من التلفاز المتحدث بالعامية، الأصدقاء المتحدثين بالعامية، وأيضًا بوستات فيسبوك الأخرى المتحدثة بالعامية.
الأدب الرخيص هو الذي لا يحترم عقل القارئ ويقدم له وجبة مشوهة المعالم ويطلب منه أكلها، وإذا رفض الطعن في ذمته النقدية مباشرة، وقال إنه لا يُقدر المجهود المبذول في السطور المكررة. وهو الأدب المكتوب بعامية ركيكة لا ترقى إلى مستوى الفصحى البسيطة.
حتى أن الأمر في الإنجليزية مكروه، الكاتب الذي كان يسرد سابقًا باللهجة الأمريكية العاميّة – Slang American English بات الآن يسرد بالإنجليزية الرسمية التي يستطيع فهمها البريطاني والأمريكي على حدٍ سواء، لأن تعميم اللغة وتسطيحها يضمن هدم الحواجز الثقافية بين الشعوب، فبالتالي يصل العمل إلى عدد أكبر من الأفراد دون الحاجة لإعادة صياغة من مترجم أو جامع.
اقرأ أيضًا:
- هل قراءة الروايات مضيعة للوقت حقًا؟
لماذا يقرأ الشباب الأدب الرخيص؟
قد تعتقد أننا أجبنا عن السؤال في الفقرة السابقة، لكن هذا كان مجرد غيض من فيض يا عزيزي.
دعني أزيدك من الشعر بيتًا، وأطلعك على الحياة المتسارعة للجيل الحالي من الشباب (وأنا منهم بدون شك). أنا لست كبيرًا، أنا 22 سنة فقط، ولي أصدقاء في سن المراهقة، ولهذا أستطيع تكوين رؤية موضوعية حول الأمر فعلًا؛ على الأقل حسب اعتقادي.
حياة الشباب تبدأ مع رنة الهاتف في الصباح، ثم أزيز عربات المواصلات العامة من وإلى المدرسة أو الجامعة، يتبعها اللهاث من درس إلى درس ومن كورس إلى كورس، وأخيرًا تأتي ساعات الليل إما للمذاكرة، مشاهدة المواد الإباحية، أو حرق حلقة من مسلسل أو أنمي، ثم النوم في سلام، استعدادًا لرنة الهاتف في اليوم التالي.
ذلك النمط التسارعي للحياة من الصعب جدًا أن (تحشر) فيه مكانًا لقراءة رواية أو كتاب، الأدب لن يكون ضيفًا خفيف الظل فيها. لذلك يجب أن تكون القصة فعلًا مشوقة، والأسلوب سلسًا، وهنا تأتي الكارثة.
الكتّاب يستسهلون بشدة مهنتهم السامية، ويقدمون للشباب تجربة قراءة سيئة إلى أقصى حد، بحجة أن الشاب لن يقرأ العمل الجيد (المجعلص) على أي حال، فلماذا التعب؟ ذلك المبدأ قاتل، وخلق موجة من ظهور دور النشر الحالبة لأموال الناشرين مقابل طرح أي هراء في السوق، لأن للهراء له سعر هذه الأيام كما نعلم جميعًا.
إذًا، ما الحل؟ هل سنترك الشباب دون أعمال جيدة بحجة أنها لن تدخل أدمغتهم بتعريفة؟ أم نطرح سيئ الأعمال من الأدب الرخيص بحجة أنها الأنجح في السوق؟
الإجابة يا عزيزي موجودة في صياغتي نفسها. إذا لاحظت جيدًا، منذ أول كلمة وحتى هذه الكلمة، أنا أكتب بأسلوب يمزج بين الفصحى البسيطة والعامية المصرية غير المستهلكة، والتي سرد بها أنيس منصور ونجيب محفوظ كتاباتهم سابقًا. الإجابة الحقيقية هي تقديم أعمال بلغة فصحى بسيطة وسهلة، تحمل مصطلحات من الحياة الشعبية أجل، لكن لم تتدنَّ إلى مستوى الكلمات المتغيرة جيلًا خلف جيل.
فمثلًا عند تقديم مقالي هذا كصورة من صور الأدب قائلًا فيه كلمة (تعريفة)، فهي حتى الآن موجودة في المعجم اللغوي المصري، لكن كلمات مثل (ماو) و (شاو) كانت في فترة ما ذات فائدة لناطقيها، لكن الآن اختفت من القاموس الشعبي للشباب، لتحل محلها كلمات أخرى مثل (قشطة) و (فشخ). إذًا فاستخدام مصطلحات ذات فترة صلاحية محدودة، تجعل أدبها نفسه محدودًا، وركيكًا إن شئتم الدقة.
وهذا رجائي من الكتّاب الشباب، أو البالغين المقدمين أعمالًا للشباب: قدموا أعمالًا متكاملة، اخلقوا عوالم دقيقة بحثتم خلف مفرداتها جيدًا، واسردوا بأساليب لا تحط من شأنكم، وتقدم للقرّاء الشباب وجبات أدبية دسمة فعلًا.
ليس بالضرورة أن تقدموا عبرة، ليس بالضرورة أن تطرحوا فكرة توافق عليها تعاليم الأسرة والمجتمع الشرقي المتذمت، لكن بالضرورة أن تطرحوا عملًا يضمن لكم مكانة في المستقبل، حتى وإن كانت مكانة قد يُقلب صاحبها بـ (الذي قدم عملًا ندم عليه فبات من العظماء).
لك أيضًا:
- في أعقاب أسبوع الكتب الممنوعة: أشهر الروايات العربية المحظورة من النشر
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.