تريند 🔥

📺 Netflix

عن الفن وصناعة المحتوى .. لماذا تنتشر البضاعة الفاسدة في الوطن العربي؟

المحتوى العربي و الفن
محمد إبراهيم جاد الله
محمد إبراهيم جاد الله

9 د

تختلف جودة صناعة الفن من مكانٍ إلى مكان، ومن زمانٍ إلى زمانٍ، كما يختلف تقبل وذوق الجمهور لهذا الفن حسب العديد من الظروف والأسباب، المعضلة هنا لا تتوقف على عملية إخراج عمل فني جيد فقط، بل تتوقف على مدى التوافق الحادث بين جميع العناصر المشاركة في عالم الفن وهنا أقصد الفنان والأدوات والجمهور أو “المستقبِل”، وفي هذا المقال سأوضح رأي الشخصي عن أزمة صناعة وانتشار العمل الفني الفاسد.

صناعة المحتوى في العالم العربي

العصر الحديث ومتطلباته

عالمنا المعاصر وما فرضه علينا

في بداية المقال يجب أن نعرف شكل وماهية العالم الذي نعيش فيه، ويمكن بسهولة ملاحظة السمات التي تميز القرن الواحد والعشرين بالنظر حولنا، عالم معقد مليء بالمشاغل والأعمال، الشركات والسيارات حولنا، كل إنسان لديه ألف عمل يقوم به ويشغله، هناك دراسة- تعليم- بشكل دائم تقريبًا، وهناك عمل، وهناك حياة أسرية، وهناك ألعاب إلكترونية، وهواتف تعطينا جميع الخيارات التي يمكننا من خلالها قتل أوقات الفراغ الصغيرة التي يمكن اختلاسها من العالم في لحظة شرود، ويمكن التأكيد في هذه الفقرة على مقولة “هذا العصر هو عصر السرعة”.

صناعة المحتوى

بيتهوفن أشهر الموسيقين عبر التاريخ

أزمة التعامل مع الفنون الرفيعة في عالمنا المعاصر

دعونا نبدأ الحديث في هذه الفقرة عن الشعر والأغاني، ما هو الخيار الأفضل لسماع أغنية حديثة، مهرجان مثلًا أم سماع معلقة امرؤ القيس “قفا نبكي”؟ أو حتى سماع أشعار الغزل لعمر بن أبي ربيعة؟ ربما يبدو الجواب بديهيًا ولا يحتاج للتفكير بالطبع إذا عُرض الاثنان سنختار معلقة امرؤ القيس، بل قد يتردد الإنسان البسيط ويختار الشعر القديم على مهرجان عصري عند السؤال المباشر، لكن إذا تركنا كل إنسان بحريته في وطننا العربي فالإنسان البسيط سيختار سماع مهرجان على سماع فحول الشعر العربي قديمًا وحديثًا.

لنترك الشعر والأغاني لحظات ونذهب لمثال آخر، فالجدل في الشعر والأغاني يمكن أن يأخذنا إلى طرق تنحرف بنا بعيدًا عن هدف المقال ومراده، لنتكلم عن الموسيقى، هل تختار سماع سيمفونية الفصول الأربعة لفيفالدي أو السيمفونية الخامسة لبيتهوفن أم تسمع موسيقى حديثة بإيقاعات صاخبة وراقصة مثل الموسيقى المنتشرة على  “التيك توك” وغيره من المواقع، وهنا أيضًا يجيب علينا الواقع بوضوح إجابة قاطعة وصارمة لا يذهب أحد لبيتهوفن وفيفالدي ويترك في سبيلهما موسيقته الجديدة البسيطة.

أعتقد أن الفكرة أصبحت أكثر وضوحًا الآن، على الرغم من أننا نكاد نجزم بالبديهة أن هناك مراتب وطبقات للفن وهناك عمل فني فوق آخر إلا أننا لا نذهب للعمل الأرقى والأفضل، وكما قلت سابقًا يسهل معرفة هذا بمجرد النظر حولنا سواءً النظر ورؤية مستوى الأغاني أو الموسيقى، أو حتى تفضيلات الأفلام والكتب، وعلى الرغم من أن هذه المسألة تبدو غريبة، إلا أننا سنجد فيها الكثير من المنطق عند شرح الأسباب وتوضيحها.

صناعة المحتوى

شكسبير أشهر الكتاب عبر التاريخ

المعرفة اللازمة للتعامل مع الفنون

للإجابة على السؤال المحوري في هذا المقال وهو سبب توجهنا إلى الفنون الرديئة وانتشارها، يجب أن نعود مرة أخرى للأسئلة والاختيارات والتفضيلات السابقة، لكن بدلا من عملية التخير دعونا نذهب إلى أبعد من السؤال المباشر ونقول ما الذي تحتاجه لسماع أو قراءة امرؤ القيس وما الذي تحتاجه لسماع مهرجان حديث؟ ما الذي تحتاجه لسماع سيمفونية الفصول الأربعة وما الذي تحتاجه لسماعة موسيقى حديثة سهلة الهضم؟

لمعالجة معلقة الملك الضليل والتعامل معها يجب عليك الإلمام ببعض الأشياء، أولًا عليك معرفة لغة العرب وأسرارها ودلالة الألفاظ والمعاني، ثانيًا عليك معرفة دقائق البلاغة، ومطالعة الشروحات النحوية، ثالثًا يجب أن تحيط علمًا بالظروف التي كتبت فيها هذه القصيدة، متى كتبت؟ ومع من؟ وما هو المكان المتخيل الذي يُعتقد أن امرؤ القيس قد كتب فيه معلقته، يفضل أيضًا أن تعرف تفاصيل هذا الملك الكبير وكيف آلت به الحياة إلى الهروب من الموت وتذكر ذكرياته وأيام فرحه، حتى كثر الشجون والحزن في نفسه وجرى الشعر على لسانه ليخفف حمله ومشاكله.

وهكذا أيضًا سيمفونية الفصول الأربعة فعلى الرغم من أنك ستستمتع بها إلا أن الاستمتاع سيزيد عندما تعرف متى قام فيفالدي بكتابة وتأليف سيمفونية “الفصول الأربعة” وستزيد هذه المتعة عند معرفة أسرار كتابة الموسيقى وتعقيداتها، كما ستجد أن عملية سماع الموسيقا ستتغير تمامًا عندما تعرف أن فيفالدي كتبها ليحاكي الفصول الأربعة حقيقة ستسمع أوراق الشجر وزقزقة العصافير، كما ستسمع ذهاب الربيع، ودخول الخريف، وأمطار الشتاء، كل هذه التفاصيل الصغيرة ستسمح لك بالتعامل بشكل مختلف مع السيمفونية، وكلما عرفت أكثر كلما تغيرت نظرتك للسيمفونية.

دعونا نجيب الآن على الشق الثاني من السؤال ماذا تحتاج لسماع موسيقى بسيطة ورديئة؟ الإجابة لا شيء، ماذا تحتاج لمتابعة رواية جديدة مبتذلة يمكنك أن تعرف أحداثها ونهايتها من الصفحة الأولى؟ الإجابة لا شيء، وهكذا الأمر في كافة مجالات الفن تحتاج مع الفن الراقي والجيد إلى الكثير من المعرفة والتعلم، أما الفن البسيط والسهل والذي لا يمكن أعتباره فنًا جيدًا فيمكن لأي أحد أن يسمعه بدون أي معرفة تمهيدية.

لوحة جورنيكا لبيكاسو.. من أشهر الأعمال الفنية في العصر الحديث

لماذا نذهب للفنون والمحتويات الرديئة؟

يوجد للفن الكثير من التعريفات وتعتبر تعريفات الفن من الأشياء المثيرة للجدل، أما أنا فأضع تعريفًا بسيطًا للفن وهو “الفن هو الشيء القادر على إثارة دهشة الإنسان”، وإذا عقدنا مقارنة بشكل عام سنجد أن الفن الجيد هو الذي يعبر عن الإنسان ويصل إليه بسرعة ويؤثر عليه، ويجعله شخصًا أفضل وأكثر انفتاحًا وتقبلًا للآخر، كما يجعله أكثر قدرة على مواكبة الحياة والتأقلم ورؤية الموقف الواحد برؤى مختلفة، الفن الجيد يفتح للإنسان آفاق جديدة ويجعله مرهف الحس، وأكثر إنسانية.

لكن يتضح من النقاط السابقة أن التعامل مع الفن الجيد ليس بالأمر السهل، والإنسان يحتاج إلى الكثير من التعلم والمعرفة حتى يستطيع التعامل مع الفنون الجيدة والاستمتاع بها، وبالرجوع للفقرة الأولى في المقال وتذكر سمات عصرنا الحالي سنجد أنه من الصعب أن نوفر وقتًا لمحاولة التعامل مع الفن الجيد والاستمتاع به، الحياة مليئة بالأعمال والمشاغل، والوقت القليل الذي يبقى من الممكن أن نستمع فيه- بسرعة- إلى أي أغنية أو قراءة أي كتاب يسهل هضمه، أو مشاهدة فيلم بسيط لا يحتاج إلى تعقيدات وإلى شروحات في طرق كتابة السيناريو والإخراج والتمثيل.

صناعة المحتوى

فيفالدي صاحب سيمفونية “الفصول الأربعة”

التضحية.. الحل الأمثل والوحيد

قد يجد بعض الناس مبالغة في هذا الكلام ويمكن أن تكون نظرتهم صحيحة في نطاق ضيق، فعلى سبيل المثال يمكن للشخص الذي سيقرأ رواية سريعة وبسيطة أن يقرأ رواية لنجيب محفوظ أو دوستويفسكي ولن يحتاج إلى كل المعرفة التمهيدية التي أتحدث عنها، وهذه النقطة حقيقية لكني هنا أتحدث عن الفن بشكل عامل وبكل صوره، كما أتحدث عن المعرفة العميقة، والتعامل الجيد مع الفنون وبناء خبرة وذائقة فنية فردية ومجتمعية جيدة، لذلك لا يمكن هنا الاعتماد على التعامل البسيط والقليل مع الفن الجيد.

للتعامل مع الفنون يجب عليك تقديم بعض التضحيات، ويعتبر الوقت هو أهم هذه التضحيات فأنت تحتاج إلى بعض الوقت بشكل دوري حتى تطالع ما تحبه من الفنون، ومع مرور الوقت ستجد أن هذا الوقت يأتي على حساب أشياء أخرى مهمة فالوقت الذي ستنهي فيه رواية يمكن أن تعمل فيه وتكسب المال، أو يمكن أن تذهب في رحلة مع أحد أصدقائك، وهنا ستجد نفسك أمام تضحيات أخرى يجب أن تقدمها، لا أتحدث عن إفساد حياتك من أجل مطالعة الفنون، بل أتحدث عن ترك الفنون بشكل كامل من أجل الهرولة خلف الحياة وتفاصيلها.

في حياتي أنا الكثير من الأصدقاء الذين قرروا ترك معظم ما تقدمه الحياة من أجل الفنون فقط، أعرف صديقًا ترك دراسته وصديقًا آخر ترك عمله وذلك من أجل التفرغ للفنون وممارستها، وهذا الأمر جيد إذا كان هذا قرارك، وإذا كنت ستحصل على مال كافٍ يضمن لك حياة جيدة، أما غير ذلك فلا أنصح بالذهاب لهذا التطرف بل يكفي أن تضع خطة وتقسم أوقات فراغك وترى ما الذي يمكنك فعله في هذا الوقت مع المجال الفني الذي تحبه.


لماذا الوطن العربي؟

وضعت الوطن العربي خصوصًا في العنوان للعديد من الأسباب أولها المشاكل التعليمية، وتأخر الدراسات الأكاديمية، وانتشار الجهل والأمية بشكل عام، وكلما قل التعليم أصبح التعامل مع الفن أصعب، على سبيل المثال أمامنا كاتب كبير مطلع على الأدب العالمي والفلسفة والشعر العربي والعلوم، وهذا الكاتب يقوم باستعمال معلوماته في كتابة عمل جيد بالتأكيد سيتأثر أسلوب الكاتب بما يطالعه، وكلما أصبح أسلوب الكاتب أكثر تعقيدًا، كلما احتاج إلى قارئ أكثر ثقافة وعلمًا، لذلك سيسهل تقديم فن جيد في دول متعلمة بشكل جيد من الأساس.

صناعة المحتوى

الكاتب المصري نجيب محفوظ

الفنان الجيد والفنان السيئ

لا تقتصر الأسباب والعوامل المذكورة سابقًا على الجمهور -المتلقي- فقط بل تشمل هذه العوامل الفنان ذاته، وكلما أصبح الفنان أكثر دراية وعلمًا، أصبح قادرًا على إخراج أعمال جيدة، والاعتراض على هذه النقطة بحجة أنه من الممكن أن يكون هناك فنان لديه من الموهبة الفطرية ما يغنيه عن الاطلاع على أي شيء يعتبر نقدًا ضعيفًا ولا يمت للواقع الإنساني بصلة، إذا كنت لا تعرف كتابة نوتة موسيقية لن تصبح بيتهوفن، وإذا كنت لا تعرف القراءة والكتابة فلن تصبح شكسبير.

ومن هنا يمكننا القول أن عملية المعرفة والتعلم، والتدريب والصبر تشمل الجمهور والفنان، لكن المشكلة أن عملية إيجاد فنان جيد لا تعتبر صعبة بقدر إيجاد جمهور جيد، فالفنان هو حالة فردية يمكن أن ينشأ كوردة حمراء في أرض بور، أما الجمهور فالأمر صعب لأننا هنا نعتمد على الوعي الجماعي للمجتمع، والمشكلة أن الفن ينتشر حسب رغبة وحب الجمهور لا الفنان، ولهذا السبب نجد أنه في المجتمعات المتأخرة والتي لا تهتم بالثقافة العامة لا تنتشر فيها الفنون الجيدة حتى لو هناك فنان جيد.

صناعة المحتوى

دوستويفسكي و فكتور هوجو وماركيز

أرتقي وحيدًا

السبب الآخر الذي أراه يساعد في انتشار الفنون الرديئة هو سبب نفسي يتعلق بالوحدة والتواجد في جماعات؛ تبدأ هذه المشكلة عندما تقرر ترك الفنون المنتشرة السيئة والذهاب للفن الجيد، وهناك ستجد نفسك وحيدًا، لن تستطيع أن تهرول إلى أحد مثلما كنت تفعل لتطلعه على الفيلم الذي أنهيته أو الكتاب الذي تقرأه، وذلك لأنك تعلم أن هؤلاء الأشخاص لا يهتمون بهذه الأعمال، على سبيل المثال يسهل إيجاد أشخاص يستمعون إلى المهرجانات، لكن يصعب إيجاد أشخاص تسمع الأغاني والمعزوفات الكلاسيكية.

ذو صلة

هذا الشعور بالغربة والوحدة يجعل الإنسان يبحث عن أكثر الأشياء المنتشرة في المجتمع لأنه بهذه الطريقة سيشعر أكثر بالانتماء، كما سيسهل الحصول على الأصدقاء والحديث مع الناس، لكن الجيد أن هذا المقال يكتب وقت انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت تساعدنا بشكل كبير على إنشاء مجتمعات صغيرة يتشارك أفرادها نفس الاهتمامات والأفكار، وأعتقد أن هذا هو الحل الأمثل، أن تبدأ في الاهتمام بفن معين وتصبر عليه، وتحاول أن تعقد صداقات مع أشخاص يمتلكون شغفًا تجاه نفس الاهتمام إن لم يكونوا في الواقع فيمكن لمواقع التواصل المساعدة.

وهكذا أكون قد عرضت كافة النقاط التي أراها توضح أسباب انحدار الفنون في وطننا العربي، قد يأتي أحد الأشخاص ويعترض على هذا الكلام بحجة الأذواق الفنية، وأنا لا أختلف معه، لكني أتكلم عن الفن بشكل عام وبدون تعقيدات فلسفية، ولا أتحدث عن شخص لم يجرب سوى نوع واحد من الفنون ثم يهاجم الباقي ليشعر أنه على الطريق الصحيح، وعند الحديث عن الفن الجيد فأنا أتحدث عن مهتم حقيقي وليس فرد يرغب في إظهار اسمه عن طريق الانتماء لأنواع معينة من الفنون، وختامًا لا توجد مشكلة في أن يجرب الإنسان كافة أنواع ومراتب الفن، لكن المشكلة في أن يستمر في أبسط الأنواع وأكثرها ابتذالًا فقط.

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة